التفاسير

< >
عرض

خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ
١٩٩
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٠٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ
٢٠١
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ
٢٠٢
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { خُذِ ٱلْعَفْوَ } يتوجه وجهين:
أحدهما: على حقيقة الأخذ.
والثاني: على العمل بالعفو.
فإن كان على الأخذ فهو على وجهين:
[الأول:] يحتمل أن خذ الفضل الذي لا حق فيه، وهو القليل من ذلك واليسير.
والثاني: أن خذ ما يفضل من أنفسهم وحوائجهم من غير مسألة، أي: اقبل منهم ما أعطوك، ولا تلح في المسألة؛ كقوله:
{ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } [محمد: 36-37]؛ أخبر أنه إن يسألهم أموالهم حملهم ذلك على البخل.
وإن كان على العمل فهو على وجوه:
أي: اعف [عن] الظلمة، عن ظلمهم، وأعرض عن السفهاء واحلم معهم؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعامل الخلق بأشياء ثلاثة: أمر أن يعفو عن الظلمة عن ظلمهم، لا يكافئهم بظلمهم، وأمر أن يعرض عن السفهاء والجهال ويحلم معهم، وأمر أن يعامل المؤمنين باللين والرفق؛ ولذلك وصفه بالرحمة والرأفة بقوله:
{ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128].
وروي عن عبد الله بن الزبير قال: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس.
وعن قتادة: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } قال: خلق حسن أمر الله به نبيه ودعاه إليه.
إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل، وإلى ذلك صرف تأويل الآية.
وقال بعضهم: هو أخذ الفضل من المال على ما ذكرنا؛ فهو منسوخ بآية الزكاة.
وروي في حرف ابن مسعود وأبي: (خذ العفو وأمر بالعرف وانه عن المنكر وأعرض عن الجاهلين).
وفيه دلالة [أنه] أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمعروف: هو اسم كل خير، وأمره بأن يأخذ بالعفو عن الظلمة، على ما ذكرنا، وعلى ذلك روي عن عائشة قالت:
"كان رجل يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوسع له، وأدناه، ورحب به؛ قالت: فقلت: يا رسول الله، أليس هذا كان يشتمك؟ قال: بلى يا عائشة؛ إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء شرورهم وألسنتهم" إلى مثل هذا دعى رسول الله بالعفو والصفح عن الظلمة وترك المكافأة.
وقوله: { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } أي: مر الناس بالعرف، وهو ما تشهد خلقتك وتأمرك به أشياء ثلاثة، اثنان فيما بينه وبين ربه، والواحد فيما بينه وبين الناس؛ أمّا الاثنان اللذان فيما بينه وبين ربه:
أحدهما: تأمر خلقته، وتشهد على وحدانية الله، والدلالة على ألوهيته.
والثاني: تشهد على نعم الله إليه فيدعوه إلى الشكر له فيما أنعم [الله] عليه.
وأما الوجه الذي تدعو خلقته فيما بينه وبين الناس: فهو ما ترغب نفسه في كل محاسن ومرغوب فيه، وتنفر نفسه عن كل أذى وسوء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعامل الخلق بما ترغب نفسه وتطمع في المحاسن، وتنفر عنه وتكره، يفعل إليهم في كل ما ترغب نفسه فيه وتطمع، ويمتنع عن كل أذى وسوء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ }.
قال بعضهم: النزغة هي أدنى أفعال المعصية؛ وكذلك فسره ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: إذا أذنبت ذنباً فاستعذ بالله.
وقال القتبي: { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ } أي: يستخفنك، ويقال: نزغ شيئاً: إذا أفسده.
وقال أبو عوسجة: النزغ: التحريك للفساد.
وقال بعضهم: قوله: { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } أي: يوسوسك الشيطان وسوسة فاستعذ بالله.
ثم في الاستعاذة وجهان:
أحدهما: أمره بالفزع إلى الله عند ما يوسوسه الشيطان والالتجاء إليه؛ لما رأى نفسه عاجزة عن دفع ما يوسوس إليه، ورد ما يكون؛ فهو الدافع عنه ذلك وهو الراد.
وقال الخليل: أعوذ بالله، أي: ألجأ إلى الله - تعالى - وكذلك قوله: أستعيذ بالله، ومعاذ الله معناه: أعوذ بالله، ومنه الإعاذة والتعوذ والتعويذ.
