التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ
١٣
وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً
١٤
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١٥
وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ
١٦
وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
١٧
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ
١٨
-الحاقة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } فكأنهم سألوا: متى تكون الواقعة والحاقة والقارعة؟ فأخبر عن ذلك بقوله: { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ * وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ }، فجوابهم في قوله: { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [ثم] قد بيّنا أن الأسئلة كلها خرجت [على بيان الوقت، والله - تعالى - لم يبين لهم وقت كونه، وإنما أجاب] عن الأحوال التي تكون في ذلك الوقت؛ لما لا فائدة لهم في تبيين وقته، ولا حاجة إلى معرفته، وإنما الفائدة في تبيين أحواله؛ لما يقع بها الترغيب والترهيب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } فجائز أن يكون على حقيقة النفخ.
واحتمل أن يكون على قدر نفخة واحدة؛ فتكون فائدته ذكر سهولة أمر البعث على الله - تعالى - لأنه قدر النفخة مما يسهل على المرء في الشاهد، ولا يتعذر.
وجائز أن يكون ذكر النفخ؛ لما أن الروح تدخل في أجسادهم، وتنتشر فيها، وذلك عمل النفخ؛ لأن الريح إذا نفخت في وعاء سرت فيه وانتشرت، فكنى عن دخول الروح في الجسد بالنفخ؛ إذ ذلك عمله، وكنى بالنفخ عن خروج الروح من الأجساد لهذا، وعلى هذا تأويل قوله:
{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12] ليس على حقيقة النفخ؛ ولكن عمل الروح فيها عمل النفخ، فقيل ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فِي ٱلصُّورِ } قيل: الصور: هو القرن ينفخ فيه النفخة الأولى؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ [فيه] مرة فإذا هم قيام ينظرون.
ومنهم من يقول: أي: نفخ الروح في صور الخلق؛ لكن جمع الصورة: الصور، بنصب الواو؛ فلا يحتمل أن يكون المراد منه: جمع الصورة، لكنه يجوز أن يكون الله - تعالى - جعل نفخ الصور سبباً لإفنائهم وإحيائهم، لا أنه يعجزه شيء عن الإفناء والإحياء ما لم ينفخ في الصور، لكنه جعله سبباً لنوع الحكمة والمصلحة أو لمحنة ذلك الملك والابتلاء؛ على ما عرف من أنواع المحن في الملائكة من إنزال المطر، وتسيير السحاب، وجعلهم الموكلين على أعمال بني آدم، وغير ذلك.
وقوله: { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } كسرتا كسرة واحدة.
وقيل: هدمتا هدمة واحدة.
وقال بعضهم: زلزلتا زلزلة واحدة؛ فكأنه يقول - والله أعلم -: تتزلزل الأرض، فتقذف ما في بطنها من الفضول، وتخرج ما فيها من الجواهر التي ليست منها بتلك الدكة، وتخرج أصول الجبال منها، ثم يجعله الله - تعالى - كثيباً مهيلاً مثل الرمل، ثم يُعْمِل عليه الريح فيجعله هباء منثوراً، وتراه من لينه كالعهن المنفوش، ثم يسير مثل السحاب، فيقع في شعاب الأرض والأودية والأماكن المختلفة؛ فتصير الأرض كما قال - تعالى -:
{ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [طه: 106-107]، وهكذا الريح إذا عملت على شيء وتقع عليه، تفرقه في النواحي، وتسوي به الشقوق، وتبسطه على وجه الأرض.
وقوله - عز وجل -: { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ } ليس أنها تحمل من مكان إلى مكان، ولكن تدخل هذه في هذه، وتضرب هذه على هذه بالدكة؛ فتصير كأنها حملت لذلك، وإذا كان كذلك، فقد وقعت الواقعة يومئذ، وهذا على اختلاف الأوقات؛ ليكون معنى الآيات التي جاءت في الجبال على السواء، والله أعلم.
