التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ
١
قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً
٢
نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً
٣
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً
٤
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
٥
إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً
٦
إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
٧
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً
٨
رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً
٩
وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
١٠
وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً
١١
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً
١٢
وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً
١٣
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً
١٤
-المزمل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ }.
المزمل والمدثر يقتضيان معنى واحدا، على ما نذكر في سورة المدثر.
وقوله - عز وجل -: { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ }.
جائز أن يكون هذا الأمر كله منصرفا إلى وقت واحد، فإذا صرفته إلى وقت واحد، فإما أن يكون قوله - عز وجل -: { إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } منصرفا إلى قوله: { قُمِ ٱلَّيلَ }، أو إلى قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً }، فإن صرفت النقصان إلى قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً }، زدت في الأمر بالقيام، وإن صرفت النقصان إلى قوله: { قُمِ ٱلَّيلَ }، فقد زدت في قوله: { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً }؛ فإلى أيهما صرف، اقتضى الزيادة في أحدهما، والنقصان في الآخر؛ فيتفق معناهما، وهذا نظير قوله تعالى:
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ } [النساء: 176]؛ فمنهم من جعل الكلالة اسما للميت الموروث عنه، ومنهم من أوقع هذا الاسم على الحي الذي يرث الميت، وأيهما كان فهو يقتضي معنى واحدا؛ لأن منزلة الحي من مورثه ومنزلة المورث من الحي واحدة، لا تختلف.
وجائز أن يكون هذا على اختلاف الأوقات، على ما ذكره أهل التفسير؛ فيكون قوله: { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } أمر بإحياء أكثر الليل، ثم يكون في قوله: { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } تخفيف الأمر عليه؛ فيكون فيه أن له أن ينقص عن الأكثر.
وقوله: { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ }، أي: على المقدار الذي أبيح له الانتقاص، وإذا ارتفع الانتقاص عاد الأمر إلى ما كان مأمورا به في الابتداء.
ثم القليل ليس باسم لأعين الأشياء؛ ولكنه من الأسماء المضافة، فإذا قيل اقتضى ذكره تثبيت ما هو أكثر منه حتى يصير هذا قليلا إذا قوبل بما هو أكثر منه؛ فلذلك قالوا بأن قوله { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً }، يقتضي أمر القيام أكثر الليل؛ ولهذا قال أصحابنا فيمن أقر أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلا: [إنه] يلزمه أكثر من نصف الألف؛ لأنه استثنى القليل؛ فلا بد [من] أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى حتى [يكون المستثنى قليلا، كما استثنى] والله أعلم.
[وقوله] - عز وجل -: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }:
[الترتيل] هو التبيين في اللغة، أي: بينه تبيينا.
وقيل: اقرأه حرفا حرفا على التقطيع؛ لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع القراءة، ولكن جائز أن يكون على قراءة التقطيع؛ لأن التبيين كان في تقطيعه؛ وإنما أمر بالتبيين لأن القرآن لم ينزل لمجرد قراءته فقط، لكنه لمعان ثلاثة:
أحدهما: أن يقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة؛ لئلا يذهب، ولا ينسى.
والثاني: أن يقرأ؛ لتذكر ما فيه، وفهم ما أودع من الأحكام، وما لله عليهم من الحقوق، وما لبعضهم على بعض.
والثالث: يقرأ؛ ليعمل بما فيه، ويتعظ بمواعظه، ويجعلونه إماما يتبعون أمره، وينتهون عما نهى عنه؛ فنفذ قراءته في الصلاة يلزمنا هذا كله، ولا ندرك ذلك إلا بالتأمل، وذلك عند قراءته على الترتيل، وهذا الذي ذكرناه يوجب اختيار من يرى الوقوف في القرآن؛ لأن ذلك يدل على المعنى وأقرب إلى الإفهام.
وفيه دلالة أن المستحب فيه ترك الإدغام، وترك الهمز الفاحش؛ لأن ذلك أبلغ في التبيين، والأصل أن السامع للقرآن مأمور بالاستماع إليه، وإذا لزمه الاستماع، وفي الاستماع الوقوف على حسن نظمه وعجيب حكمته، والوقوف على معانيه؛ فلزم القارئ تبيينه؛ ليصل السامع إلى معرفة معانيه، ويقف على حسن نظمه، وعجيب تأليفه، وذلك يكون أقرب في إفهام السامع والقارئ؛ لما فيه من لطائف المعاني.
ثم الترتيل منصرف إلى القراءة، وسمى القراءة: قرآنا على جهة المصدر؛ إذ ما هو كلام الله تعالى لا يوصف بالترتيل، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }، ولم يقل: ثقيلا على من؟ فجائز أن يكون الثقل راجعا إلى الكفرة والمنافقين، ويكون الثقيل الأمر بالجهاد؛ لأنه اشتد على الفريقين جميعا، وأيس الكفار من المسلمين أن يعودوا إلى ملتهم؛ قال الله تعالى:
{ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } [المائدة: 3]، وتخلف المنافقون عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل ذلك عليهم، فجائز أن يكون قوله { ثَقِيلاً }؛ أي: على الكفرة والمنافقين، وكذا على أهل الكبائر ثقيل أيضا؛ لأنهم لم يتمنوا أن ينزل عليهم الكتاب، وأما على المسلمين فليس بثقيل بل هو كما قال تعالى: { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } [القمر: 32].
