التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ
١٧٥
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
١٧٦
سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
١٧٧
مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
١٧٨
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا }.
اختلف أهل التأويل في [نبأ] هذا:
قال بعضهم: كان هذا نبيّاً فانسلخ منها، يعني: من النبوة وكفر بها.
لكن هذا بعيد محال أن يجعل الله الرسالة فيمن يعلم أنه يكفر به، أو يختاره لوحيه، وهو يعلم أنه ليس [هو] بأهل له؛ بقوله:
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
وقال بعضهم: كان بلعم بن باعوراء أعطاه الله - تعالى - آيات فكفر بها وانسلخ منها.
وقيل: أعطي الاسم [المخزون الذي كان يستجاب له به] جميع ما يسأل ربه.
وقال بعضهم: كان أمية بن أبي الصلت؛ على [ما قال عنه - عليه السلام -]: إنه "آمن شعره وكفر قلبه".
وقال بعضهم: نزلت الآية في منافقي أهل الكتاب؛ قد كان أعطاهم الله الآيات، فكفروا بها وكذبوها.
ولكن لا ندري فيمن نزلت، وهو في جميع مكذبي الآيات، ليس يجب أن ننص واحداً، أو يشار إلى واحد نزلت فيه، ولكن نقول: إنها في جميع مكذبي الآيات.
وقوله: { فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا }: خرج منها، و[قيل]: نزع منها.
وقيل: تركها؛ وكله واحد.
ثم يحتمل قوله: { فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } أي: كانوا قبلوها مرة، ثم ردوها من بعد القبول.
ويحتمل: أن لم يقبلوها ابتداء فخرجوا منها وكذبوها.
وقوله - عز وجل -: { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ }.
فيه دلالة أن الله لا يتبع الشيطان أحد ولا يزيغه إلا بعد أن كان منه الاختيار للضلال والميل إليه؛ حيث قال: { فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } إنما أتبعه الشيطان بعد ما كان منه الانسلاخ والنزع.
وقوله: { فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } قيل: كان في علم الله أن يكون في ذلك الوقت من الغاوين.
وقيل: كان من الغاوين، أي: صار من الغاوين إذا انسلخ منها وخرج، والغاوي: الضال.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا }.
يحتمل قوله: { لَرَفَعْنَاهُ بِهَا }: عصمناه حتى لا ينسلخ منها ولا يكذب بها، أي: لو شئنا لوفقناه لها حتى يعمل بها.
أو أن يقال: لو شئنا لعصمناه حتى لا يختار ما اختار، لكنه إذ علم منه أنه يختار ذلك ويميل إليه، شاء ألاّ يعصمه، ولا يوفقه، فكيفما كان فهو على المعتزلة؛ لأنه أخبر: [أنه] لو شاء لرفعه بها، وكان له مشيئة الرفع، ثم أخبر أنه لم يرفع، ولو رفعه بها كان أصلح له في الدين؛ دل أنه قد يفعل به ما ليس هو بأصلح في الدين، وهم يقولون: [إن] المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والقسر، لا مشيئة الاختيار، لكن ما ذكرنا أن الإيمان في حال الاضطرار والقهر لا يكون إيماناً، فلا معنى لذلك، ولا يكون ذلك رفعاً؛ فيبطل قولهم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ }:
هو ما ذكرنا؛ لما علم منه أنه يخلد إلى الأرض ويميل إليها، لم يعصمه ولم يرفعه.
والإخلاد إلى الأرض: قال الحسن: سكن إلى الأرض.
وكذلك قال الكيساني: [إن] الإخلاد في كلامهم: السكون إلى الشيء والركون إليه.
وقال أبو عبيدة: هو اللزوم للشيء.
وفي قوله: { وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } دلالة أن الإزاغة من الله وترك العصمة له؛ لما يكون من العبد الميل والركون إلى مخالفته، وترك الائتمار له، واتباع الهوى.
قال قتادة: قوله: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } يقول: لو شئنا لرفعناه من إيتائه الهدى، فلم يكن للشيطان عليه سبيل، ولكن يبتلى [من عباده من يشاء].
وقوله: { أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ } ذكر الأرض يحتمل أن يكون كناية عن الدنيا؛ كقوله:
{ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } [الأنعام: 70].
