التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١
قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٢
أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ
٣
يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٤
-نوح

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
في ذكر نبأ نوح - عليه السلام - دلالة رسالته وآية نبوته؛ لما ذكرنا: أن هذا لم يكن من علمه، ولا علم قومه، ولم يختلف النبي صلى الله عليه وسلم إلى من عنده علم [به] فتعلمه منه، فعلم أنه بالله تعالى علمه لا بأحد من خلقه؛ فيكون فيه إلزام الحجة عليهم، وفيه إعلام رسول الله - عليه السلام - ما لقي نوح - عليه السلام - من قومه؛ ليصبره بذلك على أذى قومه؛ إذ السورة مكية.
ثم أمره بالإنذار، ولم يذكر معه البشارة، فكذلك قال نوح - عليه السلام - { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ولم يقل: بشير، وقد كان هو بشيرا ونذيرا، فجائز أن يكون اقتصر على ذكر النذارة؛ لأن في ذكرها ذكر البشارة؛ وذلك أنهم إذا استوجبوا العذاب إذا داموا على ما هم فيه من الضلالة وعبادة غير الله تعالى، فهم إذا انتهوا عن ذلك استوجبوا العفو، واستيجاب العفو وقوع البشارة، فإذا كان ذكر أحد الوجهين يقتضي ذكر الوجه الآخر، اكتفي بذكر أحدهما عن ذكر الآخر.
وجائز أن يكون خص النذارة بالذكر؛ لأن الحال كانت حال الإنذار؛ لأنهم كانوا معرضين عن طاعة الله تعالى ومقبلين على عبادة غيره، فكانوا مستوجبين للنذارة، ولم يكونوا من أهل البشارة، وإنما يصيرون من أهلها إذا انتهوا عما هم عليه؛ فيكون قوله: { أَنذِرْ قَوْمَكَ } إن داموا على ما هم عليه، وفي هذا دلالة على أن المرء إذا أخذ غير طريق الهدى، فالسبيل فيه أن يفسد عليه مذهبه، ثم إذا ظهر فساده عنده، أمر باتباع سبيل الهدى وبين له الحجج والدلائل؛ لينجع فيه ذلك، ليس أن يحتج عليه بالحجج التي هي حجج مذهب الحق قبل أن يبين له فساد ما هو فيه؛ فإن ذلك لا ينجع فيه، ولا يدعوه إلى قبول الحق والتزامه، بل يبين له قبح ما هو فيه وفساد ما اعتقده، فإذا بان له ذلك يحتاج إلى أن يسأله عن سبيل الهدى فيه؛ ليعرفه بالتعلم.
ثم الأصل أن الدنيا هي سبيل الآخرة، والضلال سبيل يفضي بمن سلكه إلى العذاب الدائم، والهدى سبيل يفضي إلى الثواب الدائم، فالنذارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الضلال، والبشارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الهدى.
وإن شئت قلت: إن النذارة هي أن يبين عسر ما يحل به في العاقبة، والبشارة هي أن يثبته بما يصير إليه في العاقبة من اليسر.
ثم في قوله - عز وجل -: { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } دلالة أن حجة الإسلام تلزم الخلق قبل أن يأتيهم النذير؛ لأنه لو كانت لا تلزمهم، فكانوا في أمن من نزول العذاب قبل أن يأتيهم النذير؛ فلا يخوفون بنزل العذاب بهم قبل أن ينذورا، فلما خوفوا بنزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير دل أن الحجة لازمة عليهم، وأن لله تعالى أن يعذبهم لتركهم التوحيد وإن لم يرسل إليهم الرسل، فيكون تأويل قوله - عز وجل -:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15] على عذاب الاستئصال في الدنيا ليس على عذاب الآخرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }:
أي: مبين بما يقع به الإنذار والتخويف؛ فيكون الإبانة منصرفة إلى النذارة.
ويحتمل أن يكون هذا الوصف راجعا إلى نفسه خاصة؛ كأنه قال: نذير لكم مبين، أي: إني لم أقم في دعائي إياكم إلى عبادة الله تعالى وإنذاركم من عند نفسي، ولكن بما اختصني الله تعالى وولاني ذلك.
ثم الأصل في الإنذار [أن يقتضي] نهيا وفي النهي [أن يقتضي] أمرا، ولكن الإنذار يقتضي نهيا وَكِيدا، والنهي الوكيد يقتضي الأمر بالخلاف أمرا وكيدا.
وأما البشارة فهي تقتضي الأمر الوكيد وغير الوكيد؛ لأنه يستوجب البشارة بكل خير يفعله، وإن كان للمرء ترك ذلك الخير بخير آخر يأتى به، فلا يفهم بنفس البشارة الأمر الوكيد؛ ويفهم بتصريح النذارة كلا الوجهين اللذين ذكرناهما.
وإذا كان كذلك، فمطلق البشارة لا يدل على تحقيق النذارة، وأما النذارة فهي تدل على البشارة؛ لأن النذارة على ما هو فيه في الفعل تلزم النهي، وإذا انتهى عنه فقد حصل العفو، وفي حصول العفو ارتفاع ما خوف وذهابه.
وقوله - عز وجل -: { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } فكأنه قال: أنذرهم على عبادة غير الله، ومرهم بعبادة من يستحق العبادة، وهو الله تعالى؛ إذ الأمر بالإنذار يقتضي النهى عما هم عليه ويدعو إلى خلافه، وبين لهم الخلاف الذي دعوا إليه؛ لقوله - عز وجل -: { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ }.