وجائز أن يصرف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمر بتبليغ الرسالة إلى الفراعنة وإلى الخلق كافة، وفي القيام بالتبليغ إلى الفراعنة مخاطرة بالروح والجسد، والقيام بما فيه مخاطرة بالروح والجسد أمر ثقيل صعب جدّاً.
أو يكون ذلك منصرفا إلى قيام الليل؛ فيكون معنى: { قَوْلاً ثَقِيلاً }،: أي الوفاء بما يوجبه ذلك القول.
وجائز أن يكون هذا منصرفا إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنصاره؛ فيكون ثقله من الوجه الذي كلفوا القيام بفرائضه، وحفظ حدوده، وتحليل حلاله، واجتناب حرامه.
وزعمت الباطنية أن القول الثقيل هو أن كلف الناطق - وهو الرسول عليه السلام - بتفويض الأمر إلى الأساس، وهو الباب، وذلك الأساس والباب هو علي [بن أبي طالب] - رضي الله عنه - عندهم، وهم يسمون [الرسول - عليه السلام -: ناطقا]، ويقولون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ التنزيل إلى الخلق؛ فلما بلغ التنزيل إليهم، واستغنوا عنه، احتاجوا إلى من يعلمهم التأويل؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسند أمر التأويل إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليكون هو الذي يتولى تعليم الخلق تأويله؛ فذلك هو القول الثقيل؛ إذ أمر أن يستند إلى غيره؛ فاشتد عليه إذ صار غيره ولي الأمر، وبقي هو ساكنا لا ينطق.
فيقال لهم: إن في الأمر بإسناد الأمر إلى من ذكر تخفيفَ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعمكم؛ لأن من مذهبكم: أنه إذا فوض الأمر إلى علي - رضي الله عنه - قبض هو - عليه السلام - وصورة القبض عندكم: أن يميز الصورة الروحانية النورانية من الصورة الجسدانية التي كانت محتبسة في الصورة الجسدانية، ثم تتلف الصورة الجسدانية، وتبعث الصورة الروحانية النورانية إلى دار الكرامة والحبور والخلاص من الحبس - لم يشتد ذلك عليه، ولم يثقل؛ بل كان فيه ما يرغبه إلى التفويض، ويدعوه إليه.
ومن مذهب الباطنية: أنهم لا يعلمون أحدا مذهبهم إلا بعد أن يحلفوه بالأيمان المغلظة بألا يخبر به أحداً؛ إشفاقا على أنفسهم، ولو كان الأمر على ما قدروا أن التلف يرد على الصورة الجسدانية التي هي سبب لحبس الصورة الروحانية، وإذا تلفت ردت الروحانية إلى دار فيها كل أنواع السرور - فما الذي يحوجهم إلى الاستحلاف، وما بالهم يشفقون على أنفسهم، وليس في إتلاف أنفسهم إلا الخلاص من الحبس، والوصول إلى الكرامات، ومن هذا وصفه حق عليه الموت؛ ليعلموا أنهم يعاملون الخلق على خلاف ما يوجبه اعتقادهم، ولو كان ما اعتقدوا حقا، لما استجازوا مخالفته، ولكن الذي دعاهم إلى ما ذكرنا تسويل الشيطان وتزيينه في قلوبهم، وما مثلهم إلا مثل اليهود، الذين ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس؛ فقيل لهم:
{ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 94]؛ لأنكم لا تصلون إلى الآخرة إلا بالموت، فإن كنتم محقين في دعواكم فتمنوا [الموت] لتصلوا إليها؛ فكان في امتناعهم عن التمني ما يظهر كذبهم، ويبطل مقالتهم، ويبين تمويههم؛ فكذلك في إشفاق هؤلاء على أنفسهم من الهلاك إظهار وإنباء أنهم قصدوا به قصد التمويه على الضعفة؛ ليصلوا إلى المأكلة ويتوسعوا به في أمر دنياهم من غير حجة لهم في ذلك.
وبهذا الفصل الذي ذكرنا يحتج على الثنوية؛ فإن من مذهبهم تحريم القتل والذبح، وأحق من يرى القتل والذبح مباحين هم؛ لأن من مذهبهم: أن العالم إنما هو بامتزاج النور والظلمة، فما من جزء من أجزاء النور إلا هو مشوب بجزء من أجزاء الظلمة، وكانا متباينين، فغلبت الظلمة على النور، فامتزجت به؛ فصارت الظلمة حابسة للنور، ومعلوم أن في القتل تخليص أجزاء النوراني من [حبس الظلمات]؛ لأن في القتل إزالة السمع والبصر والعقل، ومعلوم أن السمع والبصر في هذه الأشياء، إذ بها رؤية الأنوار، فإذا امتازت هذه الأشياء من الجسد، وبقي الجسد الظلماني لا يبصر شيئا، فقد وصل جوهر النور إلى غرضه ومقصوده بالقتل، وصار إلى مقره، فإذا كان القتل يوصله إلى غرضه ويخلصه عن وثاق الظلمة وحبسه، فقد أحسن القاتل إليه بالقتل والذبح؛ فلا يجيء أن يجرَّم القتل على مذهبهم: بل يجب أن يمدح المرء على ذلك الفعل، ويستصوب ذلك منه.
