التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ
١٩
إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ
٢٠
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
٢١
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
٢٢
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ
٢٣
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ
٢٤
-الحاقة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } ظاهر ما جرى به الخطاب في القرآن يوجب أن يُرحم المؤمنون جميعاً فلا يعذبون في الآخرة، ويعذب الكافرون ولا يرحمون؛ لأنه قسم الخلق يوم القيامة صنفين: فجعل صنفاً [منهم أهل] اليمين، وصنفاً أهل الشمال، ثم وصف كل واحد من الصنفين بأعلام ثلاثة: فذكر مرة أنه يخف ميزانهم بقوله: { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } [المؤمنون: 103]، وذكر مرة أن وجوههم تسود، وذكر مرة أنهم يعطون كتابهم بشمالهم؛ فهذه الأعلام ذكرها في أحد الصنفين، وذكر في الصنف الثاني، ووصفهم بأعلام ثلاثة: ببياض الوجوه، وبثقل الميزان، وبإعطاء الكتاب بأيمانهم.
ثم فيما فيه سواد الوجوه ذكر فيه:
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [آل عمران: 106]، وكذلك حين ذكر خفة الميزان ذكر في آخره ما يبين أن الذين خفت موازينهم هم الكفرة؛ لأنه قال: { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [المؤمنون: 105]، وذكر فيه إعطاء الكتاب بشماله، وذكر فيه ما يبين أنه من أهل الكفر؛ لأنه قال: { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } [الحاقة: 33-34]؛ فثبت أن الوعيد المطلق ذكر في أهل الكفر، وكذلك قال: { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131] ولم يقل: أعدت للخلق، وقال: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133]؛ فثبت أن أهل النار هم الكفار، ثم المؤمنون قد تعرض منهم زلات ومآثم في هذه الدنيا، والكفار يوجد منهم المحاسن فيها، ولكن أهل الكفر يجزون جزاء حسناتهم في دنياهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وإذا لم يؤمنوا بها لم يقع سعيهم لها، وأمكن أن يكون المؤمن يجعل له العقاب بسيئاته في الدنيا فتخلص له الحسنات في الآخرة فيجزى بها.
وجائز أن تكفر سيئاته بالحسنات التي توجد منه؛ لأن المحاسن جعلت سبباً لتكفير المساوى؛ قال الله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114]، وإذا كفرت سيئاته في الدنيا، لم يعذب بها في الآخرة.
وجائز أن يكون الله - تعالى - يعذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يعفو عنهم [بحسناتهم التي] سبقت منهم من الإيمان، وغير ذلك، فكل مؤمن - في الحقيقة - [آخره الجنة]، ويثقل ميزانه، ويبيض وجهه، ويعطى كتابه بيمينه.
ثم يجوز أن يكون الذي يعاقب بذنوبه من أهل الإيمان يعاقب به قبل أن يعطى كتابه بيمينه، وقبل أن يبيض وجهه ويثقل ميزانه، وقبل أن يبيض وجهه، لم يكن مسود الوجه، ولكن على ما عليه في الدنيا.
ثم متى عفي عنه؟ في الخبر:
"أن الناس يعرضون يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي" ، فيجوز أن يكون تعذيبه قبل العرضة الثالثة، ثم يعطى كتابه في العرضة الثالثة بيمينه؛ فتظهر له أعلام السعادة إذ ذاك، [فإذا ثبت] أن الوعيد المطلق إنما جاء في أهل الكفر، لم يلحق أهل الكبائر من أهل الإيمان بهم في الحكم؛ بل وجب الوقف في حالهم؛ كما قال أصحابنا، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } قال بعضهم: { هَآؤُمُ } أي: تعالوا.
وقال بعضهم: "ها" بمعنى: هاكم؛ أي: خذوا، فأبدلت الهمزة مكان الكاف، فظاهر الآية أن المعطى له الكتاب؛ يقول هذا؛ يدعو الخلق إلى نحوه، أو يناولهم الكتاب؛ استبشاراً وحبوراً، فيبشرهم بعفو الله - تعالى - عنه ورحمته عليه.
ولكن أهل التأويل صرفوا التأويل إلى المعطي، فقالوا بأن المعطي هو الذي يقول هذا؛ فكأن الذي كتب الكتاب في الدنيا من الملك هو الذي يعطي الكتاب إلى المكتوب عليه، ويقول: { هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } أي: [خذوا اقرءوا] ما كتبت لكم وعليكم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } فإن حملته على حقيقة الظن، فهو يخرج على ثلاثة أوجه.
أحدها: أي: إني ظننت في الدنيا أني ألاقي { حِسَابِيَهْ }، أي: الحساب الشديد فيما سبق من سيئاتي، وأؤاخذ بها، وأجازى عليها، وظننت الساعة ألا أنجو من ذنوبي؛ لفزع هذا اليوم، فوجدت سيئاتي قد غفرت، وخطاياي كفرت عني؛ فيكون قوله منه هذا شكراً لله - تعالى - وإظهاراً لمنته.
والثاني: أي: إني تركت في دار الدنيا إذا عرضت لي الحوادث من الزلات والهفوات، ظننت أني ألاقي الله - تعالى - بها، فأمسكت عنها، وانزجرت عن إتيانها؛ فيكون إخباراً عن بيان سبب نيل ذلك.
والثالث: أني تفكرت في أمري؛ فظننت أن مثلي لا يترك سدى هملاً؛ فأدى ظني إلى اليقين، فآمنت وصدقت الرسل، فإنما نجوت بأول ظني وفكرتي.
ومنهم من صرف الظن إلى اليقين والعلم، فقال: معنى قوله: { ظَنَنتُ } أي: أيقنت، وعلمت.
