التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً
١٥
فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً
١٦
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً
١٧
ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً
١٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
١٩
-المزمل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً }.
قوله: { شَاهِداً عَلَيْكُمْ } قال أبو بكر الأصم: تأويله: مبينا لكم ما لله تعالى عليكم من الحق.
وجائز أن يكون { شَاهِداً عَلَيْكُمْ }، أي: لكم وعليكم جميعا؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله:
{ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [النحل: 89]، ويكون للمؤمنين شاهدا، وقد يذكر "عليكم" ويراد به "لكم" كقوله: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3]، أي: للنصب؛ لأنهم كانوا يذبحون لها، لا عليها.
وخص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون من بين الجملة؛ ففائدة ذكر التخصيص هو - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منشَؤه بين ظهراني الذين كذبوه، ولم يكن وقفوا منه على كذبة قط؛ بل كانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وكان بمحل يرونه أهلا للشهادة؛ فكيف ينسبونه إلى الكذب، ولم يعهدوا ذلك منه، وكذلك موسى - عليه السلام - كان نشأ بين ظهراني أولئك الذين أرسل إليهم، وكانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وعرفوا أنه يصلح للشهادة.
ومنهم من يقول بأنهم ازدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستصغروه؛ اعتبارا بما شهدوا من حاله عند الصغر؛ إذ كان نشوءه فيهم؛ وكذلك ازدروا بموسى - عليه السلام - حين بعث إليهم، واستخفوا به استخفافهم به في حال الصغر، حتى قالوا:
{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18]، فنزل بهم ما نزل بأولئك من الاستئصال بتكذيبهم إياه، وازدرائهم به، فذكرهم حال مكذبي موسى - عليه السلام - وما نزل بهم من مقت الله تعالى بتكذيبهم وازدرائهم به ليعتبروا به؛ فينقلعوا عن الازدراء؛ لئلا يحل بهم ما حل بأولئك.
ولئلا يغتروا بقواهم، وكثرة عددهم وأموالهم؛ فإن مكذبي موسى - عليه السلام - كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا، وأشد بطشا؛ فلم يغنهم ذلك من الله - تعالى - شيئا.
وجائز أن يكون خص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون ونبأهما؛ لأن خبره كان منتشرا فيما بين أهل مكة؛ لأنهم كانوا جيرة اليهود الذين عندهم نبأ موسى - عليه السلام - وفرعون، فكانوا يخبرونهم بما حل بفرعون وقومه بتكذيبهم الرسول؛ فذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - لينتهوا ما هم عليه من التكذيب.
ولأن لله تعالى أن يحتج عليهم بآحاد الحجج، وله أن يحتج عليهم بجملتها؛ إذ في ذلك قطع الشبه، وإزاحة العذر.
أو ذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - وقومه؛ لأن العهد بهم كان أقرب؛ إذ قومه كانوا آخر قوم استؤصلوا في الدنيا.
وقوله: { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً }، أي: شديدا: ومنه: المطر الشديد يسمى الوابل.
وقال أبو بكر: اسم لكل معضلة.
وقوله - عز وجل -: { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً }، فهو يحتمل أوجها:
أحدها: أي: كيف تتقون النار في الآخرة إذا سلكتم في الدنيا سبيلها - وهو الكفر - وأنتم تعلمون أن من سلك طريقا لشيء ولا منفذ لذلك الطريق إلا إلى ذلك الشيء؛ فإنه يرد عليه لا محالة.
أو كيف تتقون النار في الآخرة، وقد تركتم القيام بما عليكم من شكر النعم.
أو كيف تتقون العذاب في الآخرة وأنتم تدفعون إليها، وتضطرون بقوله - عز وجل -:
{ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24]، وبقوله: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [القمر: 48]، وبقوله: { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الدخان: 47]، وقد مكنتم في الدنيا من الإيمان بالله تعالى، ومكنتم من الانتهاء عن الكفر، ثم لم تنقلعوا عنه، فأنى يتهيأ لكم المخلص من عذابه، وأنتم تدفعون إليه.
أو كيف تنتفعون بإيمانكم في الآخرة، ولم تؤمنوا في الدنيا، وقد مكنتم به.
