التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً
٢٠
قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً
٢١
قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
٢٢
إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً
٢٣
حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً
٢٤
قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً
٢٥
عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً
٢٦
إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً
٢٧
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً
٢٨
-الجن

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً }، فيه إخبار عن دينه: أن دينه التوحيد، لا الإشراك بالله تعالى، وإخبار عما يدعو الخلق إليه، وذلك توحيد الله تعالى والقيام بطاعته.
وجائز أن يكون هذا على أثر سؤال منهم، ودعوتهم إلى عبادة الأصنام؛ على ما ذكر في الأخبار أنهم قالوا: إنا نعبد إلهك يوما، وتعبد آلهتنا يوما، وهو كقوله - عز وجل -:
{ وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ... } الآية [غافر: 41-42].
وجائز أن يكون كلاما مبتدأ يؤيسهم، ويقنطهم، ويقطع طمعهم عن عوده إلى ما هم عليه.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً }:
أي: ضرّاً في الدين، ورشدا في الدين، والأصل في الأسماء المشتركة أن ينظر إلى مقابلها، فيظهر مرادها بما يقابلها؛ قال الله تعالى:
{ وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } [الجن: 14]، والقاسط: الجائر، وقد يكون غير الكافر جائرا، ثم صرف الجور إلى الكفر؛ فظهر مراده بمقابله، وهو قوله { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } [الجن: 14].
والضر قد يكون في الدين والمال والنفس، ولكنه لما ذكر قوله: { رَشَداً }، والرشد يتكلم به في الدين، علم أن قوله: { ضَرّاً } راجع إليه أيضا، فكأنه يقول: لا أملك إضلالكم، ولا رشدكم؛ إنما ذلك إلى الله تعالى، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء.
والمعتزلة [تزعم أن] الله تعالى لا يملك رشد أحد ولا غيه، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ملكا منه؛ لأنه يملك أن يدعو الخلق إلى الهدى بنفسه، والله تعالى لا يملك ذلك إلا برسوله.
وقال - عز وجل -:
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [البقرة: 272]، وقال: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56]، ولو كان المراد من الهداية المضافة إلى الله تعالى الدعوة والبيان، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهديهم؛ لأنه داع ومبين؛ فثبت أن في الهداية من الله تعالى لطفا لا يبلغه تدبير البشر.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً }.
فكأنهم طلبوا منه ترك تبليغ الرسالة إلى قوم، أو كتمان شيء ما أمر بإظهاره، أو محاباة أحد من الأجلة، فأمر أن يخبرهم أنه لا يجيره أحد من الله تعالى، ولا يجد لنفسه ملجأ إن فعل ذلك، سوى أن [يبلغ رسالات ربه]؛ فيجيره من عذابه؛ ويكون له عنده ملجأ؛ إن فعل.
وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ }:
فمنهم من جعل قوله: { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ } استثناء من قوله: قل إني لا أملك لكم ضرّاً ولا رشدا إلا بلاغا من الله أي: إني لا أملك لكم هدايتكم ولا إضلالكم إلا ما كلفت لأجلكم من تبليغ الرسالة.
ومنهم من جعل هذا استثناء من قوله: { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } إن عدلت عن أمره، ولم أبلغ الرسالة؛ لا يجيرني من عذابه إلا أن أبلغ الرسالة؛ قال الله تعالى:
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة: 67]، وقال: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54].
ولأنه [لا] يجوز أن تقع له الحاجة إلى الإجارة من عذاب الله تعالى، ولم يوجد منه تقصير ولا تضييع يستوجب به العقاب؛ فلا بد من أن يُمْكِن فيه ما ذكرنا من التقصير في التبليغ والعدول عما كلف؛ حتى يستقيم ذكر الإجارة [فيه].
وذكر أبو معاذ - صاحب التفسير -: أن الاستثناء راجع إلى قوله: { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدا }، ليس إلى قوله: { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ }، واستدل على ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ: { قل إني لا أملك لكم غيّاً ولا رشدا إلا بلاغا من الله }، وليس فيما ذكرنا قطع الاستثناء على قوله: قل إني لا أملك لكم ضرّاً ولا رشدا إلا بلاغا من الله؛ للوجه الذي ذكرنا.