وقال غيره: أعوذ بالله، أي: أمتنع بالله.
وقيل: أعوذ بالله، أي: أتحصن بالله.
وقيل: الاستعاذة: هي الاستغاثة بالله؛ لدفع ما اعترض له من الشيطان.
وكله قريب بعضه من بعض.
ثم الحكمة فيما جعل عدوهم من غير جنسهم من حيث لا يرونه ويراهم وجهان:
أحدهما: ليكونوا أبداً على التيقظ والانتباه، غير غافلين عنه.
والثاني: ليكونوا أبداً فزعين إلى الله - تعالى - متضرعين إليه، مبتهلين؛ ليكون هو الحافظ لهم، والدافع عنهم شره ووسواسه.
وفيما أمر بالفزع إلى الله والاستعاذة به عند نزغ الشيطان نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: قد أعطاهم جميع ما يدفعون به وساوسه ونزغاته، حتى لم يبق عنده شيء يعيذه؛ فعلى قولهم يخرج طلب الإعاذة مخرج كتمان النعمة، أو مخرج الهزء به؛ [أما الهزء به] لأنه يسأله ما يعلم أنه ليس ذلك عنده.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ }.
وقرئ: (طيف من الشيطان)؛ فمن قرأ: (طيف) قال: [أي] اللمة [و] الخطرة [و] الشيء يغشيك.
وقال: وأما الطائف فهو من الطواف.
وقيل: الطيف: الوسوسة.
وقيل: ما يأتيك من الشيطان.
وقيل: الطائف والطيف سواء.
وعن ابن عباس: { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ } قال: إذا أذنبوا ذنباً { تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } يقول: تذكروا ذنوبهم فتابوا منها، وكذلك قال في قوله: { يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ }: هو أدنى ذنب يرتكبه، فإن كان على هذا فهو يخرج على النهي عن ذلك، فهو كالمخاطبات التي خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام: 14]، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ } [الأنعام: 35]، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [البقرة: 147]، وإن كان يعلم أنه لا يشك ولا يجهل ولا يشرك غيره في أمره؛ فعلى ذلك هذا الخطاب الذي خاطبه بقوله: { يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ }.
وإن كان ما ذكر هو من أدنى ذنب يرتكبه، فهو يخرج ذلك على تعليمه أمته أن كيف يفعلون إذا اعترض لهم ذلك، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ }.
[يحتمل أن يكون قوله]: { ٱتَّقَواْ } مكائد الشيطان؛ إذا أصابهم شيء من ذلك تذكروا ذلك، فعرفوا أنه من الشيطان، { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } أي: أبصروا أنه من الشيطان.
أو أن يقال: أي: هم من أهل البصر يبصرون عما اتقوا به أنه من الشيطان.
ويحتمل قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } المعاصي، إذا أصابتهم وسوسة من الشيطان تذكروا ذلك.
وقال بعض أهل التأويل: قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } أي: اتقوا الشرك، لكن لا كل من اتقى الشرك يكون كما ذكر.
وقوله: { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ... } الآية.
يحتمل وجوهاً:
أحدها: إذا مسهم ذلك تابوا عما كان منهم؛ كقوله:
{ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً... } الآية [آل عمران: 135].
والثاني: { تَذَكَّرُواْ } وجوه حيل دفع وساوسه.
والثالث: { تَذَكَّرُواْ } استعاذوا به حيث أمرهم بالاستعاذة به عند النزغة.
وقوله - عز وجل -: { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }.
قال بعض أهل التأويل: قوله: { وَإِخْوَانُهُمْ } يعني: إخوان الكفار الشياطين، { يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ } قالوا: في الشرك والمعصية، { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }، عنها؛ أي: لا ينتهون عنها، ولا يبصرونها كما أبصر الذين اتقوا عنها حين أبصروها.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَإِخْوَانُهُمْ } يعني: أصحاب الذين اتقوا، وهم شياطينهم من الإنس يدعونهم إلى دينهم، لكنهم لا يجيبونهم ولا يطيعونهم فيما يدعون إليه؛ إذ يجوز أن يكون لكل مؤمن شيطان من الإنس وشيطان من الجن؛ كقوله:
{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [الأنعام: 112] فقد دعا أولئك شياطين الجن فتذكروا فلم يجيبوهم، ثم دعاهم شياطين الإنس - أيضاً - فلا يجيبونهم، والله أعلم.