والأصل أن دار الآخرة ليست بدار لاستحداث الأسباب، وإنما هي دار وقوع المسببات؛ فهم إذا لم يستحدثوا الأسباب التي جعلت لدفع العذاب في الدنيا، لم يمكنوا من استحداثها في الآخرة فينتفعوا بها، ولم يكونوا أهلا لوقوع المسببات؛ لما لم يستحدثوا الأسباب في الدنيا، وإنما قلنا: إنها ليست بدار محنة وابتلاء؛ لأن المحنة؛ لاستظهار الخفيات، والثواب والعقاب قد شوهد وعوين؛ فإذا قيل: إذا فعلت كذا، دخلت النار وهو يعاين النار، ويراها، فهو يمتنع عن الإقدام على ذلك الفعل، وإذا قيل له: إذا آمنت بالله تعالى أكرمت بالجنة، وهو يشاهد الجنة، ويراها، فهو يؤمن لا محالة؛ فلا وجه للابتلاء في الآخرة؛ بل هي دار وقوع المسببات يعني: الثواب والعقاب؛ والذي يدل على هذا قوله: { يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً }، فأخبر أنهم يشيبون لا بسبب المشيب، والمشيب في الدنيا لا يوجد إلا بعد وجود سببه، وهو الكبر ليعلم أن الدار الآخرة ليست بدار استحداث الأسباب؛ فما يستحدثون من الإيمان بالله تعالى لا ينفعهم في ذلك اليوم، ولا يقيهم من عذاب الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } جائز أن يكون هذا على التحقيق، فيشيب الولدان لهول ذلك اليوم، ويصير الشيب سكارى؛ لشدة هوله؛ كما قال تعالى:
{ وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } [الحج: 2].
وجائز أن يكون على التمثيل، لا على [تحقيق الشيب]، فمثله به؛ لعظم ذلك اليوم، وشدة هوله، وقد يجوز أن يمثل الشيء بما يبعد عن الأوهام تحقيقه؛ على تعظيم ذلك الشيء، كقوله:
{ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [مريم: 90-91]، فذكر هذا على التمثيل؛ لعظم ما قيل فيه، لا على تحقيق الانفطار والانشقاق.
وجائز أن يكون معناه: أنه لولا أن الله - تعالى - بعثهم للإبقاء وألا يتغيروا، ولا يتفانوا، وإلا كان هول ذلك اليوم يبلغ مبلغا يشيب به الولدان.
وقوله - عز وجل -: { ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ }:
أي: بما يجعل الولدان شيبا، وهو هول ذلك اليوم، وشدة فزعه.
أو منفطر بالغمام.
وقيل: منفطر بالله، أي: بقضائه وحكمه، والله أعلم.
ثم قال: { مُنفَطِرٌ بِهِ }، ولم يقل: "منفطرة"، والسماء مؤنث؛ فذكر الزجاج: أن معنى قوله: { مُنفَطِرٌ بِهِ }، أي: ذات انفطار، فعبر بها كما يعبر عن الذكور؛ كما يقال: امرأة مرضع، أي: ذات إرضاع.
وقوله - عز وجل -: { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً }:
أي: الذي وقع به الوعد مفعول، لا أن يكون الوعد هو المفعول، وكذا قوله:
{ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [مريم: 61]، والوعد لا يؤتى، بل الموعود هو الذي يؤتى، ولكن نسب الموعود إلى الوعد؛ لأنه من آثاره، وهذا كما يقال: المطر رحمة الله، أي: برحمة الله ما أمطروا، لا أن يكون المطر رحمته، ويقال: الصلاة أمر الله، أي: بأمر الله ما تقام، لا أن تكون أمره الذي يوصف به؛ فكذلك الموعود نسب إلى الوعد؛ إذ بالوعد ما استوجبوا، لا أن يكون الوعد هو المفعول وهو المأتي.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ }:
جائز أن يكون قوله: { هَـٰذِهِ } منصرفا إلى الأهوال التي ذكرها فيكون ذكرها تذكرة.
ويحتمل أن ينصرف إلى الرسالة، أي: رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تذكرة.
ويحتمل: أي: هذه السورة، أو الآيات كلها تذكرة.
وقوله - عز وجل -: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً }:
قال بعضهم: من شاء اتخذ عند ربه جاهاً ومنزلة لنفسه.
أو { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً }.
[أي] إلى ما دعاه إليه ربه، وذلك يكون بالإجابة فيما دعاه إليه.
أو من شاء اتخذ إلى ما وعد له ربه في الآخرة سبيلا في أن يقبل على طاعته، ويشغل نفسه بعبادته.