وقال القتبي: القول الثقيل كلام الله تعالى، وثقله: هو تبجيله وتعظيم حرمته، ليس كلام السفهاء الذي لا يكترث به، ولا يؤبه له.
وقال الزجاج: الثقيل: الوزين، [أي]: الذي له وزن وقدر في القلوب، الذي يجب أن يعظم ويوقر، ليس بالقول الذي يستصغر.
وجائز أن يكون القول الثقيل [هو] الحق؛ على ما روي في بعض الأخبار:
"إن الحق ثقيل مر، والباطل خفيف وفر" .
وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: "حق لميزان لا يوضع فيه إلا الخير أن يثقل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف"؛ فيكون ثقله العمل بما فيه.
وجائز أن يكون القول الثقيل هو تكليف القيام عامة الليل.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }:
قرئ: { وطاء } و { وَطْأً }، فمن قرأ: { وطاء } بالمد، فتأويله من المواطأة، وهي الموافقة، أي: موافق للسمع، والبصر، والفؤاد؛ لأن القلب يكون أفرغ بالليالي عن الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك [معاني الأشياء]، وكذلك السمع والبصر يكون أحفظ للقرآن، وأشد استدراكا لمعانيه.
ومن قرأه: { وَطْأً }، فهو من الوطء بالأقدام؛ فتأويله: أنه أشد على البدن وأصعب؛ لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار، ولم يعتد ذلك بالليل، بل اعتاد الراحة فيه، فإذا كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام، كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه.
ولأن المرء بالنهار ليس ينتصب قائما في مكان واحد، فيمكث فيه [كذلك]؛ بل ينتقل من موضع إلى موضع، ولو كلف الانتصاب في مكان اشتد عليه ذلك، ولحقه الكلال والعناء من ذلك.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتصب قائما يصلي إلى نصف الليل أو أكثر؛ فكان في ذلك محنة شديدة، وكلفة شاقة، والله أعلم.
ثم الأصل أن المرء ينتشر بالنهار؛ لطلب ما يعيش به وليصل إلى ما يتمتع به في أمر دنياه، وينام الليل؛ طلبا للراحة، وإيثاراً للتخفيف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنوعا عن اكتساب الأشياء التي يتوصل بها إلى سعة الدنيا إلا القدر الذي يقيم به مهجته، وكذلك منع عن الراحة بالليالي، وأمر بإحياء الليل إلا القدر الذي لا بد منه، والله أعلم.
وجائز أن يكون في الأمر بقيام الليل نوع [من الراحة والتخفيف]؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزم بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة، فحُمِّل تبليغها إليهم بالنهار، ورفعت عنه الكلفة بالليل، وأمر بأن يتفرغ لعبادة ربه، وكان الأمر بالتفرغ للعبادة أيسر من الأمر بتبليغ الرسالة؛ لأن في الأمر بالتبليغ أمراً بما فيه المخاطرة بالروح والجسد، وليس في الأمر بالانتصاب قائما أكثر الليل ذلك؛ وإنما فيه إيصال الوجع إلى بعض أعضائه؛ فيكون فيه بعض التخفيف.
فإن قيل على التأويل [الأول]: كيف خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب النكاح؛ حيث أبيح له فضل العدد، ولم يبح لأمته، وفي ذلك زيادة تمتع بشهوات الدنيا؟
فجوابه أن يقال: بأن المعنى الذي به حظر على غيره الزيادة على الأربع، وقصر الأمر على الأربع هو خوف الجور؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل -:
{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً } [النساء: 3]، وإذا كان التحريم للوجه الذي ذكرنا، ارتفع الحظر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله - عز وجل - عصمه عن الجور، ومكنه من العدل بين نسائه، ثم ليس في إباحة زيادة العدد سوى فضل محنة وكلفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم [لأنه إذا أمر أن يقوم فيما بينهن بالعدل، وأن يبتغي مرضاتهن بحسن العشرة معهن، وإنما يصل المرء إلى الإرضاء بالأموال، ولم يتمتع هو من الدنيا مقدار ما يصل إلى إرضائهن بالأموال، ولم يتهيأ له أن يصيبهن إلا بسعة الأخلاق، وأن يبين لهن لتقر أعينهن ولا يحزن - فثبت أنه ليس في إباحة العدد فضل تمتع، بل فيه زيادة محنة وابتلاء.
وفيه أيضا ما يحقق رسالته، ويثبت نبوته؛ لأن المرء إنما يصل إلى توفير الحقوق الواجبة عليه بالنكاح إذا تناول من فضول الدنيا وطعم لذاتها، وأعطى النفس شهواتها، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ممنوعا من إعطائه النفس شهواتها، ومع ذلك قام بإيفاء حقوق الأزواج؛ فثبت أنه باللطف من الله تعالى وصل إلى إيفاء حقهن، ليس بأسباب البشرية.