والأصل: أن كل يقين حدث في الأمور المستترة والعلوم الخفية فإنما يتولد ذلك على ظن يسبق، فيحمله ذلك الظن على النظر فيه والبحث عن حاله حتى يفضي به إلى الوقوف على ما استتر منه، ويصير الخفي له جليّاً، فيكون سبب بلوغه إلى اليقين والإحاطة الذي سبق منه؛ فجائز أن يسمّى ذلك يقيناً مرة على الحقيقة وظنّاً ثانياً على المجاز، على ما ذكرنا في قوله:
{ وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة: 12] أن الأذن لا تعي شيئاً، بل تسمع، ولكنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن، فصارت الأذن سبباً للإيصال إلى الوعي، فأضاف الوعي إليها؛ فعلى ذلك ظنونهم في الابتداء إذا بلغتهم إلى اليقين والعلم سمّوا يقينهم وعلمهم ظنّاً مرة، ويقيناً ثانياً؛ ألا [ترى] أن الله - تعالى - قال: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ } [البقرة: 46]، وقال في موضع آخر: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4]، فجعلهم مرة ظانين، ومرة موقنين، فيما كان [طريقته البحث] وإعمال الفكر؛ ولهذا لا يجوز أن يوصف الله - تعالى - بالإيقان في أمر من الأمور؛ لأن الأشياء له بارزة ظاهرة؛ إذ هو منشئها وخالقها؛ فلا يخفى عليه شيء منها فيحتاج إلى البحث عنها والنظر فيها، والله الموفق.
أو نقول بأن الأمور التي سبيل دركها الاجتهاد، لا يخلو شيء منها من اعتراض وساوس وخواطر فيها، فتلك الوساوس والخواطر تفضي بصاحبها إلى الظنون فاستجازوا إطلاق الظن فيها؛ لما لا تخلو عنه، واستجازوا إطلاق اليقين لما غلب عليها دلالات اليقين والإحاطة؛ ألا ترى أن من تهدد بالوعيد الشديد، أو بالقتل على أن يكفر بالله - تعالى - أبيح له أن يجري كلمة الكفر على لسانه، ويجعل كالموقن بإحلال العذاب من المكره، لو امتنع عن الإجابة إلى ما دعاه و [إن] لم يتيقن بأنه يفعل به لا محالة ما أوعد به؛ لأنه يجوز ألا يمكن من ذلك، ويجوز ألا يبقى إلى ذلك الوقت، ثم وسع له فعل ذلك بأكبر الرأي وغلبة الظن، وحل ذلك محل الإحاطة واليقين؛ فعلى ذلك هاهنا لما غلب دلالات اليقين والصدق، جاز إطلاق لفظة اليقين عليه، فأما الأشياء التي تدرك بالحواس والمشاهدات، فلا سبيل إلى تسمية مثله ظنّاً؛ لما لا يحتمل اعتراض الشبه فيها، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي: في حياة راضية، [يقال: عاش وحيا بمعنى واحد.
وقوله - عز وجل -: { رَّاضِيَةٍ } بمعنى: مرضية معناه، أن نفسه في حياة ترضى بها؛ كقوله:
{ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [الطارق: 6] أي: مدفوق، ومثله في الكلام كثير.
ويجوز أن يكون المراد: نفس الجنة قد رضيت بأهلها، وأظهرت رضاها بهم، كما وصفت الجحيم بالسخط والتغيظ على أهلها، فجائز مثله في الجنة رضاء واستبشاراً، أي: على معنى أن الجنة تظهر لهم من أنواع الكرامات والخيرات ما لو كان ذلك من ذي العقل يكون ذلك دليل الرضاء، كما يضاف الغرور إلى الدنيا، وهي أنها تظهر من نفسها ما لو كان ذلك ممن يملك التغرير، يكون ذلك غروراً من نفسها.
وقوله - عز وجل - : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } قال بعضهم: مرتفعة، على ما يستحب في الدنيا من الجنان في ربوة من الأرض مرتفعة.
وقال بعضهم: الجنة: اسم لروضة ذات أشجار؛ فكأنه يصف أشجارها بالارتفاع والطول والمنظر، وذلك أشهى إلى أربابها، وهذا كما قال: { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } من غير ذكر الأشجار؛ لأن ذكر الجنة اقتضى ذكر الأشجار.
والثالث: يكون معنى العالية، أي: عظيمة القدر والخطر مرتفعة، وقد يوصف الشيء الرفيع بالعلو، والله أعلم.
ثم قوله - تعالى -: { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } أي: في القطوف متدانية من أهلها لمن يريد قطفها، وبعيدة لمن لا يريد قطفها.
وقيل: { دَانِيَةٌ } ينالها القاعد كما ينالها القائم.
وقيل: ثمارها دانية، أي: لا يرد أيديهم منها بعد ولا شوك.
وقوله - عز وجل -: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } تأويله أن يقال لهم: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } إنما جعلتم أيامكم الخالية سلفاً في أيام الآخرة، وسلف الرجل لآخر هو أن يعطيه قرضاً؛ ليأخذ مثله وقت الحاجة إليه، أو يسلم الرجل رأس ماله في الأشياء التي يأمل منها الربح، فكأنه بما يشري نفسه يجعلها سلفاً ورأس مال، ليأخذ ربح ما باع في الآخرة، فذلك هو الإسلاف.
أو يجعل عمله للآخرة رأس ماله، وما رزق من الأموال ينفقها في سبيل الله، ويجعل ذلك رأس ماله.
وذكر عن وكيع أنه قال: بلغنا أن [المراد] الذين أسلفوا الصوم؛ أي: أنهم صاموا في الدنيا وتركوا الطعام والشراب، فأثابهم الله في الآخرة فقال: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً }.