التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٧
قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١٨٨
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } قيل: { أَيَّانَ }: متى قيامها.
وقال القتبي: { أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } أي: متى ثبوتها؛ يقال: رسا في الأرض: إذا ثبت، ورسا في الماء، ويقال للجبال: رواسي؛ لثبوتها.
ثم اختلف في السؤال عما كان:
قال بعضهم: كان السؤال عن الفناء وفناء الخلق وهلاكهم؛ لأنه قال في آخره: { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } ونحوه قوله:
{ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً... } الآية [يس: 49]، وذلك يكون في الدنيا.
وقال قائلون: كان السؤال عن البعث وقيام الساعة؛ إنكاراً منهم إياها واستعجالا للعذاب؛ كقوله:
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى: 17-18]، وقولهم: { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا... } الآية [المؤمنون: 82]، وغير ذلك من الآيات؛ يدل على أن السؤال كان عن الساعة، وليس قوله: { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أنه كان عن الفناء؛ إذ كانوا يعاينون الفناء؛ فلا يحتمل أن يكون السؤال عن ذلك.
ثم يحتمل بعد هذا وجهين:
أحدهما: إن كان السؤال من المكذب بها فهو سؤال استهزاء واستعجال لما ذكرنا، وإن كان من المصدق فهو [سؤال] استعلام وإشفاق؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا؛ كقوله:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } [الشورى: 18] لما سمعوا من الآيات ما يقرب وقوعها؛ كقوله: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر: 1]، وقوله: { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [الأنبياء: 1]، وقوله: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [النحل: 1] ونحوه من الآيات، وما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "[بعثت] أنا والساعة كهاتين" .
وفي بعض الأخبار قال: "كادت الساعة أن تسبقني" وغير ذلك من الأخبار، حملهم ذلك على السؤال عنها؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا، ثم أمره أن يقول: { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ }، أي: لا يكشفها ولا يظهر وقتها إلا هو، ليس كالأمور التي تجري على أيدي الخلق، ويكون لغيره فيها تدبير [من إخراج الثمار والنبات والأمطار، وغير ذلك من الأمور التي تجري على أيدي الخلق ويكون لهم فيها تدبير، أعني] الملائكة الذين سلطوا على حفظ المطر والنبات، وأما الساعة فإنها تقوم من غير أن كان لأحد من الخلائق تدبير فيها أو علم، وهو ما وصفها الله - عز وجل -: { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77] أخبر أن أمر الساعة خارج عن تدبير الخلق؛ بل تقوم بتدبير الله من غير أن يجريها على [يد أحد]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }.
قيل: ثقلت على أهل السماوات والأرض.
ثم اختلف فيه: قال قائلون: قوله: { ثَقُلَتْ } أي: خفيت على أهل السماوات والأرض، فذكر الثقل؛ لأن كل من خفي عليه شيء ثقل عليه، فذكر أنها ثقيلة عليهم؛ لخفائها عليهم.
وقال قائلون: ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض؛ لكثرة أهوالها وشدة وقوعها.
وأمكن أن يكون قوله: { ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } على نفس السماوات والأرض؛ على ما ذكر في قوله:
{ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ... } الآية [مريم: 90]، وذلك من شدة هولها، ولكن إن كان على نفس السماوات والأرض، أي: لو كانت هي بحيث تعرف وتميز، وبنيتها بنية من يعرف ثقل شيء لثقلت [عليها]، وهو ما قلنا في قوله: { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [الأنعام: 130] والدنيا لا تغر أحداً، أي: ما كان منها لو كان ممن يكون منه التغرير لكان تغريراً؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله - عز وجل -: { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا }.
اختلف فيه:
قال قائلون: قوله: { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا }، أي: مكرم مشرف عنده ذو منزلة فيعلمك عنها، وكذلك قيل:
{ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [مريم: 47] قيل: بارّاً رحيماً.
وقال قائلون: { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } أي: عالم بها.
وقال قتادة: { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } بهم، كأنك تحب أن يسألونك عنها.
وقال غيره: هو على التقديم والتأخير: يسألونك عنها كأنك [حفي يعني كأنك] استحفيت السؤال عنها حتى علمتها.
ثم قال: { قُلْ } مالي بها من علم { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أنها كائنة.
ويحتمل: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أنك لا تعلم أنها متى تكون؟ أو لا يعلمون ما عليهم وما لهم.
وقال الحسن في قوله: { ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }: إذا جاءت ثقلت على أهل السماوات والأرض، وكبرت عليهم.
وقال بعضهم: ثقل ذكرها على أهل السماوات والأرض.
[وقال قتادة: أثقل علمها على أهل السماوات والأرض.