وقيل: { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ } أي: وحدوه.
وقال [بعضهم]: كل عبادة جرى بها الأمر في القرآن على الإرسال فهي منصرفة إلى التوحيد.
فكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن الآيات التي فيها أمر بالعبادة نزلت في أهل الكفر؛ لأنه خاطب بقوله:
{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [البقرة: 21]، ولم يخاطب بقوله - عز وجل -: ياأيها الذين آمنوا اعبدوا ربكم، وإذا ثبت أنها في أهل الكفر، والكافر أول ما يؤمر يؤمر بالتوحيد ليس يخاطب بعبادة أخرى سواه؛ لأنه ما لم يأت بالتوحيد لم يقبل منه شيء من العبادات، فجعلوا تأويل العبادة التوحيد لهذا؛ لا أن يكون العبادة عبارة عن التوحيد خاصة، بل العبادة يراد بها التوحيد مرة إذا ذكرت عقيب الكفر، وإذا ذكرت في أهل الإيمان فالعبادة منهم أن يفوا بمعاملة ما اعتقدوه بالقول؛ وأن ينجزوا ما وعدوا من أنفسهم، وهذا كما ذكرنا في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: أنهما إذا ذكرتا في أهل الكفر، انصرف المراد من ذلك إلى الاعتقاد لا إلى الفعل؛ لأنهم ليسوا من أهل الفعل، وإذا ذكرتا في أهل الإسلام أريد بالإقامة والإتياء إيجاد الفعل، فكذلك الحكم في العبادة بقوله: { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ } أي: وحدوه واتقوه، أي: اتقوا الإشراك في عبادته، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله تعالى وألا تشركوا به شيئا.
وجائز أن يكون قوله: { وَٱتَّقُوهُ }، أي: اتقوا المهالك كلها، واتقوا النار؛ كما قال الله - عز وجل -:
{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131]، وقوله تعالى: { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6] فالتقوى إذا ذكر على الانفراد مرسلا، اقتضى الانتهاء عما فيه الهلاك، واقتضى الأمر بالعبادة والطاعة، وإذا جمع بين العبادة والتقوى، كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك، وهو كما قلنا في البر والتقوى: إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر، وإذا جمعا في الذكر، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة.
وقال الحسن في قوله - عز وجل -: { وَٱتَّقُوهُ }، أي: اتقوا الله في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى وما يتقى.
ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى الله، والعبادة لا تكون إلا لله تعالى؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة: { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ }، فأضافها إلى الله تعالى، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله: { وَأَطِيعُونِ }، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك بالله تعالى في الطاعة، بل الله تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله:
{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80] وذم من يعدل بالله تعالى في العبادة قوله تعالى: { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 150] فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف، والله تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا [على الأمر] لا غير؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، وقولهم: { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]، سموا: عباد الأصنام، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له.
وقوله - عز وجل -: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } إن صرفت قوله: { وَٱتَّقُوهُ } إلى اتقاء الشرك يرجع قوله: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك؛ كقوله - عز وجل -:
{ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38].
وإن صرفته إلى سائر وجوه المهالك، رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا؛ وهو كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114]؛ فيكون قوله { مِّن } صلة على ما ذكره أهل التفسير، ومعناه: يغفر لكم ذنوبكم.
وجائز أن يكون قوله: { مِّن } على التحقيق ليس على حق الصلة؛ لأنه قد يكون من الذنوب ذنوب يؤاخذ بها بعد الإسلام، وهي التي تكون بينه وبين الخلق من القصاص وغيره، فالمأثم بالقتل وإن زال عنه بالتوبة؛ فإن القصاص لا يرتفع عنه.
وقوله - عز وجل -: { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } جائز أن يكون أولئك القوم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام؛ فيخرج قوله: { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } مخرج الأمان لهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا؛ إذ يكون معناه: أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى انقضاء أجلكم المسمى سالمين آمنين، لا يتهيأ لعدوكم أن يمكر بكم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }، وقال في موضع آخر:
{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34] جائز أن يكون قوله: { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ }، أي: لا يتأخرون عن آجالهم أو لا يؤخرون بما يطلبون من التأخير؛ فيكون في هذا إياس لهم أنهم لا يؤخرون إذا طلبوا التأخير؛ قال الله تعالى: { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [المنافقون: 10]؛ فأخبر - جل جلاله - أن الموت إذا أتاه طلب التأخير ليبذل ما طلب منه البذل قبل ذلك من التصدق والإيمان به، فقطع عنهم طمعهم بقوله: { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [المنافقون: 11]، وبقوله: { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34]، وبقوله: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ }.
وهذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون بأن رجلا لو جاء وقتل آخر، فإنما قتله قبل انقضاء أجله، والله تعالى يقول:
{ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34]، والأصل: أن الله تعالى إذا علم أنه يقتل فإنما يجعل انقضاء أجله بالقتل ليس بغيره؛ لأنه لا يجوز أن يجعل انقضاء أجله بموته حتف نفسه، ثم ينقضي أجله بغير ذلك؛ لأنه لو جاز ذلك لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب، والجهل بالعواقب يسقط الربوبية، ويثبت الجهل.
وقوله - عز وجل -: { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }.
أي: لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء آجالكم، لكنتم تبذلون للحال ما أريد منكم؛ لئلا يحل بكم العذاب.
أو [أن] يكون معنى قوله: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ }، أي: أجل العذاب إذا حل، وقع لا محالة، فلو علموا بوقوعه لا محالة، لارتدعوا عنه.