ويحتمل أن يكون كناية عن الذل والهوان؛ لأن كل خير وبركة إنما يطلب من السماء، وهم إذا اختاروا ذلك اختاروا الذل والهوان.
وقال الحسن في قوله: { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ } الآية، قال: حال الشيطان بينه وبين أن يصحب الهدى بما مناه وزين له واتبع هواه، { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ } قال: هذا مثل الكافر، أميت فؤاده كما أميت فؤاد الكلب.
[وقوله: { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي: ساء مثل الأفعال التي ضرب الله مثلها بالذي ذكر في القرآن، قال]: { سَآءَ مَثَلاً }، صدق الله وبئس المثل { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }، فتدبروا وتفكروا في أمثال الله التي ضرب واعقلوها؛ إلى هذا ذهب الحسن.
وقال غيره: وجه ضرب مثل الذي كذب بالآيات بالكلب، هو أن الكلب من عادته أنه يذل ويخضع لكل أحد؛ لما يطمع أن ينال منه أدنى شيء، ولا يبالي ما يصيبه من الذل والهوان في ذلك بعد أن ينال منه بشيء؛ فعلى ذلك الكافر والمكذب بالآيات لا يبالي ما يلحقه من الذل والهوان بعد أن يصيب من الدنيا شيئاً.
ويشبه أن يكون وجه ضرب المثل بالكلب؛ لما أن من عادة الكلاب [أنها] إذا ظفرت بالجيف تنكب لها، حتى إذا ينادي لها وتدعى لا تكترث إليه ولا تلتفت؛ فعلى ذلك هذا الكافر ينكب لكل جيفة ويخضع، ولا يلتفت إلى ما نودي ودعي إليه.
وقوله - عز وجل -: { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ }.
أي: يخرج لسانه ويتنفس تنفساً [شديداً].
{ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } ومعناه - والله أعلم - أن الكلب إذا أصابه العطش والجوع لهث، وإذا لم يصبه لهث أيضاً، فعلى ذلك الكافر يميل إلى ذلك ويختار، أصابته شدة أو لم تصبه؛ أو كلام نحو هذا.
وقال قتادة: هذا مثل الكافر، ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب.
{ ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ضرب الله - عز وجل - مثل الكافر مرة بالكلب، ومرة بالميت، ومرة بالأعمى، ومرة بالتراب، ومرة بالأنعام، ونحو هذا؛ وذلك لما فيه من معاني ما ذكر.
وقوله: { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ... }، وقوله: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } أمر رسوله ليقص أنباء الأمم السالفة على هؤلاء؛ ليكون زجراً وتحذيراً للكفار؛ ليعلموا ما حل بأولئك بصنيعهم؛ ليحذروا عن مثل صنيعهم، ويكون عظة وتذكيراً للمؤمنين؛ كقوله:
{ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 66].
وقوله - عز وجل -: { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا... } الآية، قد ذكرنا في غير موضع أن آياته، قيل: دينه.
وقيل: حججه وبراهينه.
وقوله: { سَآءَ مَثَلاً } [أي ساء مثل] الأفعال التي ضرب الله مثلها بالذي ذكر في القرآن.
وقوله - عز وجل -: { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي }.
شهد الله - تعالى - أن من هداه فهو المهتدي؛ أي: من هداه الله في الدنيا فهو المهتدي في الآخرة، ومن يضلل الله في الدنيا فهو الخاسر في الآخرة، فلو كانت الهداية البيان والأمر والنهي - على ما ذكر قوم - لكان الكافر والمؤمن في ذلك سواء؛ إذ كان البيان والأمر والنهي للكافر على ما كان للمؤمن فلم يهتد، فدل أن في ذلك من الله زيادة معنى للمؤمن لم يكن ذلك منه إلى الكافر، وهو التوفيق والعصمة والمعونة، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى [كما اهتدى] المؤمن، ولو كان بياناً لكان ذلك البيان من الرسل وغيره على قولهم؛ وكذلك قوله: { وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أخبر أن من أضله فقد خسر؛ دل أنه كان منه زيادة معنى، وهو الخذلان والترك، أو خلق فعل الضلال، وليس على ما يقوله المعتزلة أنه قد هداهم جميعاً، لكن لم يهتدوا؛ فيقال لهم: أنتم أعلم أم الله؟! كما قال لليهود:
{ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ } [البقرة: 140]، فظاهر الآية على خلاف ما يقولون ويذهبون.