التفاسير

< >
عرض

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
٥
بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ
٦
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٧
فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
١٠
هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
١١
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
١٣
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
١٤
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٥
سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
-القلم

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ }.
قال جعفر بن حرب: { ٱلْمَفْتُونُ } في هذا الموضع هو المفتون بضلالته، المعجب بخطئه المشغوف بجهله.
وقال الحسن: { ٱلْمَفْتُونُ } هو الذي معه الشيطان.
وقيل: { ٱلْمَفْتُونُ } من به الفتنة كما يقال: فلان لا معقول له، أي: ليس له عقل.
وقيل: { ٱلْمَفْتُونُ }: المعذب؛ كقوله - عز وجل -:
{ يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } [الذاريات: 13] أي: يعذبون؛ فكأنه يقول: ستعلمون أيكم المعذب؟ وأيكم الضال؟ إن حمل على ما ذكر الحسن، وأيكم المغتر إن كان معناه على ما ذكروا أن المفتون من الفتنة.
وجائز أن يكون نسبوه إلى الاغترار فيما كان يدعي من الرسالة، ويزعمون أنه مغتر بها، ويغر بها غيره كما قال المنافقون:
{ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [الأحزاب: 12]، فحق هذا عندنا ألا يتكلف تفسيره؛ لأنه قال: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ }، فذكر هذا جوابا عما وقعت فيه الخصومة، فكانوا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المفتون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنهم هم المفتونون، فخرج هذا جوابا عن تلك الخصومة: أنهم وأنت ستبصرون، وقد وقعت الخصومات من أوجه:
فمرة كانوا يدعون أنه ساحر، ومرة [كانوا] يدعون أنه مجنون، ومرة بأنه ضال، ومرة أنه مفتر وغيرها من الوجوه، فإذا ثبت أن الآية نزلت في حق الجواب فما لم يعلم بأن الخصومة فيم كانت، لم يعلم إلى ماذا يصرف الجواب، والله أعلم.
ويشبه أن تكون الخصومة الواقعة في الضلال والهدى، فكانوا يدعون أنهم على الهدى، وأنهم بالله أحق وإليه أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي أنهم على الضلال، وأنه على دين الحق والهدى، يدل على ذلك ذكر الضلال والهدى بعد ذكر المفتون، وهو قوله: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }.
ثم هذه الآيات كأنها نزلت جوابا من الله تعالى عما كان يحق لمثله الجواب [عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] ولكن الله تعالى لما امتحن رسوله صلى الله عليه وسلم بالعفو والإعراض عن المكافأة في الجواب، تولى الله تعالى الجواب عنه بقوله - تعالى - { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ }، [أي: قد تعلمون أن ربكم أعلم] { بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }، وسنبين لكم ذلك.
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ }، وقال في موضع آخر:
{ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان: 24]، ليس في قوله: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } أمر من الله تعالى بأن يطيع المصدقين؛ لأن من صدقه وآمن به [لا يجوز له] أن يتقدم بين يديه فيأمره أو ينهاه عن أمر، ويدعوه إلى الطاعة، بل ينظر إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه؛ فيأتمر بأمره، ويطيعه فيما يدعوه إليه، وأما من كذبه، فقد يدعوه إلى طاعته؛ فخص ذكر المكذب عندما نهاه عن طاعته؛ لأن الدعاء إلى الطاعة لا يوجد من المصدق دون أن يتضمن قوله: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } أمرا بطاعة المصدق؛ وهو كقوله - تعالى -: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [الإسراء: 31]، فليس فيه أنه إذا لم يخش الإملاق يسعه قتله، ولكنه خص تلك الحالة؛ لأن تلك الحالة هي التي كانت تحملهم على القتل، ولم يكونوا يقدمون على القتل عند الأمن من الإملاق، وفي هذا دلالة إبطال قول من قال بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما غايره بخلافه، والله أعلم.
وقوله: { ٱلْمُكَذِّبِينَ } هم المكذبون بآيات الله تعالى أو بوحدانيته أو برسله أو بالبعث.
ثم يجوز أن يكون هذا الأمر منهم في أول الأحوال؛ فكانوا يطمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإجابة لهم فيما يدعونه إليه؛ إذ كانوا يرجون منه الموافقة لهم بما يبذلون له من المال؛ فيكون النهي راجعاً إلى ذلك [الوقت]، فأما بعدما ظهرت منه الصلابة في الدين والتشمير لأمر الله تعالى فلا يحتمل أن يطيعهم أو يخاف منهم ذلك فينهى عنه.
وجائز أن يكون دعاؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر من قوله: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } والمداهنة هي [الملاطفة والملاينة] في القول.
ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر آلهتهم بالسوء ويسفههم بعبادتهم إياها ويسفه أحلامهم ويجهلهم، وهم لم يكونوا يجدون في رسول الله صلى الله عليه وسلم مطعنا؛ فكانوا ينسبونه إلى الكذب مرة وإلى الجنون ثانيا وإلى السحر ثالثا، وكانوا يتخذونه هزوا إذا رأوه، وكانوا يطعنون فيه من هذه الأوجه بإزاء ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسفههم ويذكر آلهتهم بسوء، مع علمهم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } [الأنعام: 33]، فأخبر - تعالى - أنهم ليسوا يكذبونه لما وقفوا منه على الكذب، بل قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق، ولم يكونوا وقفوا منه على كذب قط، وإنما الذي حملهم على التكذيب واتخاذهم إياه هزوا ذكر آلهتهم بسوء، وكذلك قال: { وَإِذَا رَآكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } [الأنبياء: 36]، فكانت معاملتهم هذه مجازاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }.
يخرج على هذا - إن شاء الله تعالى -: هو أنك لو تركت ذكر آلهتهم بسوء، ولم تسفه أحلامهم؛ لامتنعوا هم أيضاً عما هم عليه من نسبتهم إياكم إلى الجنون والسحر والكذب وغير ذلك، ولكنه كان يذكرهم [بما يذكرهم] وهو في ذلك محق، وهم كانوا يذكرونه بما قالوا بالباطل والزور؛ فيكون قوله: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } فيما يدعونك إلى المداهنة، ثم هم لو داهنوا كانوا في مداهنتهم محقين، فإذا تركوا ذلك فقد تركوا الحق الذي كان عليهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لو داهنهم، لم يكن في مداهنتهم محقّاً؛ فلذلك نُهِي عن المداهنة.
وقال بعض [أهل التفسير]: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }، أي: لو ترفض ما أنت عليه من الدين؛ فيرفضون ما هم عليه من الدين؛ وهذا لا يستقيم؛ لأنه إذا رفض ما هو عليه من الدين كفر، وهم لو تركوا ما هم عليه، صاروا مسلمين، [فيبقى بينهم الاختلاف] الذي لأجله دعوا إلى المداهنة وودوها.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ }.
قيل: إن هذه الآيات نزلت في واحد يشار إليه، وهو الوليد بن المغيرة المخزومي، وفيما يشار إلى واحد لا يطلق فيه لفظة "كل" فيقال: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ }، والحلاف المهين ليس إلا واحداً، ولكن معناه: ولا تطع هذا ولا كل من يوجد فيه هذه الصفة، ثم ذكر المرء بقوله: { حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } يخرج مخرج الهجاء والشتم في الشاهد؛ لأن ذكر المرء بما هو عليه من ارتكاب الفواحش والمساوى تهجينٌ [له] وشتم، وجل الله ورسوله [أن يقصدوا إلى شتم إنسان]، فالآية ليست في تثبيت فواحشه، وإنما هي في موضع التوبيخ والزجر عن اتباع مثله، وذلك أنه كان من رؤساء الكفرة، وممن بسطت عليه الدنيا؛ فكان القوم يتبعونه وينقادون له فيما يدعوهم إلى الصد عن سبيل الله، فذكر الله تعالى فيه هذه الأشياء، وأظهرها للخلق؛ ليزهدهم عن اتباعه؛ إذ كل من كانت فيه هذه الأحوال، لم تسْخُ نفس عاقل باتباعه، ولا احتمل طبعه طاعة مثله؛ فلا يتمكن من صد الناس عن سبيل الله تعالى، فكان في ذكره بالعيوب التي هي فيه زجر الناس عن طاعته؛ فذكرها لإثبات هذا الوجه، لا أن يكون فائدتها تحصيل الشتم والهجاء؛ وكذلك ذكر أبا لهب بالتب والخسار وما هو عليه من الفواحش؛ ليزجر الناس عن اتباعه.
وفي هذه الآيات دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الوجه الذي نذكره في سورة "تبت" إن شاء الله تعالى.
ثم قيل: المهين من المهانة، ومن المهنة، ومن [الوهن، وهو الضعف].
ثم قوله: { هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } جائز أن يكون استوجب المهانة؛ لكونه همازا مشاء بالنميم وبمنعه الخير واعتدائه؛ فيكون هذا كله تفسير { مَّهِينٍ }، فإن كان هكذا فقوله: { مَّهِينٍ } من المهانة هاهنا.
ثم لا يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى عليه طاعة من هذا وصفه، وأن يميل قلبه إليه، ولكن النهي لمكان غيره وإن كان هو المشار إليه بالذكر.
وجائز أن يكون قوله: { كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } تمام الكلام، ويكون قوله: { هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } على الابتداء؛ فكأنه يقول: لا تطع كل حلاف مهين، وكل هماز مشاء بنميم، وكل معتد أثيم، وكل عتل زنيم.
وتفسير الهمز يذكر في [تفسير] سورة الهُمَزَة، إن شاء الله تعالى.
والمشاء بالنميم: هو الذي يسعى في الفرقة بين الإخوان، ويقوم فيما بينهم بالقطيعة.
والمناع للخير: قال بعضهم: إنه كان يمنع أهل الآفاق مَنْ كان بحضرته عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه ضال مضل، فقيل: مناع للخير؛ لهذا.
ومنهم من ذكر: أنه كان يمنع ولده من الاختلاف إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجائز أن يكون منعه للخير هو امتناعه عن أداء [الحقوق التي لله] تعالى الواجبة في ماله.
وقوله - عز وجل -: { مُعْتَدٍ }.
أي: معتد حدود الله تعالى، أو ظالم لنفسه.
وقوله - عز وجل -: { أَثِيمٍ }.
الأثيم: هو المرتكب لما يأثم به.
وقوله - عز وجل -: { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ }.
العتل: الفظ الغليظ، والشديد الظلوم.
وقيل: هو الفاحش اللئيم الضريبة.
وقال مجاهد: العتل: الشديد الأشر، أي: الخلق، وقد روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري [ولا العتل الزنيم، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، وما الجواظ] والجعظري والعتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الجواظ فالذي جمع ومنع تدعوه لظى نزاعة للشوى، وأما الجعظري: فالفظ الغليظ؛ قال الله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }، وأما العتل الزنيم: هو الشديد الخلق، الرحيب الجوف المصحَّح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس" ، وأما الزنيم: هو الدعي الملصق بالقوم الملحق في النسب.
واستدلوا على ذلك بقول الشاعر:

