التفاسير

< >
عرض

الۤمۤصۤ
١
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٢
ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٣
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

الحمد لله العليم بخلقه، اللطيف لرشد عباده، ضرب لهم الآيات والبيان؛ لينقلهم بحكمته وتدبيره من الجهالة إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى، ووصى رسوله أن يدعو عباده إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وأنزل إليه الكتاب تلا فيه ما في الكتب الأولى؛ ليبين لأهل الكتاب والمشركين أن النبي الأمي العربي لم يعلم ما في الكتب الأعجمية إلا من عند الله؛ ليكون ذلك أوضح لهم في الحجة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة معروفاً عند الفريقين أنه لم يتل كتاباً، ولا خطه بيمينه، ولا كان عندهم من شعرائهم، ولا المعروف بأنسابهم وعلم أنبيائهم؛ وذلك أبلغ في البرهان، فأنبأ فيه علم الغيوب، وفرض الفرائض، وحكم فيه الأحكام، وأنزل فيه الحجج بتأليف يعجز عنه من دون الله؛ ليبين لهم أنه من عند الله، فأنف قومه، وأبوا أن يستمعوه واستكبروا عليه، وقالوا:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] وقالوا: { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26]؛ فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم؛ فأنزل في الكتاب كلاماً افتتح به السورة لم يكن من كلام قومه؛ فلما سمعوه ظنوا أنه بديع ابتدعه محمد صلى الله عليه وسلم كإبداعهم البلاغات والأوابد، وأنفوا أن يكون محمد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون، فتدبروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام، فسمعوا كلاماً مجيداً [حكيماً]، ونبأ عظيما، وحججاً نيرة، ومواعظ شافية؛ فدخل أكثرهم في الإسلام، وقعد عنه رجلان: معاندٌ متعمد، وجاهل مقلد لا ينظر، وفيما أنزل مما وصف قوله: { كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1]، و { طسۤمۤ } [الشعراء، القصص: 1]، و [{ الۤمۤصۤ }] و { الۤر } [يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر: 1] وما أشبهها.
فقال: { الۤمۤصۤ }.
ليعطف بها على النظر فيما بعدها.
ثم ابتدأ فقال: { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ }.
يقول: كتاب من ربك؛ لتنذر به عباده.
{ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ }.
يقول: فلا يضيقن صدرك عن الذي فرض الله عليك فيه من البلاغ إلى قومك، وبما فرض عليك من البراءة منهم، وممّا يعبدون من دون الله؛ فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف ما خافت الرسل من بين يديه، فقال موسى:
{ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [الشعراء: 14] وقد كان يعرف قومه بالتسرع إلى القتل فيما ليس مثل ما يأتيهم به، فأمنه الله منهم بقوله: { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67]، وقال في آخر هذه السورة: { ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [الأعراف: 195]: يفهمونها عن الله - تعالى - فإنها من أعظم آيات الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أعلمه أنهم لا يصلون إلى ما يخاف منهم. وفي الأثر "أن الله - تعالى - لما أرسله إلى قومه، فقال: أي رب إذا يثلغوا رأسي فيذروه مثل خُبزَة فأمنه الله - تعالى - من ذلك" ، فقال: { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } من البلاغ، ولا يضيقن صدرك بما فرض الله عليك من العبادة والحكم الذي تخالف فيه قومك.
ثم وصف الكتاب فقال: { وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }.
يقول: يتذكرون بما فيه ويتدبرونه فيعلمون به الحق من الباطل، ويذكرون به ما فرض عليهم.
ويحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطاباً خاطب الله بها رسله يفهمونها لا يفهمها غيرهم، [على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصّهم إشارات يفهمها خواصهم ولا يفهمها غيرهم]، هذا متعارف فيما بين الخلق أن يكون لهم فيما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا؛ فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابات من الله خاطب بها رسله - وهم خواصه - يفهمونها ولا يفهمها غيرهم، ثم وجهُ فهمهم يكون لوجهين:
يخبرهم فيقول: إني إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا، أو كان البيان والمراد منها مقروناً بها وقت إنزالها ففهموا المراد منها بما أفهمهم الله وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم؛ كقوله:
{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } [النساء: 105]، أرى رسله شيئاً لم ير ذلك غيرهم، ولا أطلعهم على ذلك، فهو من المتشابه على غيرهم؛ وأما على الرسل فليس من المتشابه.
