التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٥٩
قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٦٠
قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٦١
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦٢
أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٦٣
فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ
٦٤
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } كما أرسلناك إلى قومك ولست أنت بأول رسول؛ كقوله: { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 9].
وفيه دلالة أن الإيمان يصح بالأنبياء والرسل، وإن لم تعرف أنسابهم؛ لأن الله - عز وجل - ذكر الأنبياء والرسل بأساميهم، ولم يذكر أنسابهم، دل ذلك أن الإيمان يكون بهم [إيماناً] وإن لم تعرف أنسابهم؛ وكذلك يصح الإيمان وإن لم تعرف أسماؤهم؛ لأن من الأنبياء من لا يعرف اسمه، فيصح الإيمان بجملة الأنبياء، وإن لم تعرف أسماؤهم، وفي ذلك دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن رسالة نوح، فدل أنه بالله عرف ذلك.
وقوله - عز وجل -: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ }.
قيل: قوله: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ }.، أي: وحدوا الله، سموا التوحيد عبادة لأن العبادة، لا تكون ولا تصح إلا بالتوحيد فيها لله خالصاً سمي بذلك مجازاً [إذ يجوز] أن يكون عبادة.
وقوله - عز وجل -: { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ }.
أي: ما لكم من الإله الحق الذي ثبتت ألوهيته وربوبيته بالدلائل [والبراهين] من إله غيره.
وقوله - عز وجل -: { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
قال بعضهم: { إِنِّيۤ أَخَافُ }، أي: إني أعلم أن ينزل عليكم عذاب يوم عظيم إن متم على هذا.
أو قال بعضهم: الخوف هو الخوف، وهو خوف إشفاق، وذلك يحتمل أن يكون في الوقت الذي كان يطمع في إيمان قومه، ثم آيسه الله عن إيمان قومه بقوله:
{ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36].
وقوله - عز وجل -: { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
هو يوم عظيم للخلق؛ كقوله:
{ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } [المطففين: 5]. { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [المطففين: 6] وهو عظيم للخلق على ما وصف.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ }.
هم أشراف قومه وسادتهم؛ كقوله:
{ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا... } [الأحزاب: 67] الآية، وكانوا هم أضداد الأنبياء والرسل؛ لأنهم كانوا يدعون الناس إلى ما يوحي إليهم الشياطين، والرسل كانوا يدعون إلى ما يوحي إليهم الله، وينزل عليهم؛ لذلك قالوا: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }؛ لأنهم ظنوا أن ما أوحى إليهم الشيطان هو الحق، وأن ما يدعو إليه الرسل هو ضلال وباطل.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ }.
أي: لست أنا بضال؛ لأنه إذا نفى الضلال عنه، نفى أن يكون ضالاً، وهو حرف رفق ولين، وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل أن يعاملوا قومهم؛ لأن ذلك أنجع في القلوب، وإلى القبول أقرب.
{ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، والعالم هو جوهر الكل.
ويحتمل قوله: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: لفي خطأٍ مبين، ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: نسبوه إلى الخطأ؛ لما رأوه خالف الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل لمن خالفهم.
والثاني: نسبوه إلى الخطأ؛ لأنه [ترك] دين آبائه وأجداده، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي }.
رسالته التي أمرني بتبليغها إليكم، قبلتم أو رددتم؛ [أُوعدتم أوْ وعدتم] لأني أبلغها على أي حال استقبلتموني، أو يقول: { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } رسالته التي أرسلها إليّ.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنصَحُ لَكُمْ } يحتمل قوله: { وَأَنصَحُ لَكُمْ }: أي: أدعوكم وآمركم إلى ما فيه صلاحكم، وأنهاكم عما فيه فسادكم، والنصيحة هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد، وتكون النصيحة لهم، ولجميع المؤمنين.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"ألا إن الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله [ولجميع المؤمنين]" .
قال الشيخ أبو الفدا الحكيم - رحمة الله عليه -: النصيحة: هي النهاية من صدق العناية، ثم أخبر أنه يبلغهم رسالات به، ولم يبين فيم ذا؟! في كتاب أنزله عليه، أو بوحي في غير كتاب يوحى إليه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى التصديق له فيما يبلغ إليهم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
قد أتاه من الله العلم بأشياء ما لم يأت أولئك مثله، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه:
{ يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ } [مريم: 43]، ويحتمل قوله: { وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ } من العذاب أنه ينزل بكم { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أنتم إذا دمتم على ما أنتم عليه.
وقوله: { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ }.
أي: تعجبون بما جاءكم ذكر من الله على يدي رجل منكم ما لا أقدر أنا ولا تقدرون أنتم على مثله، كانوا يعجبون وينكرون أن يكون رسل الله من البشر بقولهم:
{ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [المؤمنون: 24]، { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [المؤمنون: 24]، ونحو ذلك كانوا ينكرون رسالة البشر وما ينبغي لهم أن ينكروا ذلك؛ لأنهم قد كانوا رأوا تفضيل بعض البشر على بعض، وفي وضع الرسالة فيهم - أعني في الرسل - تفضيلهم، وذلك قد رأوا فيما بينهم، ولله تفضيل بعضهم على بعض؛ إذ له الخلق والأمر، [ولكل] ذي ملك وسلطان أن يصنع في ملكه ما شاء من تفضيل بعض على بعض وغيره.
أو يقول: { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ }: على يدي رجل منكم، ولو كان جاء الذكر على من هو من غير جوهركم، كان في ذلك لبس واشتباه عليكم.
وقوله - عز وجل -: { لِيُنذِرَكُمْ } عذاب الله: ولتتقوا معاصيه { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }: إن اتقيتم ما نهاكم [عنه]، أو كان في قومه من يجوز أن يرحم.
وقوله - عز وجل -: { فَكَذَّبُوهُ }.
يعني نوحاً [فيما] دعاهم إلى عبادة الله ووحدانيته، ونهاهم عن عبادة غير الله، أو كذبوه فيما آتاهم من آيات نبوته ورسالته.
وقوله - عز وجل -: { فَكَذَّبُوهُ }.
يعني نوحاً [فيما] دعاهم إلى عبادة الله ووحدانيته، ونهاهم عن عبادة غير الله، أو كذبوه فيما آتاهم من آيات نبوته ورسالته.
وقوله - عز وجل -: { فَأَنجَيْنَاهُ }.
يعني نوحاً، والذين آمنوا في الفلك.
{ وَأَغْرَقْنَا }.
الذين كذبوا بآياتنا، إذا كان إهلاك القوم إهلاك تعذيب وعقوبة، ينجي أولياءه ويبقيهم إلى الآجال التي قدر لهم، ويكون ذلك نجاة لهم من ذلك العذاب الذي حل بالأعداء.
وقوله - عز وجل - { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ }: [أي: بآياتنا] التي جعلناها لإثبات رسالته ونبوته، ويحتمل: كذبوا بآياتنا التي أعطيناه لوحدانية الله وألوهيته.
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ }.
عموا عن الحق.