زَنِيمٌ ليس يُعْرَفُ مَنْ أبوه؟ بَغِىُّ الأمِّ ذو حسب لئيم

ويقول آخر:

زَنِيمٌ تَداعاه الرجال زِيادَة كَمَا زِيدَ في عرْض الأدِيم الأكَارعُ

ومنهم من قال: إنه كانت به زنمة في أصل أذنه يعرف بها.
ومنهم من يقول: الزنيم: هو العلم في الشر.
ولقائل أن يقول: إذا كان تأويل العتل ما ذكر في الخبر، ومعنى الزنيم: الدعيّ أو ما ذكر من العلامة، فكيف عير بهذه الأشياء، ولم يكن له في ذلك صنع، والمرء إنما يعير بما له فيه صنع لا بما لا صنع له فيه؟!
فيجاب عن هذا من وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا: أن ذكره بما فيه من العيوب ليس لمكان المذكور نفسه، ولكن لزجر الناس عن اتباعه؛ لأن من اشتمل على العيوب التي ذكرها، وكان مع ذلك عتلا زنيما، فأنفس الخلق تأبى عن اتباعه، ففائدة تعييره بما أنشئ عليها ما ذكرنا من الحكمة لا تعييره.
والثاني: أن ذكر أصله كناية عن سوء فعله؛ ليعلم أن خبث الأصل يدعو الإنسان إلى تعاطي الأفعال الذميمة، وصحة الأصل و [حسنه ونقاوته] يدعو صاحبه إلى محاسن الأخلاق وإلى الأفعال المرضية.
وقوله - عز وجل -: { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ }.
فيخبر أن من يتبعه، يتبعه لكثرة أمواله وبنيه؛ وذلك لأن كثرة المال للإنسان مِنْ أحد ما يستدعي قلوب الخلق إلى تعظيمه، فذكر ما فيه من العيوب والمساوى؛ لئلا يستميل قلوب الضعفة إلى نفسه بماله، فيقول: كيف تتبعونه وهو بهذا الوصف الذي وصفه الله تعالى؟!
ثم أخبر عن معاملته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }، ثم قوله: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }، وإن كان عامّاً بظاهره، لكن لم يرد به العموم؛ لأن [قوله:]
{ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [الأنعام: 25] ليس في كل الآيات، وإنما هو في الآيات التي هي في حق الإخبار عن الأمم السالفة، وأما إذا تليت عليه الآيات التي فيها دلالة إثبات الرسالة ودلالة التوحيد ودلالة البعث، فقوله فيها ما قال في سورة المدثر: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } [المدثر: 24-25]، وهذا دليل على أنه لا يجب اعتقاد ظاهر العموم ما لم يعلم بيقين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }.
قيل: شَيْناً لا يفارقه، فجائز أن يكون جعل هذا في الدنيا؛ لكي يعلمه ويذكره من رآه فيجتنب صحبته؛ فهو يصير شينا من هذا الوجه؛ فيخرج هذا مخرج العقوبة لشدة تعنته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم أذاه له.
وجائز أن يكون هذا في الآخرة، فيجعل الله تعالى في أنفه علما يتبين به، ويمتاز من غيره يوم القيامة؛ زيادة له في العقوبة، كما جعل لآكلي الربا يوم القيامة علما يعرفون به، وذلك قوله:
{ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [البقرة: 275].
وجائز أن يكون: نسم خرطومه خصوصا له من بين الكفرة، فيحشره ولا أنف له؛ لأنه ذكر أن سائر الكفرة يحشرون يوم القيامة [عميا وبكما] وصما، ولم يذكر في أنوفهم شيئاً، فجائز أن [يكون] يحشر ولا أنف له، وذلك هو النهاية في القبح، والله أعلم.