وقال الفراء: يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة المتفرقة التي أنزلها من أ ب ت ث إلى آخرها كأنه قال: إني جمعت هذه الحروف المقطعة فجعلتها كتاباً، فأنزلتها؛ من نحو: { الۤمۤصۤ } [الأعراف: 1]، و
{ الۤمۤ * ٱللَّهُ } [آل عمران: 1-2]، و { الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة: 1-2]، و { الۤمۤر } [الرعد: 1] ونحوه، والله أعلم بما أراد به ذلك.
وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب مقدار ما حفظنا وفهمنا من أقاويل أهل العلم في ذلك.
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ }.
قيل: الحرج: هو الضيق في الصدر، ثم يحتمل ضيق الصدر وجوهاً:
يحتمل ضيق الصدر ما يحل عليه في ذلك من الشدائد والخطورات بتبليغه إلى الكفرة الذين نشئوا على الكفر والشرك، وخاصة الفراعنة والملوك الذين همتهم القتل والإهلاك لمن استقبلهم بالخلاف.
أو أن يوسوس في صدره الشيطان أنه ليس من عند الله، أو أن يقول له: إنه من أساطير الأولين؛ على ما قال أولئك الكفرة:
{ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [الأحقاف: 17].
ثم يحتمل قوله: { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } على النهي، أي: لا يكن في صدرك منه حرج، أي: لا يضق صدرك مما حمل عليك.
وقال بعضهم: { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ }، أي: شك أنه من عند الله نزل.
وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي؛ لأنه بالنهي ما يكون عصمه.
ويحتمل: ليس على النهي، ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ كقوله:
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل: 127]، وكقوله: { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8]: ليس على النهي؛ ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
ثم إن الله - عز وجل - أمنه عما كان يخاف من أولئك بقوله:
{ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67]، وأمنه من وساوس الشيطان؛ على ما روي في الخبر أنه قيل: "ألك شيطان؟ فقال: كان، ولكن أعنت عليه؛ فأسلم" أمّن - عز وجل - رسوله عن ذلك كله؛ لما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { لِتُنذِرَ بِهِ }.
يحتمل أنه أمره أن ينذر به الكفرة، ويبشر به المؤمنين؛ كقوله:
{ لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ } [الأحقاف: 12]؛ فعلى ذلك قوله: { لِتُنذِرَ بِهِ } الكفرة.
{ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }.
أي: بشرى على ما ذكرنا، ويكون في الإنذار بشرى؛ لأنه إذا أنذر فقبل الإنذار، فهو له بشرى.
ويحتمل قوله: { لِتُنذِرَ بِهِ }، أي: الكل الموافق والمخالف جميعاً؛ كقوله:
{ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1]، { وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }، أي: الذي ينتفع به المؤمنون.
وقوله - عز وجل -: { ٱتَّبِعُواْ }.
لا تتبعوا أولئك في التحليل والتحريم وفي الأمر والنهي؛ لأنه ليس إلى الخلق التحليل والتحريم.
وقوله: { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ }.
أمر المؤمنين أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، على ما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما أنزل إليه من ربه؛ كقوله:
{ ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [الأنعام: 106]؛ ليعلم أن ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منزل إلى المؤمنين [جميعاً].
وقوله - عز وجل -: { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ }.
فيما ذكر، وما يحل وما يحرم، وما يأمر وينهى.
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ }.
قيل: أرباباً، أي لا تتبعوا من دونه أولياء فيما يحلون ويحرمون، ويأمرون وينهون، أي: إنما عليهم اتباع ما حرم عليهم، واستحلال ما أحل لهم. وأما إنشاء التحليل والتحريم فلا.
وقال بعض أهل التأويل: أولياء الأصنام، والأوثان. ولكن لا يحتمل هاهنا، ولكن قد ذكرنا أنهم كانوا يتبعون عظماءهم في التحليل والتحريم؛ كقوله:
{ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [التوبة: 31]، وكانوا لا يتخذون أولئك الأحبار أرباباً في الحقيقة، ولكن كانوا يتبعونهم فيما يحلون ويحرمون ويصدرون عن آرائهم؛ فسموا بذلك لشدة اتباعهم أولئك في التحليل والتحريم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }.
قال أهل التأويل: يعني بالقليل: المؤمنين، ولكن يحتمل قوله: { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }، أي: لا تتذكرون رأساً؛ لأن الخطاب جرى فيه لأولئك الكفرة، وفيهم نزلت الآية.