التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً
١١
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً
١٢
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً
١٣
وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً
١٤
وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً
١٥
وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً
١٦
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
١٧
وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً
١٨
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
١٩
-الجن

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }.
قال بعضهم: { ٱلصَّالِحُونَ } هم المؤمنون و { دُونَ ذَلِكَ } هم الكافرون.
ويشبه أن يكون { ٱلصَّالِحُونَ }، و { دُونَ ذَلِكَ } ليس على الإيمان والكفر؛ لأن هذا قد ذكر فيما تقدم من الآيات بقوله: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ }، ولو كان التأويل على ما ذكروا، لكان يقع موقع التكرار؛ ولكن تأويله عندنا: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ }، أي: منا من عرف بالصلاح والستر، { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } وهم الفسقة؛ فيكون فيه إبانة أن كل أهل دين فيهم الصالح المرضي، وفيهم الفاسق المفسد في دينه؛ قال الله تعالى:
{ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } [النور: 32]، ولو لم يكن منا غير صالح، لم يكن لاشتراط الصالحين معنى، وكقوله تعالى: { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [الطلاق: 2]، فلو لم يكن منا أهل فسق، لما قال هذا.
وقوله - عز وجل -: { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً }.
أي: أهواء متفرقة، ولم يذكروا في الأهواء المتفرقة الأصلح والأدون، وذكروا ذلك عند ذكر الفاسق والصالح؛ لأن أهل الأهواء كلٌّ [يظن] في نفسه: أنه هو المحق، وغيره على الباطل، وأما الفاسق فهو يعرف أنه يتعاطى بفسقه ما لا يحل له، ويرتكب ما نهي عنه، وكذلك كل من شاهد فسقه يعرف أنه على الباطل؛ وإن كان كذلك، ظهر الدون فيه، وظهر الصالح، ولم يظهر ذلك في اعتقاد المذاهب؛ فلم يتكلم فيه بالدون والصلاح.
ثم الطرائق هي المذاهب والأهواء، والقدد: القطع، يقال: قَدَّه، أي: قطعه، فمعناه: أنا كنا على مذاهب متفرقة، وأهواء متشتتة، ففي الآية أن في الجن أهواء متفرقة، كما [أن] ذلك في الإنس، والأصل فيه أن طريق معرفة المذهب والدين الفكر والاجتهاد [ليتوصل به] إلى الحق، والمجتهد قد يصيب الطريق مرة، ويزيغ عنه أخرى؛ فلهذا ما أصاب البعض من الخلائق الطريق المستقيم، ومنهم من زاغ عنه.
ويعلم بهذا أن سبيل الجن في التوحيد وسبيل الإنس واحد، وهو الفكر، وله الاجتهاد، وأن فيهم آيات متشابهة كما في الإنس؛ إذ عن المتشابه يتولد الزيغ؛ لذلك تفرقوا على أهواء [متفرقة] مختلفة، وأما أسباب الفسق مجتمعة، فتعرف بالمعاينة، فيظهر الأدون والأرفع في الدين.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }: ذكر أبو بكر الأصم أنه على كفرهم ظنوا ألا يعجزوا الله تعالى.
ولكن أكثر أهل التأويل ذكروا أن الظن هاهنا في موضع العلم، ويؤيد تأويلهم قراءة حفصة - رضي الله عنها - فإنها كانت تقرأ: { وأنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض فَرَرَةً ولن نسبقه هربا }.
فقوله: { أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: لن نفوته، ولا يتهيأ لنا أن نعجز الله بأهل الأرض عن إيصال نقمته وعذابه إلينا.
ويخرج قوله: { فَرَرَةً } على ذلك، أي: لو فررنا من عذابه، لن نعجزه ألا يعذبنا.
والفرار قد يكون بدون الطلب؛ قال الله - عز وجل -:
{ فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [الذاريات: 50]، ولم يرد به الفرار من الطلب، وأما الهرب فإنه لا يكون إلا عن طلب؛ فكأنهم قالوا: لا يتهيأ لنا الفرار عن عذاب الله تعالى؛ لكثرة الأعوان والأنصار، ولا يعجزه هربنا عن طلب.
أو أن يكون قوله عز وجل: { لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ } وإن دخلنا تحت تخوم الأرضين، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض، فيكون فيه إقرار بأنا لا نقدر بالحيل والأسباب أن نحترز من عذاب الله تعالى، كما يتهيأ الاحتراز عن ملوك الأرض بالحيل والأسباب.