وأصله: ما ذكرنا، أي: خفي علمها على أهل السماء والأرض] وإذا خفي الشيء ثقل.
وقوله: { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } ما ذكرنا من التأويل، والله أعلم.
وعلى قول بعضهم: الحفي: الخبير العالم، وقالوا: هو المشرف المكرم البار الذي لا يستخفي منه شيء ولا يلبس عليه.
وقوله - عز وجل -: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً }.
قال بعض أهل التأويل: قوله: { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً }: الهدى والضلالة.
وقال قائلون من أهل التأويل: لا أملك جرَّ النفع إلى نفسي ولا دفع الضر عنها { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ }، أي: إلا إن أقدرني الله على ذلك فأملك ذلك.
ويشبه أن يكون قوله: { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } قال ذلك؛ لئلا يتخذوه معبوداً، لا ينسبوه إلى الله بالذي لا يليق النسبة به [نحو] ما قالت النصارى:
{ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30]، { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30]، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله؛ لعظيم ما وقع عندهم من محل هؤلاء وقدرهم، فقال: { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً }؛ لئلا ينسبوه إلى الله من الوجه الذي نسب أولئك، أظهر من نفسه العجز والعبادة، وهو ما قال عيسى [صلوات الله عليه حيث قال]: { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ... } الآية [مريم: 30].
وقال ابن عباس في قوله: { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً }: وذلك أن أهل مكة قالوا: ألا يخبرك ربك يا محمد بالتجارة المربحة فتتجر فيها فتربح، أو لا يخبرك بسنة القحط والجدوبة، أو يخبرك بوقت السعة والخصب؟! فقال عند ذلك: { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } من جدوبة الأرض والقحط؛ { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } [يقول: لتهيأت لذلك { وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ } من الضر والشدة؛ إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل.
وقالوا في قوله: { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } قال بعضهم: لو كانت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ومن العمل الصالح].
[ولكن الوجه فيه غير ما ذهبوا إليه؛ لأنه إن كان لا يعلم متى يموت؟ لا يستكثر من الخير ومن العمل الصالح]، أو لو كان يعلم الغيب لاستكثر المال على ما قال بعضهم؛ هذا بعيد.
ولكن التأويل - والله أعلم - أن يجعل قوله: { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي: لا أعلم لكم نفعاً ولا ضرّاً، ولو كنت أعلم لكم الغيب لاستكثرت من الخير عند الله، أي: لو كنت أعلم لكم ذلك لصدقتموني وآمنتم بي [و] لاستكثرت من الخير عند الله بإيمانكم بالله وتصديقكم إياي.
أو أن يقال: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً، ولو كنت أملك لكم ذلك لاستكثرت من الخير؛ لأنكم إذا رأيتموني أملك نفع ما غاب عنكم ودفع ضر ما غاب، لآمنتم بي وصدقتموني، فأنا بذلك استوجبت عند الله خيراً كثيراً، يجعل قوله: { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } جواب ما تقدم من الكلام، والله أعلم.
وقال بعضهم: قوله: { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي: لا أعلم الغيب إلا قدر ما أوحي إلى { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ }.
وقال بعضهم: لا أعلم الغيب قبل أن يوحى إلي، ولو كنت أعلم ذلك لاستكثرت من الخير بذلك.
وحاصل التأويل في قوله: { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ }: ما ذكرنا بتصديقكم إياي وإيمانكم بي، أو ما ذكرنا من السعة والخصب في الدنيا لأهله ولأصحابه، أو ما ذكرنا، أي: لو كنت أملك لكم نفع ما غاب عنكم ودفع ضرر ما غاب - أيضاً - لآمنتم بي وصدقتموني، فأنا بذلك استوجبت عند الله خيراً كثيراً.
وجائز أن يكون قوله: { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } أي: لو كنت أعلم من المصدق ومن المكذب لاستكثرت من الخير؛ لأنه لا يشتغل بمن يعلم أنه يرد ولا يجيب، وإنما يشتغل بمن يعلم منه أنه يجيب ولا يكذب، فيستكثر أتباعه والمطيعين لله.
وقال بعضهم: { وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ } هو صلة قوله:
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } [الأعراف: 184] كانوا يقولون: إن به جنوناً، فقال: { وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤءُ } من النسبة إلى الجنون، ويقول: ما مسني السوء منكم: سوء ردٍّ وتكذيب؛ لأنه لو علم الذي يجيبه ويصدقه من الذي لا يجيبه ولا يصدقه، لم يمسه سوء من الرد والأذى؛ لأنه لا يشتغل به بعد ما أقام عليه الحجة [وعلم] من المجيب منكم ومن الرادّ.
وقوله - عز وجل -: { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.