وفي هذه الآية دلالة أن الصلاة تشتمل على الذكر والفعل جميعا؛ لأنه قال: أشد على البدن، وشدته تكون بالفعل، وقال: { وَأَقْوَمُ قِيلاً }، وذلك يرجع إلى الذكر.
ثم يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف تبليغ الرسالة بالليالي؛ لأن أعداءه من الفراعنة وغيرهم كانت همتهم أن يقتلوه ويمكروا [به]، ولم يكن يتهيأ لهم إيصال الأذى به؛ لمكان أتباعه، والليالي هي أوقات غفلة الأتباع، [فلو] كلف التبليغ فيها لتمكنوا من إيصال المكر به؛ فوضع عنه التبليغ، وامتحنه بالقيام لعبادة ربه.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } قيل: هو من نشأ ينشأ، أي: نما، فسميت: ناشئة؛ لأن الأوقات تحدث، وتترادف.
وجائز أن يكون المراد من ناشئة الليل، أي: ما يوجد من الأحوال في الليل من القيام للصلاة، والاشتغال بعبادة الرب، جل جلاله.
وقوله: { وَأَقْوَمُ قِيلاً }، أي: أصوب كلاما، والأقوم: هو المبالغة في الوصف بما أريد بالقيام؛ فإن أريد به الكلام، فحقه أن نصرفه إلى الصدق؛ إذ الأقوم من الأخبار أصدقها، وإن أريد به القيام بقاء ما يقتضيه لك الكلام فمعنى قوله { أَقْوَمُ }، أي: أبلغ في وفاء ما يوجبه القول، وإن أريد [به] القراءة نفسها فهو بالليالي أقوم قراءة.
[و] قوله - عز وجل -: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً }:
أي: فراغا وسعة ومنقلبا؛ فالسبح يذكر ويراد به الفراغ، ويذكر ويراد به المشي والتقلب، وهذا الذي قالوه محتمل، ولكن لا يجيء أن يصرف تأويل الآية إلى الفراغ، والتقلب إلى حوائج نفسه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتناول من الدنيا إلا قدر ما يقيم به مهجته؛ فلا يحتاج إلى فضل تقلب، ولا إلى كثير فراغ؛ ليتوسع في أمر دنياه.
ولكن حقه أن يصرف قلبه إلى تبليغ الرسالة، ودعاء الخلق إلى توحيد الله تعالى، وإلى ما يحق عليهم؛ فيكون في قوله: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } ترخيص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ينصب بالليالي للقيام بين يديه، واجتزأ منه بتبليغ الرسالة بالنهار.
وقوله - عز وجل -: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ }:
أي: اذكر ربك؛ دليله قوله على أثره: { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }، والتبتل يقع إليه لا إلى اسمه، ثم ذكر المولى - جل جلاله - هو أن ينظر إلى أحوال نفسه، ما الذي يلزمه من العبادة في تلك الحال؟ فيكون ذكر ربه بإقامة تلك العبادة، لا بأن يذكر الله تعالى بلسانه فقط، وهو كقوله:
{ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [نوح: 10]، واستغفارهم أن يأتمروا بما أمروا، وينتهوا عما نهوا، لا أن يقولوا بألسنتهم: "نستغفر الله"؛ لأنهم وإن قالوا "نستغفر الله"، لم يقبل ذلك منهم إذا كانوا كفرة؛ فثبت أن استغفارهم أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه نوح؛ فكذلك ذكر الله تعالى يقع بوفاء ما يلزمهم حالة القيام به، وذلك يكون بالأفعال مرة، وبالأقوال ثانيا.
ومنهم من صرف الأمر إلى الاسم على ما يؤديه ظاهر اللفظ، فأمر بذكر اسم الرب لما يحصل له من الفوائد بذكره؛ لأن من أسمائه أسماء ترغبه في اكتساب الخيرات] والإقبال على [عبادة الرب]، ومنها ما يدعو الذاكر إلى الخوف والرهبة، ومنها ما يوقفه على عجائب حكمته، ولطيف تدبيره، وتقرير سلطانه وعظمته في قلبه، ومنها ما يحدث له زيادة علم وبصيره، وهي الأسماء المشتقة من الأفعال، فإذا تأمل فيها عرف الوجه الذي منه اشْتَقَّ تلك الأسماء، فذكر أسمائه يحدث له ما ذكرنا من الفوائد والعلوم.
وقوله - عز وجل -: { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }.
التبتل هو الانقطاع إلى الله تعالى، وأن يقطع نفسه من شهواتها، ويصرفها عن لذاتها؛ فكأنه قال: وتبتل إليه، وبتل نفسك تبتيلا من الشهوات واللذات؛ ولذلك سميت مريم - رضي الله عنها -: البتول؛ لأنها قطعت نفسها عن منافع الدنيا، وأقبلت إلى الآخرة، وانقطعت إليه.
وقوله - عز وجل -: { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ }.
قال أبو بكر الأصم: تأويله: [ملك المشرق والمغرب]، وحقه أن يقال: مالك المشرق والمغرب؛ لأنه هو المالك على التحقيق.