ولأن أكثر أهل التأويل أجمعوا على صرف الاستثناء إلى قوله: { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ }؛ فلا يجوز أن يحمل قولهم على الخطأ بما ذكره أبو معاذ، وما ذهبوا إليه وجه الصحة والسداد.
وجائز أن يكون البلاغ والرسالة واحداً؛ فيكون قوله الذي يبلغ بلاغا من الله ورسالاته، ويكون ذلك على التكرار؛ وهو كقوله
{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [آل عمران: 48] قيل: إنهما واحد.
وجائز أن تكون الرسالة نفس ما أنزل، وهو الكتاب، والبلاغ ما أودع فيه من الحكمة والمعاني؛ وكذلك قيل في قوله تعالى:
{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [آل عمران: 48]: إن الكتاب هو المنزل نفسه، والحكمة: ما تضمن فيه من المعاني.
وجائز أن يكون البلاغ من الله تعالى منصرفا إلى حكمه، ورسالاته إلى غيره.
أو تكون رسالاته حكمه، والبلاغ خبره؛ وهو كقوله تعالى:
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [الأنعام: 115]: [صدقا] [أخباره، وعدلا] أحكامه، أو بلاغا من الله حق الله عليهم ورسالاته بما به مصالحهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } قالوا: لا ملجأ وممالاً، أي: موضعا يمال إليه، والالتحاد والإمالة، سمي اللحد: لحدا من هذا؛ لأنه يمال عن سننه.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }، وقال في موضع آخر
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [الأحزاب: 57]، وقال: { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [الأحزاب: 36]، وكل من ارتكب المآثم، فقد دخل في [حد العصيان] وإيذاء الرسول، ولكن المراد هاهنا من يعتقد عصيان الرسول وأذاه؛ لأن الله تعالى أضاف الأذى والعصيان إلى نفسه، ولا أحد يقصد قصد أذى الله تعالى، والله - عز وجل - لا يؤذى، ولكن أضاف أذى الرسول وعصيانه إلى نفسه، وقد كانوا يعتقدون عصيانه وأذاه؛ فجعل عصيانهم وأذاهم لرسوله أذى منهم لله تعالى وعصيانا له؛ فثبت أن هذا في الاعتقاد، وقال - عز وجل -: { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80]، وقال: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء: 65]، فجعل طاعة الرسول طاعة له، وعصيان رسوله عصيانا له.
ولأنه ذكر العصيان على أثر تبليغ الرسالة؛ فثبت أن العصيان هاهنا في ترك القبول لما أنزل على الرسول، وفي اعتقاد العصيان له.
وروي عن أبي حنيفة -رحمه الله - أنه قال: من آمن بالله تعالى، ولم يؤمن برسوله، فهو ليس بمؤمن؛ لأن جهله بالله تعالى هو الذي حمله على تكذيب الرسول؛ لأن الرسول ليس يدعوه إلا إلى ما يقربه إلى الله تعالى، وإلى ما ينجيه من عذابه؛ فلو كان يحب الله تعالى، ويؤمن به، لكان يدعوه ذلك إلى حب الرسول، وإلى طاعته؛ فثبت أن المكذب للرسول جاهل بربه، والمطيع له مطيع لله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً }، وقال في موضع آخر:
{ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } [مريم: 75].
ويحتمل أن يكون هذا في الدنيا والآخرة جميعا، ويكون ذلك راجعا إلى يوم بدر، كما ذكره أهل التأويل؛ إذ قد ظهر في ذلك اليوم أنهم شر مكانا، وأضعف جندا، وأضعف ناصرا.
ويشبه أن يكون هذا في الآخرة؛ فإنهم يعلمون أنهم أقل عددا في الآخرة؛ لأن كل واحد منهم يتبرأ عن صاحبه وناصره ومعينه في الدنيا، ويصير عدوّاً له؛ فيقل عددهم، وأما في يوم بدر، فقد كانوا أكثر عددا من المسلمين؛ فلم يتبين لهم أنهم أقل في العدد.
ويجوز أن يوم بدر يكون المسلمون أكثر عددا؛ لأن الله تعالى أمد المسلمين بملائكته؛ فصار عددهم أكثر في التحقيق، وإن كانت الكفرة في رأي العين أكثر منهم عددا.
