التفاسير

< >
عرض

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٤٥
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
١٤٦
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤٧
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ }.
يحتمل قوله: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ } وجهين:
أحدهما: أنه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لما تولى كتابتها الملائكة البررة الكرام، أضاف [ذلك] إلى نفسه تفضيلاً لهم وتعظيماً على ما ذكر في الكتاب في غير موضع؛ من نحو قوله:
{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12]، وقوله: { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80]، أخبر أن طاعة الرسول له طاعة، وغير ذلك، فكذلك هذا، والله أعلم.
أو أضاف ذلك إلى نفسه لما كان ويكون إلى يوم القيامة، إنما يكون بكن الذي كان منه في الأوقات التي أراد أن يكون، فعلى ذلك كَتْبُ تلك الألواح كان تحت ذلك الكن، وإن كان أضاف بعض تلك الأشياء إلى نفسه؛ كقوله:
{ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } [القصص: 73] و { جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [يونس: 5] { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [النمل: 60] كذا وخلق لكم كذا { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ } [السجدة: 9] ونحو ذلك، فذلك كله كان تحت قوله: { كُنْ } فكان على ما أراد أن يكون، في الأوقات التي أراد أن تكون، والله أعلم.
وقوله: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ }.
يحتمل قوله: { مِن كُلِّ شَيْءٍ }: مما يقع للعباد الحاجة إليه، ويحتمل: { مِن كُلِّ شَيْءٍ } من أمره ونهيه، وحله وحرامه.
وقوله - عز وجل -: { مَّوْعِظَةً }.
قال: الموعظة: هي التي تحمل القلوب على القبول، والجوارح على العمل.
وقال بعضهم: الموعظة: هي التي تنهى عما لا يحل.
قال أبو بكر: الموعظة: هي التي تلين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة، وتصلح الأعمال الفاسدة.
قال الشيخ -رحمه الله -: وعندنا الموعظة: هي تذكر العواقب، وتحمله على العمل بها.
وقوله - عز وجل -: { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ }.
قيل: تفصيلاً لما أمروا به، ونهوا عنه.
وقيل: بياناً لكل ما يحتاج إليه.
وقوله: { فَخُذْهَا } يحتمل - أيضاً - وجهين:
يحتمل قوله: { فَخُذْ }، أي: اقبل، على ما ذكرنا في قوله:
{ فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } [الأعراف: 144].
ويحتمل: اعمل بما فيها.
وقوله - عز وجل -: { بِقُوَّةٍ } قال أهل التأويل: بجد ومواظبة، ولكن قوله: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } القوة المعروفة، وعلى قول المعتزلة لا يكون أخذاً بقوة، وقد أخبر أنه أخذها بقوة؛ لأنهم يقولون: إن القوة تكون قبل الفعل، ثم يقولون: إنها لا تبقى وقتين، فيكون في الحاصل لو كانت قبل الفعل أخذاً بغير قوة دلّ أنها مع الفعل، وتقول المعتزلة: دل قوله: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } على أن القوة قد تقدمت الأمر بالأخذ، لكن لا يكون ما ذكروا؛ لأنه أمر بأخذ بقوة دل أنها تقارن الفعل لا تتقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا }.
يحتمل قوله: { يَأْخُذُواْ } ما ذكرنا من الوجهين القبول أو العمل، أي: مرهم يقبلوا بأحسن القبول.
ويحتمل: مرهم يعملوا بأحسن ما فيها من الأمر، والنهي، والحلال والحرام.
ويحتمل قوله: { بِأَحْسَنِهَا }، أي: بما هو أحكم وأتقن.
أو بأحسن مما عمل به الأولون؛ إذ فيه أخبار الأولين.
وقوله - عز وجل -: { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ }.
قال بعض أهل التأويل: قال ذلك لبني إسرائيل: سأريكم دار الفاسقين، يعني: سنة الفاسقين، وهو الهلاك؛ كقوله تعالى:
{ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ } [الأنفال: 38] وسنته في أهل الفسق والكفر والهلاك.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - [قال]: { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ }: جهنم، وأمكن أن يكون الخطاب للفسقة، سأريكم يا أهل الفسق دار الفاسقين.
وقوله - عزّ وجلّ -: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي... } الآية.