وقيل: في آيات أخر بيان آخر: بيان تقديم فناء الجبال قبل الأرض بقوله:
{ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا } [طه: 105-106]، أي: يذر الأرض { قَاعاً صَفْصَفاً } [طه: 106] وغيرها من الآيات؛ مما يدل على تقديم فناء الجبال قبلها، فإما أن يكون معنى تبديل الأرض تغييرها عن الحالة التي هي عليها اليوم من انهدام البنيان، واستواء الأودية، وإزالة الجبال؛ على ما جاء في الأخبار، فسمي لذلك: تبديلاً؛ كما يقال لمن تغير عن الحالة الحسنة إلى غيرها: تبدلت، يراد: [أي: تغيرت عن حالتك]؛ فعلى ذلك معنى الآية؛ أي: تكسر الجبال، وتتغير حالة الأرض في دفعة واحدة.
أو يكون في الآية إخبار عن شدة الفزع في ذلك اليوم أن [يدكه دكة] واحدة؛ تفني الجبال والأرض، وإن كان إفناء الجبال قبل إفناء الأرض، ليس أنهما يفنيان جميعاً بدفعة واحدة، لكن بالدكة الواحدة تهلك الجبال والأرض؛ فيكون المراد بيان شدة اليوم وهوله؛ لا بيان ترتيب فناء البعض على البعض، والله أعلم.
وقوله - تعالى -: { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } وهو الحساب والجزاء؛ كقوله:
{ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌ } [الذاريات: 6] وأدخلت الهاء في أسماء القيامة تعظيماً لشأنها.
وقوله - عز وجل -:{ وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } قال بعضهم: تفرقت، وهكذا الشيء إذا انشق تفرق وتباين، وبه يظهر الشق.
ويحتمل أن يكون الشق كناية عن اللين؛ أي: لين بعد صعوبتها، دليله:
قوله - عز وجل -: { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } أي: ضعيفة بعدما كانت تنسب إلى الصلابة، ويدل على ذلك قوله:
{ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء: 104] وإنما يطوي الشيء في الشاهد بعدما يلين في نفسه.
وجائز أن تنشق السماء لنزول أهلها، فلا يبقى فيها إلا الملائكة الذين على أطرافها، ثم تنضم [فتبين] للطي، والله أعلم.
وجائز أن يكون ذكر [انفطارها وانشقاقها وانفتاحها؛ تهويلاً للخلق من الوجه الذي ذكرنا فيما قبل.
وجائز أن تكون للسماوات أبوابٌ، فتفتح أبوابها؛ فيكون] انشقاقها وانفطارها فتح أبوابها.
وجائز أن يكون الشق ليس فتح الأبواب؛ لأنه ذكر هذا في موضع التهويل، وليس في فتح أبوابها كثير تهويل.
وقوله: { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } أي: ضعيفة مسترخية.
وقيل: الوهي: الخرق، وهو يحتمل؛ لأنها إذا انشقت انخرقت.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } الأرجاء: النواحي والأطراف، وهي أطراف السماوات ونواحيها، وواحد الأرجاء: رجا، مقصور.
والملك أريد به الملائكة، أخبر أنهم على أطراف السماوات ونواحيها، فيحتمل أنهم وكلوا وامتحنوا بها وبحفظها بعد الشق؛ لئلا تسقط على أهل الأرض.
وجائز أن يجعل أطرافها وجوانبها لبعض الملائكة، فتفتح أبواب السماء فتنزل الملائكة الذين كان مسكنهم عندها إلى الأرض، كما قال - تعالى -:
{ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [الفرقان: 25] ويبقى الملائكة الذين كان مسكنهم في أرجائها ينتظرون أمر ربهم.
ثم الملك ليس يحتاج إلى مكان يقر فيه وإن جعلت السماء مسكناً لهم؛ لأن الملائكة ينزلون من السماء إلى الأرض، ويقرون على الهواء من غير أن يكون [في الهواء مقر].
والثالث: يبين أنها لا تتفرق كل التفرق، ولكن وسطها ينشق لما ذكرنا، والباقي بحاله.