ثم يشبه أن تكون هذه الآية نزلت على أثر تخويف الكفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وقوتهم في أنفسهم، وقلة عدد المسلمين، فوعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر وكثرة العدد عند وقوع الحاجة إليها، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً }:
فهذا ذكره عند ذكر الوعيد، وهو قوله: { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً }، فكأنهم سألوه: متى وقت هذا الوعيد؟ فأمر أن يقول: { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً }.
قد ذكرنا فيما تقدم من الآيات: أن ليس في بيان وقت الوعيد فضل يقع في الوعيد؛ بل إذا لم يبين وقت الوعيد، كان فيه فضل تخويف وتحذير لا يوجد فيما يبين؛ لأنه إذا بين، فإن كان فيه أمد سَوَّفَ الناس وأخروا التوبة؛ لما أمنوا حلول النقمة بهم إلى مجيء ذلك اليوم، وإذا لم يمهلوا صاروا إلى الإياس؛ فيرتفع الخوف والرجاء، وفيه ارتفاع المحنة؛ لأن المحنة في الأصل بالعمل على الرجاء والخوف.
ولأنه إذا لم يبين، كانوا على الحذر والخوف؛ فيحملهم ذلك على التسارع في الخيرات والإقلاع عن المساوئ؛ فأمر أن يقول هذا، وإلا فالذي أمره بأن يقول هذا عالم بالوقت الذي يقع فيه الوعيد.
وقوله عز وجل: { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } الأصل فيما غيب الله تعالى عن الخلق أنه على منازل ثلاثة:
أحدها: ما قد أعجز الخلق عن احتمال الوقوف عليه بالخلقة، نحو الكيانات التي هي أصول الأشياء، لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي به صلح أن يكون كيانا، لم يقف عليه، ونحو الماء جعل حياة لكل شيء، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح أن يجعل حياة، لم يقف عليه، وكذلك هذا في كل ما جعل كيانا موجودا.
والثاني: ما أمكن الخلق معرفته وبلوغه إليه بالتأمل والنظر، بدون معرفة السمع والأثر، نحو معرفة الصانع ومعرفة وحدانيته.
والثالث: هو الذي لم يعجزهم عن إدراكه، ولا مكنهم من الوقوف عليه دون خبر يرد، بقوله: { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } في هذا، وهو الذي مكنوا منه، لكنهم لا يبلغونه إلا بمعونة الخبر، وذلك نحو الأشياء التي ترجع إلى مصالح الخلق والتي توصل إلى مصالح الأغذية فيما ظهر بين الخلق، ولكنها لا تعرف إلا بالسماع، ممن له علم من الخلق وانتشاره فيهم، وهو بحيث لا يحتمل إدراكه بالنظر؛ فبين أن ذلك بالرسول، ومتى وجد ذلك من شخص مشار إليه دل ذلك على الاختصاص له بالرسالة.
ثم ذكر بعضهم: أن في هذه الآية دلالة تكذيب المنجمة، وليس كذلك؛ لأن فيهم من يصدق خبره، ويعرف المطالع، والمغارب، والمشارق، والكواكب التي بها يتوالد الخلق، والتي يقع عندها التغير والتبدل، وذلك مما لا يقف على علمه بالتأمل والتدبر.
وكذلك المتطبعة: منهم من يعرف طبائع النبات أنها تصلح لكذا، وهذا يصلح لكذا، فيقع به المصالح للخلق، ومعلوم أن هذا من نوع ما لا يدرك بالتأمل والنظر؛ فعلم أنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ }، أي: اختاره واصطفاه، والأصل أن الرسالة تلزم الخلق الشهادة له بالصدق في كل خبر وبالعدل في كل حكم؛ لقوله:
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء: 65]، وبالإصابة في كل أمر فيما لم يبلغ مبلغا يوجب الأمر؛ فهو لا يختصه للرسالة، وفي الاختصاص نعمة عظيمة على الخلق؛ إذ به وصل الخلق إلى تعرف ما يبلغهم إليه الحاجة في أمر معاشهم ومعادهم [ودينهم ودنياهم].
وقوله - عز وجل -: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }.