وقال بعضهم: الرب هو المصلح، ثم خص المشرق والمغرب بالذكر وإن كان هو مالكهما ومالك الخلائق أجمع؛ لأن ذكر المشرق يقتضي ذكر السماوات والأرضين، وفي ذكر السماوات والأرضين ذكر أعلى العليين وأسفل السافلين؛ لأنه إذا نظر إلى المشرق ورأى ما يطلع في المشرق من عين الشمس، ثم تجري في أقطار السماء، وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام، ثم تغرب في عين حمئة؛ فتصير إلى أسفل السافلين، وتجري كذلك حتى تصل إلى مطلعها، ثم تطلع هنالك؛ فدل ذلك على أن مدبر السماوات والأرضين ومنشئهما واحد، وأن سلطانه في الأرض كسلطانه في السماء، ويعلم أن من بلغت قدرته هذا المبلغ في أن يسير عين الشمس في يوم واحد مسيرة ألف عام ما يشتد على الخلق قطع هذه المسافة في مدد كثيرة - لا يجوز أن يعجزه شيء، ودل على أن ملكه دائم لا ينقطع؛ لأن عين الشمس تجري في كل يوم، على ما سخرت، لا تتبدل، ولا تتغير باختلاف الأزمنة والأوقات، وجعل منافع أهل الأرض متصلة بمنافع السماء، ولو لم يكن مدبرهما واحدا لارتفع الاتصال، وانقطعت منافع السماء عن أهل الأرض؛ فكان في ذكر المشرق والمغرب دلالة وحدانيته، وإظهار قوته وسلطانه، والوقوف على عجائب حكمته ولطائف تدبيره.
ثم تخصيص ذكر المشرق والمغرب دون السماء والأرض؛ هو - والله أعلم - لأن هذا أوصل إلى معرفة التوحيد، وأسرع إلى الإدراك من ذكر السماوات والأض، وإن كان في [التدبر في] أمر السماء والأرض تحقيق ذلك.
وفي قوله - عز وجل -: { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ }، أي: الذي أمرت بذكره هو رب المشرق والمغرب، وفيه تعريف الوجه الذي يوصل إلى معرفة ربوبيته.
وقوله: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }، أي: لا معبود يستحق العبادة إلا هو؛ لأن الذي يحمل الإنسان على عبادة المعبود الخوف والرجاء، وإذا عرفهم بذكر المشرق والمغرب أن تدبير الخلائق كلها راجع إليه، وأنه هو القاهر عليهم والقادر [عليهم]، وبيده الخزائن والمنافع أجمع، علموا أنه هو الإله الحق، والرب القاهر، وأن من سواه مربوب مقهور، لا يملك نفعا ولا ضرّاً، فكيف يستوجب العبادة والإلهية؟!.
وقوله - عز وجل -: { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }:
جائز أن يكون أراد به أن كِلْ أمورك كلها إلى الله تعالى حتى يكون هو الذي يدبر ويحكم، ولا تر لنفسك فيها تدبيرا.
والوكيل في الشاهد هو الذي يدخل في أمر آخر على جهة التبرع؛ لينصره فيه، ويعينه؛ فيكون قوله: { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }، أي: اطلب من عنده النصر والمعونة، والمرء في الشاهد إنما يفزع إلى الوكيل؛ ليزيح [عن نفسه] علله، ويقضي عنه حوائجه، ويقوم عنه في النوائب؛ فكأنه يقول: افزع إلى الله تعالى في نوائبك، فيكون هو الذي يزيح عنك العلل، ويقضي عنك الحوائج، ويكون معتمدك في النوائب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }.
قال أهل التفسير: تأويله: اصبر على تكذيبهم إياك؛ ألا ترى إلى قوله في سياق الآية: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ }، فثبت أنه دعي إلى الصبر على التكذيب.
وجائز أن يكون منصرفا إلى هذا وإلى غيره؛ لأنهم كانوا لا يقتصرون على تكذيبه، بل كانوا ينسبونه إلى الكذب مرة، وإلى السحر ثانيا، وإلى الجنون ثالثا، وإلى أنه يتيم رابعا؛ فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى؛ فجائز أن يكون قوله: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } منصرفا إلى كل ذلك.
ثم الأمر بالصبر يقع بخصال ثلاث:
أحدها: ألا تجازهم على تكذيبهم إياك تكذيبك إياهم، أو لا تجزع عليهم، وفي الجزع بعض التسلي والتشفي. ولا تدع عليهم بالهلاك والتبار بل اصبر لذلك.
ولقائل أن يقول: كيف كان يشتد عليه تكذيبهم إياه حتى كاد يتحزن لذلك، والذين نسبوه إلى الكذب كانوا من أعدائه، وليس يستثقل التكذيب من العدو، ولا يستكثر منه؛ لأنه بما يعاديه يعتقد أن يسيء إليه بجميع ما يمكنه وسعه، وإنما يستثقل التكذيب من أهل الصفوة والمودة؛ فكيف استثقله؟ وكيف بلغ به التكذيب مبلغا يحزن به؛ حتى يدعى إلى الصبر بقوله:
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ... } الآية [الأنعام: 33]، وبقوله: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }؟
والجواب عن هذا أن الكذب والجهل مما يستثقلهما العقل والطبع جميعا، وكذلك التكذيب والتجهيل، أمر ثقيل على الطبع والعقل جميعا، حتى إن الكذاب إذا نسب إلى الكذب، اشتد عليه ذلك، ولم يتحامل، وكذلك الجهول إذا عرف بالجهل، ثقل ذلك عليه؛ فإذا كان التكذيب مستقبحا في عقول الخلق وطبائعهم، وإن كانت طبائعهم مشوبة بالآفات وفي عقولهم نقص، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مع صفاء عقله، وسلامة طبعه عن الآفات أحق أن يثقل عليه؛ فيحزن لذلك.