ويحتمل: { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } على ما يمرّ به في السماء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } فيحتمل أن يكون الملائكة في النفخة الأولى يصعقون إلا الثمانية الذين يحملون العرش كما قال:
{ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [الزمر: 68]، فيكون هؤلاء الثمانية من الذين استثنوا؛ فلا يصعقون؛ فهم يحملون العرش؛ فتكون أمكنتهم على أرجاء السماوات، وهو قوله: { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ }.
وقوله - عز وجل -: { ثَمَانِيَةٌ } جائز أن يكون أراد به ثمانية أملاك.
وجائز أن [يكون أراد به] ثمانية أصناف من الملائكة، كما ذكر في التفسير.
وجائز أن يكون هؤلاء الثمانية يهلكون ثم يحيون قبل أن يحيا سائر الخلق، فيحملون عرش ربنا على أكتافهم، فإذا بعث الله - تعالى - الخلائق رأوا العرش على أكتافهم، والعرش هو سرير الملك.
وجائز أن يكون ذلك من نور، كما ذكر في الخبر: "أن عين الشمس إذا أرادت أن تطلع فإن جبريل - عليه السلام - يأتي العرش، فيأخذ كفّاً من ضيائه، ثم يلبس الشمس كما يلبس أحدكم قميصه، وإذا أراد القمر أن يطلع أخذ جبريل - عليه السلام - كفّاً من نور العرش، فيلبس القمر كما يلبس أحدكم قميصه"، فجائز أن يكون العرش من الضياء والنور.
ثم أجل الأشياء وأعظمها في أعين الخلق الضياء والنور، وإليهما ينتهي الرغب؛ فيكون في ذكر العرش ذكر عظيم عرش الرب وملكه جل جلاله.
ثم إن كل ملك في الشاهد يتخذ لنفسه عرشاً، يتفاوت ذلك على مقدار ملكهم وسلطانهم لا ليجعل ذلك مسكناً لنفسه، فإذا لم يتوهم من الخلق أنهم يتخذون ذلك لمقاعدهم ومجالسهم فلأن لا يتوهم ذلك من الله أولى.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } [أي: تعرضون على أعمالكم فلا تخفى عليكم خافية]، أي: يظهر لكم في ذلك اليوم، ويصير بارزاً في ذلك اليوم، كما قال - تعالى -:
{ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق: 9] أي: تظهر لهم سرائرهم حتى يعرفوها، ولا يخفى عليهم شيء منها.
وجائز أن [يكون قوله]: { لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } أي: على الله - تعالى - ولكن كل من ادعى إخفاء شيء من أمره على الله - تعالى - وظن أن الله - تعالى - لا يطلع عليه، فسيعلم في ذلك اليوم أنه لا تخفى عليه خافية، وهو كقوله - تعالى -
{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] ليس فيه أن الملك كان لغيره، ولكن بعض الناس كانوا يدعون الإشراك في الملك في الدنيا، فيتركون في ذلك اليوم دعواهم، ويتيقنون أنه هو المنفرد بالملك، وعلى ذلك قوله - تعالى - { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [إبراهيم: 21] ولم يكونوا بمختفين عنه قبل ذلك؛ بل كانوا له في [كل] وقت بارزين، ولكن من أنكر ادعاء الإخفاء في الدنيا يدع في ذلك اليوم، ويقر بالبروز، والله المستعان.
ثم روي في الخبر
"أن العرضات ثلاث: عرضتان فيهما خصومات ومعاذير" ؛ أي: يختصمون ويتنازعون، فإذا ظهر ذلك جعلوا يعتذرون، ويسألون ربهم العفو والصفح عن ذنوبهم وخصومهم، و "العرضة الثالثة عند تطاير الصحف".
ومعنى قوله: { تُعْرَضُونَ } أي: يعرض الخلق بعضهم على بعض حتى لا يخفى على أحد خصمه.
أو تعرض أعمالهم حتى يذكر كل أحد صنيعه، وكل خصم خصومته؛ فكأنهم قد نسوا ذلك من كثرة الفزع وشدة الأهوال، لكن الله - تعالى - يطلعهم على ذلك حتى يذكروا ذلك، والله أعلم.