ثم مثل هذا الكلام يصدر عن أهل الإسلام؛ لأن مثل هذا الكلام إنما يتكلم به من يخاف حلول نقم الله تعالى عليه، والذي أيقن بالبعث، ويذكر مقامه بين يدي ربه، وأما أهل الكفر: فلم يؤمنوا بالبعث حتى يحملهم خوف العاقبة على النظر في مثل هذا؛ فثبت أن هذه المقالة صدرت عن أهل الإسلام، ليس عن أهل الكفر؛ كما ذكره أبو بكر الأصم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ }.
فالهدى هو الدعاء إلى الحق، فيحتمل أن يكون لما دعينا إلى الحق - وهو القرآن - آمنا به؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل -:
{ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } [يونس: 35]، أي: يدعو إليه، وقال [الله تعالى] في أول السورة: { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } [الجن: 2].
ويجوز أن يكون الهدى هو الاهتداء، أي: لما سمعنا ما به اهتدينا.
وظن أبو بكر الأصم أنهم كانوا كفرة إلى أن سمعوا الهدى فآمنوا به؛ لأنه لو كانوا على الهدى من قبل لكان الإيمان منهم سابقا؛ فلا يكون قوله: { آمَنَّا بِهِ } وقد آمنوا من قبل - معنى، وليس يثبت كفرهم بما ذكر؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا على الإيمان فلما سمعوا الهدى، أحدثوا إيمانا بهذا الهدى على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل -:
{ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [التوبة: 124]، وقال: { لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } [الفتح: 4]، أي: زادوا إيمانا؛ [بالتفسير على] ما سبق منهم من الإيمان بالجملة لأنهم لم يكونوا من قبل مؤمنين، فأحدثوه للحال، وكذلك قال: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، وقد هدوا الصراط المستقيم، ولكنهم يريدون بهذا الدعاء أن اهدنا بالإشارة والتعيين إليه الصراط [المستقيم] على ما هديتنا في الجملة؛ فكذلك إحداثهم الإيمان بما سمعوا من الهدى لا ينفي عنهم الإيمان فيما سبق من الأوقات، بل يجوز أن يكونوا مؤمنين من قبل، ثم يحدثوا الإيمان بكل أمر يجيئهم من عند الله - عز وجل -، ولا يدل إيمانهم [به] على أنهم لم يكونوا من قبل مسلمين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً }.
قال -رحمه الله -: إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من الله تعالى إلا المعتزلة؛ فإنهم يخافون ذلك؛ لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان، ثم يطلقون القول فيهم: إنهم يخلدون في النار، وفي التخليد خوف البخس والرهق، بل فيه ما يزيد على البخس؛ لأن البخس هو النقصان، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم.
وقال تعالى:
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286]، والمعتزلة تزعم أنه [لو] آخذهم بالخطأ والنسيان، كان جائراً.
وقال:
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران: 8] وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى، كان ذلك منه جورا وظلما، فهم أبدا على خوف من جور ربهم.
ونحن نقول بأنه لو آخذهم به، كان يكون ذلك منه عدلا، وإذا عفا عنهم، كان ذلك منه إنعاما وإفضالا، فنحن ندعو الله تعالى، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله فنهلك، بل يعاملنا بالإفضال والإنعام.
وعلى قول المعتزلة من ارتكب كبيرة، ردت عليه حسناته، وصار عدوّاً لله تعالى، وخلد في النار أبد الآبدين، والله يقول:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا } [النساء: 40]، وأولى الحسنات التي يستوجب عليها المضاعفة هو الإيمان بالله تعالى، فلا يجوز أن يخلد في النار، ويذهب عنه منفعة الإيمان، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيرا.
ثم قوله: { بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } يحتمل وجهين:
أحدهما: البخس: النقصان، أي: لا ينقص من حسناته، والرهق: الظلم؛ كقوله تعالى:
{ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [طه: 112]، وأن يحمل عليه من سيئات ارتكبها غيره.
والثاني: { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً }، أي: ألا تقبل حسناته إذا تاب، { وَلاَ رَهَقاً } أي: ظلم؛ فلا يحسب له من حسناته شيئاً.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ }.
القاسط: الجائر والمقسط: العادل.
ثم في العدل ثلاث لغات؛ يقال عدل عنه: إذا مال وجار.
وعدل به: إذا جعل له شريكا وعديلا.
وعدل فيه: إذا حكم بالعدل.
وقوله - عز وجل -: { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً }:
التحري والتوخي هو القصد؛ فكأنه يقول: قصد الرشد بالإسلام.