ثم ما من إنسان ينسب إلى الكذب فيما يحدث عن نفسه أو عمن سواه من الخلائق ممن علت رتبتهم أو انحطت إلا وهو يجد لذلك ثقلاً، فكيف إذا أخبر [عن] الله تعالى وكذب فيه، أليس هذا أحق أن يثقل على القلب ويتحزن له؟!
ويجوز أن يكون حمله على الحزن شدة إشفاقه على المكذبين؛ لأن تكذيبهم يفضي بهم إلى العطب والهلاك؛ فأشفق عليهم باشتغالهم بما به هلاكهم، وحزن لذلك.
أو يكون حزنه غضبا لله تعالى؛ إذ الرسل كانوا يغضبون لله تعالى، ويشتدون على أعدائه.
والجواب عن قوله: إن المكذبين كانوا من أعدائه، فكيف اشتد عليه تكذيبهم، وذلك أمر غير مستشنع من الأعداء؟ فنقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعاملهم معاملة الولي مع وليه الصفي، ولم يكن يعاملهم بما يعامل به الأعداء؛ لأنه كان يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم، ومن عامل آخر معاملة أقرب الأصفياء معه، كان الحق عليهم أن يجازوه بالإحسان؛ فإذا تركوا ذلك، وقابلوه بالتكذيب، اشتد عليه، وحزن لذلك. ثم في قوله: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }، وفي قوله:
{ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [الأحقاف: 35] إبطال قول من قال: إن الله تعالى لا يفعل بعبده إلا ما هو أصلح له؛ لأنا نعلم أنه إذا أذن لنبي من الأنبياء بالدعاء على استعجال الهلاك، واستجيب [له] فيما دعا، كان فيه ما يحمل القوم على الإيمان، ويردعهم عن التكذيب؛ لأنهم يخافون حلول النقمة عليهم؛ فيتركون التكذيب، ويقبلون على الإجابة؛ فيكون فيه نجاتهم عن الهلاك، وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم، فإذا لم يؤذن دل أنه ليس من شرط الله تعالى أن يفعل بعباده ما هو أصلح لهم.
فإن قيل: كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم؛ ليحملهم ذلك على الإسلام، ويمنعهم عن التكذيب؟
قيل له: لأن فيما ذكرته رفع المحنة والابتلاء؛ لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة؛ لأنهم إذا علموا أنهم يستأصلون بالتكذيب، امتنعوا عنه، وأجابوا إلى الإسلام كرها؛ فتصير الحجج اضطرارية، لا تمييزية واختيارية، وحجج الرسل - عليهم السلام - اختيارية، لا ضرورية؛ لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية، لارتفعت المحنة؛ فجعلت حججهم من وجه يقع بها الشبه؛ ليوصل إلى معرفتها بالفكر؛ لئلا ترتفع المحنة.
فإن قال قائل: إن أبا حنيفة -رحمه الله - ذكر في كتاب العالم والمتعلم: أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد، ثم قال: فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان، فكيف صار الثواب لهم أكمل، وخوفهم من الله أشد؟
فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة، وقال في جملة ما أجاب: إنهم لو ارتكبوا الزلات يحل بهم العقاب عقيب الزلل؛ فصار خوفهم بالله تعالى ألزم من هذه الجهة.
ولسائل أن يسأل على هذا، فيقول: فإذن إيمانهم بالله تعالى، وتركهم المعاصي ضروري لا اختياري؟!
فيجاب عنه بأن يقال بأن الأنبياء - عليهم السلام - لم يُبَيَّنْ لهم العصمة، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام -:
{ وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]، ولو كانت العصمة له ظاهرة، لكان يستغني عن السؤال.
وقال في قصة شعيب - عليه السلام -:
{ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [الأعراف: 89]، فثبت أنه لم يبين لهم العصمة، ونحن إنما شهدنا لهم بالعصمة بالوجود؛ لأن الحكمة توجب العصمة، والرسل - عليهم السلام - أمروا بتبليغ الرسالة، ولم يؤذن لهم بالنظر في أمر من تقدمهم من الرسل؛ ليظهر لهم العصمة بالتدبر والتفكر؛ فثبت أنهم كانوا على الخوف والرجاء في فكاك أنفسهم، وفي وقوعها [في المهالك]، وأن إيمانهم بالله تعالى لم يكن ضروريّاً، بل وصلوا إلى معرفته بالتمييز؛ لذلك عظمت درجاتهم.
والثاني: أن الأنبياء - عليهم السلام - قد كان تقرر في قلوبهم هيبة الله تعالى وعظمته؛ فكانت المعرفة هي التي دعتهم إلى الإيمان به، لا خوف حلول العقوبة بهم لو ارتكبوا الزلات، وأما الكفرة، فلم يعرفوا عظمة الله تعالى، ولا قدرته، ولا سلطانه حتى يحملهم ذلك على الإيمان به، فلو حلت العقوبة بهم بالتكذيب، لكان الخوف هو الذي يحملهم على الإيمان لا غير؛ فيصير إيمانهم ضروريا؛ فلهذا لم يعاقبوا بالتكذيب؛ لئلا ترتفع المحنة، وخولف بينهم وبين غيرهم، وهذا كما نقول بأن أنباء من تقدم من الرسل حجة لرسولنا صلى الله عليه وسلم في إثبات نبوته، وإن كانت تلك الأنباء قد عرفها أهل الكتاب، وأخبروا بها؛ لأن أهل الكتاب عرفوا تلك الأنباء بالتعلم والتلقين، ولم يختلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من عنده علم تلك الأنباء؛ فعلم أنه بالله تعالى علم، لا بتعليم أحد؛ فصارت الأنباء حججا لذلك، ولو لم تصر لغيره حجة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً }:
جائز أن يكون تأويله: اهجرهم وقت سبهم، ونسبتهم إياك إلى ما لا يليق بك، ولا تعبأ بهم، ولا تكترث إليهم، وإلى ما يتقولون عليك؛ لأن ذلك بعض ما يزجر المتقول والساب عما هو فيه، وهو كقوله - عز وجل -:
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63].
ويحتمل أن يكون تأويله: أن انقطع عنهم انقطاعا جميلا، والانقطاع الجميل: ألا يترك شفقته عليهم، ولا يدعو عليهم بالهلاك، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رشدهم وصلاحهم؛ ولذلك قال في وقت أذاهم إياه:
"اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" .
ويحتمل أن يكون هجره إياهم هجرا جميلا هو ألا يكافئهم بالسيئة السيئة، بل يدفع السيئة بالحسنة؛ كقوله تعالى: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ } [المؤمنون: 96]؛ إذ ذاك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة، والله أعلم.
ثم من الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف.
ومنهم من قال بأنها لم تنسخ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ، وذلك أن في قوله: { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } منع المكافأة لأجل ما آذوه، ولم يفرض عليه القتال؛ ليكافئهم بأذاهم، وينتقم منهم بذلك؛ بل رجع قتاله إلى نصرة الدين؛ ولتكون كلمة الله تعالى هي العليا؛ لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا، ولا نسخ العمل بقوله:
{ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [البقرة: 109].
الثاني: أنه ليس في قتالهم انتقام منهم، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله، وإذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب، وفازوا بعظيم الثواب؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة.
ووجه جعله رحمة: هو أنهم إذا رأوا غلبة المسلمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حل بأبدانهم؛ لاشتغالهم بعبادتهم ربهم، وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم - أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب؛ بل الله تعالى هو الذي قواهم عليهم، وقام بنصرهم؛ فيتقرر عندهم كون أهل الإسلام على الحق، وإذا أيقنوا بالحق التزموه فيحرزون به جزيل الثواب، وكريم المآب؛ فصار القتال رحمة لهم، لا أن يكون عقوبة عليهم؛ لسوء صنيعهم، وإذا كان كذلك، بقي العمل بقوله - عز وجل -: { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } ثابتا باقيا، وبهذا يجاب من سأل فقال: إن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، وفي القتال ترك الرحمة؛ فيكف فرض عليه؟
فيقال أن ليس في القتال ترك الرحمة؛ بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها؛ إذ يحملهم على الإيمان، وترك التكذيب؛ فتعلو منزلتهم، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
وجواب آخر: أن يقال بأن الحجة في القتال ليس في القتل؛ لأنهم إذا خافوا القتال، تركوا التكذيب، وأقبلوا على الداعي؛ ألا ترى أنه ذكر أن القوم قبل أن يفرض عليهم القتال، كان يدخل الواحد منهم بعد الواحد في هذا الدين؛ فلما شرع القتال، جعلوا يدخلون فيه فوجا فوجا، وقبيلة قبيلة.
ثم إباحة القتل يكون بالضرورة؛ لأنهم إذا علموا [أنهم] لا يقتلون، لم يقع لهم الخوف بالقتال، وإذا لم يخافوا تركوا الإجابة؛ فشرع القتل فيه؛ لتحقيق الخوف؛ فلم يكن فيه ترك الرحمة، وهو كقوله:
{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ } [البقرة: 179]، وفي إقامة القصاص تلف النفس، وليس فيه إحياء، ولكن وجه الإحياء فيه: هو أن القاتل إذا فكر [في] قتل نفسه بقتل صاحبه، ردعه ذلك عن القتل؛ فيكون فيه إحياء النفسين جميعا؛ فيصير إيجاب القصاص سببا للإحياء في الحقيقة، وإن كان في الظاهر سببا للإتلاف؛ فكذلك هؤلاء إذا أيقنوا بالقتل بامتناعهم عن الإجابة، تركوا الامتناع، وأقبلوا على الإجابة؛ فيكون موضوع القتل للرحمة في التحقيق، وإن كان في الظاهر خارجا مخرج ترك الرحمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } ففيه أن أهل الخصب والرغد هم الذين اشتغلوا بالتكذيب، وهم الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل الله؛ كما قال:
{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [الأنعام: 123]، وقال: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } [سبأ: 34]؛ فخص أولي النعمة بالذكر لهذا.
ثم في قوله: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ } إيهام بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق منه المنع، ولم يوجد من رسول الله حيلولة ومنع، ولكن مثل هذا الخطاب موجود في كتاب الله تعالى في غير آي من كتابه، وهو أن يخرج مخرجا يوهم أن هناك مقدمة، وإن لم يكن فيها مقدمة في التحقيق؛ قال الله تعالى:
{ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } [الرحمن: 7]، ولم يكن فيه تحقيق الوضع، وإن كان الرفع يستعمل في الشيء الموضوع؛ فكان تأويل الرفع هاهنا بأنها خلقت مرفوعة.
وقال:
{ وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [الرحمن: 10]، ولم تكن مرفوعة فوضعها، وكان معناه: أنها خلقت موضوعة.
وقال يوسف - عليه السلام -:
{ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [يوسف: 37]، ولم يسبق منه دخول في دين أولئك؛ فيكون تاركا له بعدما دخل فيه.
وقال الله تعالى:
{ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [البقرة: 257]، ولم يقتضِ قوله: { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } كونهم في الظلمات، ولا اقتضى قوله: { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } كونهم في النور، فيخرجهم منه، وإن كان في الظاهر يؤدي ذلك؛ فعلى ذلك قوله: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ } وإن كان في الظاهر يقتضي حيلولة ومنعا، فليس في الحقيقة إثبات منع.
ويذكر غير هذا في سورة المدثر.
ثم قوله: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ } معناه: لا تجازهم بصنيعهم، ولا تستعجل عليهم بالدعاء؛ بل أمهلهم قليلا
{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 137].
وقيل في الفرق بين النِّعَمِ والنَّعْمَةِ: إن النَّعْمَة ما يعطى للعبد إرادة استدراجه فيها وهلاكه، كقوله - عز وجل -:
{ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [الدخان: 27]، والنعم هي منة الله تعالى على عباده؛ تفضلا عليهم، كقوله، { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20]، والله أعلم.
قوله - عز وجل -: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً }.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: الأنكال هي السلاسل والقيود.
وقال أبو بكر الأصم: الأنكال: ما ينكل به ويعتبر به غيره؛ قال الله تعالى:
{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً } [البقرة: 66] تأويله ما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى أيضا.
فإن كان على ما ذكره أبو بكر الأصم فقد يكون في الدنيا، ويكون منصرفا إلى يوم بدر [وكأن الأول أشبه.
والجحيم: هو معظم النار.
ثم في هذه الآية دلالة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، وآية رسالته] لأن قوله: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } راجع إلى قوله: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ }، فإن لهم لدينا أنكالا وجحيما، وإنما ينكلون ويعذبون بالجحيم إذا ماتوا على الكفر؛ ففيه إبانة أنهم يموتون وهم كفار، وعلى ذلك ماتوا، وختم أمرهم، ولم يسلم منهم أحد؛ فيخرج ما أخبر عن غيب كما أخبر، وذلك لا يعلم لا بالله - تعالى - فثبت أنه لم يخترعه من تلقاء نفسه، بل علم بالله تعالى، وعلم الغيب من أعظم آيات رسالته.
وقوله - عز وجل -: { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } فالذي يغص، ولا يقدر على ابتلاعه ليس بطعام في الحقيقة، وقال:
{ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [يونس: 4] والحميم ليس بشراب في التحقيق؛ ولكن سمي الأول: طعاما؛ لأنه يمضغ مضغ الطعام، والصديد والحميم يسيلان سيل الشراب، فذكر في الأول طعاما، وفي الثاني شرابا لهذا.
ولأن الطعام اسم لما يطعم؛ فهو مطعوم، وإن كان كريها، والحميم مشروب وإن كان في نفسه كريها.
ثم الأصل أن الكفرة بكفرهم تركوا شكر نعم الله - تعالى ذكره - وقابلوها بالكفران؛ فأبدل الله تعالى لهم في الآخرة مكان كل نعمة نقمة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء: 97]، فأبدلهم مكان البصر عمى، ومكان السمع صمما؛ لتركهم شكر ما أنعموا من البصر والسمع واللسان، وأبدلهم مكان اللباس قطرانا، ومكان المراكب: السحْب إلى النار على أقدامهم ووجوههم؛ فكذلك أبدلهم مكان الطعام والشراب زقوما وحميما؛ لتركهم شكر نعم الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً }.
قد ذكرنا الرجفة في غير موضع.
وقوله: { كَثِيباً مَّهِيلاً }، أي: رملا سائلا؛ ففيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم؛ لأن الجبال من أصلب الأشياء وأشدها في أنفسها، ثم يبلغ هول ذلك اليوم مبلغا لا يحتمله الجبال مع شدتها وصلابتها، فالإنسان الضعيف المهين أنى يقوم لشدته وهوله؟ فذكرهم حال ذلك اليوم؛ ليرتدعوا، وينتهوا عما هم عليه في التكذيب والضلال.