يخرج هذا على وجهين:
أحدهما: [سأصرف عن آياتي أي: ] سأصرفهم عن قبولها وتصديقها؛ إذ لم يستقبلوها بالتعظيم لها، بل استهزءوا بها واستخفوا بها على علم منهم أنها آيات من الله وحجة.
والثاني: سأصرف عن وجود الطعن والقدح فيها والكيد لها، ثم إن كل واحد من هذين الوجهين يتوجه على وجهين:
قال الحسن: إن للكفر حدّاً إذا بلغ الكافر ذلك الحد يطبع عليه، فلا يقبل ولا يصدق آياته بعد ذلك.
والثاني: أنهم كانوا يتعنتون في آياته ويكابرون في ردّها مع علمهم أنها آيات وحجج من الله، فإذا تعانتوا صرفهم عن قبولها وتصديقها، وهو كقوله تعالى:
{ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } [التوبة: 127]، [وقوله: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5]] أي: خلق منهم فعل الزيغ وفعل الانصراف، وهكذا كل من يختار عداوة الله، فالله لا يختار له ولايته، ولكن يختار له ما اختار هو.
وأما قوله: { سَأَصْرِفُ } عن وجود الطعن فيها والقدح؛ وذلك أن الله - عز وجل - جعل للرسل والأنبياء أضداداً من كبراء الكفرة وعظمائهم، وكانوا يطعنون في الآيات، ويقدحون فيها، فأخبر أنه يصرفهم عن وجود الطعن فيها [والقدح] والكيد لها، أي: لا يجدون فيها مطعناً ولا قدحاً.
والثاني: قوله: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي } الهلاك والإبطال، بل [هم] المهلكون والآيات هي الباقية، ثم اختلف في الآيات:
قال الحسن: آياتي: ديني، وتأويله ما ذكرنا أنهم إذا بلغوا ذلك الحد صرفهم عنها.
وقال غيره: آياته: حججه وبراهينه.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }.
كانوا يتكبرون هم على الرسل لما لم يروهم أمثالاً لأنفسهم وأشكالاً، وهكذا كل من تكبر على آخر يتكبر لما لم يره مثالاً لنفسه ولا شكلاً، أو يتكبر لما يرى نفسه سليمة عن العيوب، ويرى في غيره عيوباً، أو يرى لنفسه حقوقاً عليه فيتكبر، [فإذا كان التكبر] لهذا، فالخلق كلهم أكفاء بعضهم لبعض؛ لأنهم أمثال وأشكال، وفيهم العيوب والحاجات، فلا يسع لأحد التكبر على أحد، وإنما التكبر لله تعالى، فله يليق لما لا مثل له ولا شكل، منزه عن العيوب كلها والحاجات؛ لذلك كان هو الموصوف بالكبرياء والعظمة.
وقوله - عز وجل -: { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }، أي: ليسوا هم بأهل الكبر.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } أمكن أن يكون قوله: { يَرَوْاْ }، أي: إن علموا أنه آية لا يؤمنون به أبداً، هذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً.
{ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً }.
أي: وإن علموا [أنه سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ولا يتبعوه؛ مخافة أن تذهب بأسهم ومكانتهم { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } أي: وإن علموا] أن ذلك هو سبيل الغي والباطل يتخذوه سبيلاً.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }.
يحتمل قوله: { ذٰلِكَ } الصرف الذي ذكر عن آياته لما كذبوا الآيات بعد علمهم أنها آيات من الله، وكانوا عنها عافلين غفلة الإعراض والعناد لا غفلة الجهل والسهو.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ }.
أي: الذين كذبوا بالآيات والبعث بعد الموت.
وقوله - عز وجل -: { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ }.
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: أنهم كانوا مؤمنين من قبل فكذبوا الآيات، فكفروا بها، فحبطت الأعمال التي كانت لهم في حال الإيمان، وبطلت.
ويحتمل: { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ }: المعروف الذي كانوا يفعلون في حال الكفر؛ من نحو صلة الرحم، والصدقات وغيره من المعروف، والخيرات التي عملوا بها، حبط ثواب ذلك كله إذا لم يأتوا بالإيمان.
وقوله - عز وجل -: { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
أي: ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من الاستهزاء بالآيات والاستخفاف.