وقوله - عز وجل -: { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }.
قال أبو بكر الأصم: دلت الآية على أن للجن لحما ودما كما للإنس؛ [لأنه] قال في الإنس:
{ وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [البقرة: 24]، فلو لم يكونوا لحما ودما، لم يصيروا لجهنم حطبا.
ولكن هذا لا يدل؛ لأن اللحم من شأنه أن يحترق وينضج، ولا يصلح أن يكون وقودا، ولكن الله تعالى باللطف، صير لحمان الإنس وقودا، ليس أن صار حطبا بما كان لحما، فليس في الآية دلالة ما ذكر.
بل فيها أن الجن قد امتحنوا بالعبادة كما امتحن بها الإنس، وأنهم إذا عصوا ربهم استوجبوا العقاب مثل ما يستوجبه الإنس.
ثم ذكر عن أبي حنيفة -رحمه الله - أنه قال: ليس للجن ثواب، وعليهم العقاب إذا عصوا.
ومعنى قوله: ليس لهم ثواب عندنا، ليس يريد به أن الله تعالى لا يرضى عنهم إذا عبدوه، ولا تعظم منزلتهم عنده، ولكنه يريد به أن الذي وعد للإنس من المآكل والمشارب والأزواج الحسان والحور في الجنة على الخلود - ليس لهم فيها؛ لأن الوعد من الله تعالى بها جرى للإنس، ولم يجر الوعد للجن، ولا ذكر ذلك في شيء من القرآن، والذي وعد به الإنس طريقه الإفضال والإنعام، لا أن يكون ذلك حقّاً للإنس قِبَلَه، فإذا لم يجر لهم الوعد بذلك، لم يجب القول لهم بالموعود.
وأما العقاب فإن الحكمة توجب التعذيب لمن كفر به؛ فلا يجوز أن تكون الحكمة توجب تعذيب الكفرة، ثم لا يعذب الجن إذا كفروا؛ فلذلك وجب القول بعقابهم، ولم يجب القول بالثواب، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً }، اختلف فيه:
فمنهم من قال: طريقة الهدى.
ومنهم من قال: طريقة الكفر.
فمن قال: المراد: هو طريقة الهدى، قالوا: إن الطريقة المعروفة المعهودة هي طريق الله تعالى، فعند الإطلاق، تنصرف إليه؛ كالدين متى ذكر مطلقا ينصرف إلى دين الحق، وكذلك: السبيل المطلق؛ قال الله تعالى:
{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، وهو الإسلام.
ثم يخرج هذا على وجوه:
أحدها: ينصرف إلى الكفرة أنهم: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ }، أي: لو أجابوا إلى ما يدعون إليه من الهدى، { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً }، أي: وسعنا عليهم العيش، وكثرنا أموالهم، ويكون ذكر الماء هاهنا كناية عن السعة؛ لأن سعة الدنيا كلها تتصل بالماء، والماء أصلها؛ قال الله تعالى:
{ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22]، فأخبر أن رزق الخلق في السماء، والذي ينزل من السماء الماء، وهو المطر، وجعل ذلك رزقا، إذ هو أصل رزق الخلق؛ فكذلك ذكر [الماء] هاهنا كناية عن السعة من الوجه الذي ذكرنا.
فإن كان على هذا؛ فيكون الخطاب راجعا إلى الوقت الذي كانوا ابتلوا فيه بالقحط والسنين؛ فوعد لهم أنهم لو أجابوا إلى ما دعوا إليه يرفع عنهم القحط والسنين، ويوسع عليهم في الرزق، وهو كقول نوح وهود وغيرهما، ووعدهم قومهم بإرسال الأمطار، وتكثير الأنزال والأموال والأولاد ونحوه.
ويجوز أن يكون هذا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا في أول الإسلام في ضيق الحال، وشدة من العيش، وكانوا يتفرقون في الشعاب والأودية؛ لشدة ما حل بهم من الجوع؛ ليصيبوا من عشبها، وعند اشتداد الحال تخاف النفس من إهلاكها والتبديل، فوعدوا السعة في العيش { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } التي كانوا عليها، أي: داموا عليها ولم يبدلوا الدين بالهوى والحق بالباطل، كما وعد لهم النصر والظفر على الأعداء، مع قلة أنصارهم إن داموا على الإسلام.