قيل: رصدا من بين يدي الرسول، ومن خلفه من الملائكة؛ ليمنع الإنس عن الرسل في منعهم الرسل عن التبليغ؛ حتى يبلغوا، ذكر هذا عن الحسن البصريرحمه الله .
وكذلك قال في قوله:
{ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } [الإسراء: 60]: إن إحاطته هي أن يعصمه من الناس من أن يصل إليه منع الناس إياه عن تبليغ الرسالة.
ويحتمل أن يكون الملائكة جعلوا رصدا عن الجن عن استراق ما يوحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعن تلقيه؛ حتى يكون الرسول هو الذي يبلغ إلى الخلق، ويشتهر ذلك فيما بين الخلق أن الرسول هو الذي قام بتبليغه إلى الخلق؛ لأنهم إذا لم يجعلوا رصداً؛ أمكن الجن أن يسترقوه ويبلغوه؛ فيأتوا بلدة لم ينتشر عندهم علم ذلك من جهة الرسول؛ فيعرفوا ذلك من عند الجن قبل أن يبلغهم الرسول، فإذا بلغ الرسول من بعد، التبس الأمر على الذين ظهر فيهم العلم من جهة الجن؛ فجعل عليهم رصدا؛ [حتى] ينتشر علم ذلك من جهة الرسول؛ فترتفع الشبه.
أو يكون الرصد لمنع الجن الذين سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغوا قومهم من الجن؛ حتى ينتهي الخبر إليهم من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }: إن الملائكة كانوا يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءه الملك، قالوا: هذا وحي من الله تعالى، وإذا جاءه الشيطان أخبروه به.
ولكن هذا بعيد؛ لا يحتمل أن يخفى عليه وحي الشيطان من وحي جبريل عليه السلام.
وقال بعضهم: { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }، أي: من بين يدي من يبلغ الرسالة إلى الرسول، وهو الملك الذي ينزل بالوحي، جعل بين يديه ومن خلفه ملائكة يرصدونه؛ كي لا يستلب الشيطان عنه، ويحدِثُ فيه حدثا من التغيير والتبديل؛ ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما يبلغ إليه رسالات ربه.
وهذا بعيد أيضاً؛ لأن للمبلغ [من القوة] ما يدفع أذى الجن عن نفسه، وهو أمين لا يخاف منه التغيير والتبديل حتى يجعل عليه الرصد؛ فيؤمن من تبديله؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل -:
{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير: 20-21]، فوصفه الله تعالى بالقوة والأمانة جميعا.
لكنه جائز أن يكون المبلغ ممتحنا بالتبليغ، والذين معه من الرصد امتحنوا بأمور أخر، لا أن جعلوا رصدا من الجن.
وجائز أن يكونوا أرسلوا معه؛ لمكان تعظيم الوحي، وتشريف الرسالة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ }:
قال قائلون: ليعلم محمد بالرصد: أن قد بلغ سائر الرسل رسالات ربه على الوجه الذي أمروا كما بلغ هو.
والثاني: أن يعلم كل في نفسه: أن قد أبلغ رسالات ربه.
أو ليعلم الأعداء أن قد أبلغ محمد - عليه السلام - رسالات ربه على الوجه الذي أمر، لم يقع فيه تغيير من شيطان، ولا جني، ولا عدو.
وقوله - عز وجل -: { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ }.
أي: بما عند [الرسول، أو] بما عند الملائكة، أو بما عند الخلق.
وقوله - عز وجل -: { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أي: أحاط العلم بالذي هو معدود، لا بالعد، وهو كقوله:
{ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } [الحجر: 19]، أي: ما يوزن عند الخلق.
أو أحاط العلم بما لدى الكفرة لا بالرصد، وأن في نصب الرصد محنة وتكليفا على الرصد، لا أن يقع بهم الحفظ، وهو كقوله - عز وجل -:
{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [آل عمران: 125-126]، فبين أن النصر من عنده، وأن الملائكة إنما أرسلت؛ لتطمئن بها قلوب المؤمنين، وتركن إليها طباعهم.
{ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }، أي: كل شيء عنده [معدود ومحصى]، لا يغفل - جل جلاله - عن معرفة عدده، ولا يعتريه أحوال يعزب عنه فيها علم ذلك، خلافا لما عليه أمر الخلق، والله الموفق، [وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين].