التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ
١١٣
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
١١٤
قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ
١١٥
قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
١١٦
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
١١٧
فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١١٨
فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ
١١٩
وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
١٢٠
قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٢١
رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
١٢٢
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ }: في المنزلة والقدر عندي، هذا يدل أن همة الساحر ليس إلا الدنيا؛ [لأنهم طلبوا من فرعون الأجر والقدر والمنزلة عنده إنْ كانوا هم الغالبين، ولا يجوز من همته الدنيا] وما ذكر أن يكون له الرسالة بحال، وهمّة الأنبياء كانت الدين وطلب الآخرة.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ }.
هذا ليس على إلقاء هذا، وترك أولئك الإلقاء؛ لأنه لو كان على إلقاء أحدهما لكان لا يتبين السحر من الآية، لكن إلقاء الأول كأنهم قالوا: يا موسى إما أن تلقي أولاً أو نحن الملقون أول مرة، وهو كما ذكر في آية أخرى:
{ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ } [طه: 65]، وقول موسى: { أَلْقَوْاْ } كأنه أمره ربه أن يأمر بذلك؛ قال موسى: { أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } هذا يدل أن السحر إنما يأخذ الأبصار على غير حقيقة كانت له، وهو كالسراب الذي يرى من بعيد؛ كقوله: { يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً... } [النور: 39] الآية، فعلى ذلك السحر يأخذ الأبصار ظاهراً، فإذا هو في الحقيقة باطل لا شيء، وكالخيال في القلوب لا حقيقة له، وكان قصدهم بالسحر استرهاب الناس، وتخويفهم به.
ألا ترى أنه ذكر في آية أخرى:
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } [طه: 67]، وقد ذكرنا أن ما جاء به الرسل لو كان سحراً في الحقيقة، لكان ذلك حجة لهم في إثبات الرسالة؛ لأن قومهم لم يروهم اختلفوا إلى ساحر قط، فيدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك بالله تعالى، وهو كالأنباء التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } [طه: 67] يخرج على وجهين:
أحدهما: أخذ سحرهم بصره كما أخذ أعين الناس.
والثاني: خاف أن سحرهم يمنع أولئك عن رؤية حقيقة ما جاء به.
وقوله: { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ } أي: أخذوا كقوله:
{ مَّسْحُورُونَ } [الحجر: 15]، أي: مأخوذ أعينكم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فيه أن موسى كان لا يلقي عصاه إلا بعد الأمر بالإلقاء، وكذلك قوله:
{ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ } [البقرة: 60] و { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } [الشعراء: 63] ونحوه، كان لا يضرب بالعصا، ولا يلقي إلا بعد الأمر بالإلقاء والضرب؛ ليعلم أن في ذلك امتحاناً لموسى فيما يؤمر بالإلقاء على الأرض لتصير حية، وفيما يأمره بالضرب بها الحجر والبحر، ولله أن يمتحن عبده بما شاء من أنواع المحن، وإلا كان قادراً أن يفلق البحر على غير الأمر بالضرب بالعصا، وكذلك يفجر الحجر، ويشقه على غير ضرب بالعصا، وكذلك يصير العصا حيّة وهي في يده، ولكن أمره بذلك كله - والله أعلم - امتحاناً منه إياه وابتلاء، إذ هي دار محنة وابتلاء؛ إذ في زمن موسى كان السحر هو الظاهر، وكان الناس وقتئذ يعملون بالسحر، فجاء موسى من الآيات على رسالته بنوع ما كانوا يعملون به، ومن جنس ذلك؛ ليعرفوا بخروجه عن وسعهم أن ذلك [ليس بسحر]، ولكن آية سماوية، وكذلك ما جاء عيسى من الآيات جاء بنوع ما كان يعمله قومه، وهو الطب، فجاء بنوع الطب ليعلموا أن بالله عرف ذلك.
وقوله - عز وجل -: { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ }.
قال القتبى: تلقف: تلتقم وتلقم، اشتقاقه من اللقم والابتلاع.
وقوله: { مَا يَأْفِكُونَ } قيل: ما يكذبون.
قال الحسن: { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } حبالهم وعصيهم.
وقيل: { تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } ما جاءوا به من الكذب.
وقوله - عز وجل -: { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ }.
قيل: أي: ظهر الحق، { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، أي: بطل ما عملوا من السحر.
والثاني: { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي: ترك السحرة العمل بالسحر إذ ظهر الحق لهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ }.
أي: عند ذلك غلب السحرة؛ لأنهم قالوا لفرعون في الابتداء: { إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } [الأعراف: 113]، فذكر هاهنا أنهم غلبوا عند ظهور الحق، لا أنهم صاروا غالبين، وقوله: { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } ليس غلبة القهر والقسر، ولكن غلبة بالحجج والبراهين، أي: غلبوا بالحجج والآيات.
وقوله - عز وجل -: { وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }.
قال بعض أهل التأويل: رجع السحرة لما غلبوا صاغرين مذللين.
لكن نقول: رجع فرعون وقومه إلى منازلهم مذللين لا السحرة؛ لأن السحرة قد آمنوا فلا يحتمل أن يوصفوا بالرجوع صاغرين مذللين، وقد رجعوا مع الإيمان.
وقوله: { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } اختلف فيه:
قال بعضهم: [قوله]: { وَأُلْقِيَ }، أي: أمروا بالسجود، فسجدوا.
وقال آخرون: قوله: { وَأُلْقِيَ }، أي: لسرعة ما سجدوا، كأنهم ألقوا، والآية [ترد] على المعتزلة؛ لأنهم ينكرون أن يكون لله تعالى في فعل العباد صنع، وههنا قد أضيف الفعل إلى غيرهم بقوله: { وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } دل أن لله في فعل العباد صنعاً.
وهو أن خلق فعل السجود منهم.
وقال جعفر بن حرب: يجوز أن يضاف الفعل إلى غير، وإن لم يكن لذلك الغير في ذلك الفعل صنع؛ نحو: ما يقال في السفر: إن هؤلاء خلفوا أولئك، وهم لم يخلفوا أولئك في الحقيقة، ولا صنع لهم في التخليف، ثم أضيف إليهم فعل التخليف، فعلى ذلك هذا.
يقال: إن لهم في ذلك صنعاً، وهو أنهم إذا لم ينتظروهم فقد خلفوهم، فلهم في ذلك صنع، فأضيف إليهم.
أو أن يقال: إنهم لا يملكون تخليف هؤلاء فأما الله سبحانه وتعالى فهو قادر أن يلقيهم أي: بما يخلق منهم فعل السجود، فأضيف الفعل إليه لذلك.
وقوله - عز وجل -: { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } قال بعض أهل التأويل: إنهم لما قالوا: آمنا برب العالمين، قال لهم فرعون: إياي تعنون، فعند ذلك قالوا: لا، ولكن ربّ موسى وهارون، ولكن لا ندري هذا، وموسى أول ما جاء فرعون ودعاه إلى دينه قال له:
{ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأعراف: 104]، فلا يحتمل أن يشكل عليه قولهم: { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أنهم إياه عنوا بذلك، وجائز أن يكون آمنا بربّ العالمين الذي أرسل موسى وهارون رسولاً.