ويحتمل ما قال بعضهم: أن تأويل قوله: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } أي: لو أسلم أهل الأرض كلهم جميعا، لوسعنا عليهم الدنيا، وكثرنا أموالهم وأولادهم؛ حتى يفتنوا فيها ويمتحنوا بمحن شديدة، فيحتمل البعث منهم فيبقوا مؤمنين، ولا يتحمل البعض فيبغون ويعودون إلى ما كانوا عليه من الكفر؛ حتى لا يقع الخلف في وعدنا؛ فإن الله تعالى وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولا يجوز أن يقع في وعيده خلف، وهم لو استقاموا على الطريقة، ولم يبغوا، أدى ذلك إلى خلف الوعيد؛ لأنه لا يملؤه إذا داموا على الطريقة ولم يبغوا، وتكون الحكمة في بغيهم أن يعرف الخلق أن الله - تعالى - لم يخلقهم لمنافع تحصل له، ولكن خلقهم لأنفسهم: إن أحسنوا [أحسنوا] لأنفسهم، وإن أساءوا فعليهم، ولو أبقاهم على الطريقة المستقيمة، وظهرت الموالاة في الجملة، لكان يسبق إلى الأوهام: أنه إنما خلقهم لمنافع نفسه.
وهذا من الله تعالى بيان علمه بما لا يكون أن لو كان كيف يكون؛ إذ الله تعالى علم الإيمان من البعض، والكفر من البعض؛ للحكمة التي ذكرنا، وغيرها مما يقف على بعضها الخلق دون البعض، وحكم بذلك، ثم أخبر أنه لو حكم بأن يستقيم الكل على طريقة الحق، ويؤمنوا، لم يحكم على طريق الأبد في حق الكل، بل حكمه أن يستقيم عليها البعض إلى مدة، ثم يترك، ويبدل الحق بالباطل ويدوم البعض عليها؛ تحقيقا لما ذكرنا من الحكمة؛ وهو كقوله تعالى:
{ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } [آل عمران: 154]، أي: لو لم نفرض عليهم الجهاد والخروج إلى القتال، لبرز الذين [منتهى آجالهم القتل] إلى حوائج أنفسهم، فيقتلون، بيانا منه لحكمه الذي يحكم أنه لو حكم كيف كان؛ فكذا هذا.
وأما من قال: معناه: طريقة الكفر، فهو أن يكون المراد من الاستقامة هاهنا: الإقامة، ولفظة "الإقامة" يعبر بها عن الإقامة على الكفر والإسلام جميعا، وتكون { ٱلطَّرِيقَةِ } هاهنا إشارة إلى الطريقة التي كانوا عرفوها قبل الإسلام وهي الكفر، وإن كانت الطريقة إذا أطلق ذكرها، أريد بها طريقة الهدى؛ لأن طريقة الكفر هي التي كانت معروفة فيما بينهم، وكذلك ذكر أهل التأويل: أن الطريقة [هاهنا طريقة الكفر] فقوله: { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً }، أي: وسعنا عليهم، وكثرنا أموالهم؛ ليعلموا جود ربهم؛ حيث بسط عليهم الرزق مع اختيارهم عداوته؛ كما بسط الرزق على أوليائه، وليعلموا أن حلمه يجاوز الحد حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم ولم يعجل بإنزال النقمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } فالفتنة: المحنة التي فيها الشدة، فإن كان هذا في أهل الكفر، ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة؛ لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما يروا من الفضل على من دونهم في المال والسعة؛ ألا ترى إلى قوله:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ: 34] وكذلك قال: { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [الأنعام: 123].
وإن كان التأويل منصرفا إلى أهل الإسلام، ففي التوسيع عليهم محنة شديدة؛ وكذلك جميع ما امتحنا به فيه شدة، قال الله تعالى:
{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] فما من حال تعترض الإنسان إلا وله فيها شدة.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ }: جائز أن يكون: ومن يعرض عن طاعة ربه وعبادته، أو يعرض عن توحيده، أو يعرض عن القرآن؛ إذ هو ذكر.
والإعراض هاهنا عبارة عن الإيثار والاختيار، أي: من يختار ذكر غير الله تعالى على ذكره، أو طاعة غيره على طاعته.
وقوله - عز وجل -: { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً }، وقال في موضع آخر:
{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [المدثر: 17] فجائز أن يكون الصعد، والصعود على التحقيق؛ كما ذكره أهل التفسير: أنهم يكلفون الصعود على جبل من نار، فلا يقدرون إلا بعد شدة عظيمة، ثم إذا بلغوا أعلاها يهوون فيها، فيكون ذلك دأبهم.
وجائز أن يكون على التمثيل؛ وذلك لأن الصعود أشد من الهبود؛ فيكون الصعود عبارة عن المشقة هاهنا: أنه يستقبله ما يشق عليه.
وقيل: المشقة التي عليهم هي ما يحل بهم من العذاب متتابعا عذابا بعد عذاب.
وقال القتبي: الصعود: المشقة، يقال: صعد عليَّ هذا الأمر: يشق عليَّ.
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "ما يصعدني أمر ما يصعدني خطبة النكاح"، أي: ما يشق عليَّ، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً }:
أي: ما يسجد فيه، وما يسجد به، فما يسجد فيه هو البقاع، وما يسجد به هو الجوارح؛ فكأنه يقول بأن البقاع التي يسجد فيها والأعضاء التي يسجد بها لله تعالى؛ لأنه هو الذي خلقها وأنشأها، والمساجد التي بنيت فإنما تبنى لعبادة الله تعالى، وليدعى فيها فلا يشركوا غيره في العبادة والدعاء.
وقال بعضهم: أراد بالمساجد المسجد الحرام؛ روي ذلك عن الضحاك وغيره؛ فكأنه إنما صرف التأويل إلى المسجد الحرام؛ لأن هذه السورة مكية ولم يكن في غيرها من البقاع مساجد.
وقال بعضهم: المساجد هاهنا البيع والكنائس؛ لأن البيع والكنائس بنيت؛ ليعبد الله تعالى فيها، فنهاهم أن يعبدوا فيها غير الله تعالى، فيخرج هذا مخرج الاحتجاج أنكم قد علمتم أن المساجد بنيت لتعبدوا الله فيها فلا تعبدوا فيها غيره، وإذا كان الله منشئها وخالقها دون غيره، فكيف تشركون معه غيره في العبادة والدعاء وليس هو بمنشئ لها؟
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً }.
جائز أن يكون على الدعاء نفسه، فيكون معناه: ألا تدعوا مع الله أحدا؛ لأن الإله اسم المعبود، [و] كان القوم إذا عبدوا شيئا سموه: إلها؛ فيقول: لا تدعوا مع الله أحداً [إلها؛ فإنه هو الإله، وهو المستحق للعبادة] من كل أحد.
وجائز أن يكون أريد بالدعاء العبادة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -:
"الدعاء مخ العبادة" ، وقال تعالى: { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60]؛ فجعل دعاءهم إياه عبادة منهم له؛ فيكون قوله: { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً }، أي: لا تشركوا غيره معه في العبادة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }:
[منهم من يقول: إنهم { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }] على جهة الرغبة فيه [والموالاة] له؛ فقوله { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }، أي: كاد يلتصق بعضهم إلى بعض مثل اللبد ليتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم [أو { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ }، أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم]، كادوا يلتصقون برسول الله؛ حبا لما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حرصا على حفظ ما سمعوا أو تعجباً مما سمعوا؛ فكانوا يحرصون على حفظ ما سمعوا؛ لأنهم كانوا من منذري الجن؛ فحرصوا على حفظه ووعيه؛ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم؛ وتعجبوا مما سمعوا؛ لأنهم سمعوه من مكان لم يكن مكان قراءة الكتب، وسمعوا من الأمي الذي لم يقرأ كتابا قط، ولا عرف المكتوب؛ فتعجبوا منه أشد التعجب.
والتلبد: التصاق الشيء بالشيء التصاقا لا يفصل بعضه عن بعض، وسمي اللبد: لبدا من هذا؛ لأن الصوف يلتصق بعضه ببعض حتى لا يميز.
ومنهم من زعم أنهم فعلوا [هذا؛ لشدة] معاداتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون على هذا منصرفا إلى الكفرة؛ الإنس منهم والجن، فيخبر أنهم اجتمعوا وتظاهروا؛ ليطفئوا نور الله، فأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، فإن كان منصرفاً إلى الكفرة، فقوله: { لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } معناه: [أي]: لما قام محمد صلى الله عليه وسلم [يدعو إلى الله ويوحده]، ويدعو الخلق إلى عبادته وطاعته - هَمَّ المشركون من [الإنس والجن]، وتلبدوا على هذا الأمر أن يطفئوه؛ فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويمضيه.
وإن كان هذا من أهل الإسلام من الجن، والدعاء راجع إلى العبادة؛ فكأنه يقول: لما قام بعبادة الله تعالى وهي الصلاة، كادوا يكونون عليه لبدا؛ لشدة حرصهم في تحفظ ما سمعوا، وشدة حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما سمعوا.