التفاسير

< >
عرض

فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ
٤٩
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
٥٠
فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ
٥١
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً
٥٢
كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ
٥٣
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ
٥٤
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
٥٥
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ
٥٦
-المدثر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }:
جائز أن يكون تأويله: ما لهم معرضين عن ذكر ما لهم، و[ما] عليهم، وعما إليه مآلهم ومنقلبهم؛ وذلك يكون في الرسول وفي القرآن؛ لأن كل واحد منهما يذكر للمرء ما له وعليه، والله أعلم.
وجائز أن يكون تأويله: فما لهم عما به يشرف قدرهم، ويصيرون به مذكورين في الملأ الأعلى - معرضين؛ وذلك يكون في طاعته، والإقبال على عبادته، وهو كقوله تعالى:
{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [الأنبياء: 10] معناه: أنكم تصيرون به مذكورين، ويعظم قدركم لو ابتعتموه، ولم تضيعوا حرمته.
وقوله - عز وجل -: { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ }.
بنصب الفاء وخفضه.
فمن قرأ بخفض الفاء صرف الفعل إليها، كأنه يقول: حمر نافرة، ونفر واستنفر واحد؛ كما يقال: استرقد القوم، أي: رقدوا.
ومن قرأ بنصب الفاء، فتأويله: أنه فعل بها ما يحملها على النفار، وذلك يكون بالرمي وبالقانص من الأسد، كما ذكره أهل التفسير في تأويل القسورة هي الأسد، أو الرماة، أو الصيادون.
ويقال: هي النفرة، وكان هذا تشبيها بالحمر الوحشية التي في طبعها النفار.
ووجه التقريب هو أن هؤلاء أعرضوا عما في الإقبال عليه نجاتهم وتخلصهم من العطب، ونفروا كنفار الحمر المستنفرة من العطب والهلاك.
وفي هذه الآية تبين شدة سفههم وغاية جهلهم؛ لأن الحمر تنفر عن القانص والرامي والأسد؛ لتسلم من الهلاك والعطب، وهؤلاء الكفرة نفروا عما فيه نجاتهم إلى ما فيه هلاكهم وعطبهم؛ فهم أشر من الحمير وأضل.
وقوله - عز وجل -: { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً }.
قال بعض أهل التأويل: إن المشركين قالوا: يا محمد، بلغنا أن الرجل في بني إسرائيل كان إذا أذنب ذنبا، فيصبح، وجد صحيفة معلقة على باب داره أو مكتوبا عند رأسه: إنك أذنبت كذا.
وزاد بعضهم: إنك أذنبت كذا، وتوبتك كذا.
وسالوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلهم كذلك؛ فأخبر الله تعالى ذلك عنهم، ثم آيسهم عن ذلك، فقال: { كَلاَّ }، أي: لا تنالون ما تأملون.
وقال قتادة: قالوا: يا محمد إنْ سَرَّك أن نتبعك فائت كل واحد منا بصحيفة خاصة: إلى فلان بن فلان، تأمرنا فيها باتباعك.
وقيل: سألوا أن يؤتوا ببراءة بغير عمل.
ولكن لا يجب قطع الأمر على واحد من هذه التأويلات، بل يقال بها على جهة الإمكان والاحتمال؛ لأن هؤلاء المفسرين لم يشاهدوا أولئك القوم الذين صدرت منهم هذه الإرادة؛ ليخبروهم ماذا أرادوا به؟ حتى يثبت ما ذكروا من القصة والأخبار، ولا تواترت الأخبار من عند ذي الحُجَّة النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم سألوه ذلك؛ لذلك لم يستقم قطع الأمر على ما ذكروا.
وجائز أن تكون هذه الإرادة تحققت في بعض الكفرة وهم الرؤساء منهم والأكابر، لا أن أراد كلٌّ في ذات نفسه أن يؤتى صحفا منشرة.
والإرادة هاهنا عبارة عن الطلب، ثم طلبهم ما ذكر يتوجه إلى أوجه ثلاثة:
أحدها: أن يكون كل واحد من عظمائهم ود أن يكون [هو] المخصوص بإنزال الكتاب عليه؛ كما قال في آية أخرى:
{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ } [الأنعام: 124]؛ فيكون في هذا إظهار استكبارهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، على جهة التعنت والعناد؛ ليصير ذلك آية لهم في تحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى حكاية عنهم: { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً... } إلى قوله: { أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [الإسراء: 90-93]، ففي هذه الآية إبانة أنهم كانوا يطلبون إنزال الكتاب عليهم؛ ليتقرر لديهم رسالة [ببينا] محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك على جهة التعنت والعناد؛ وإلا لو تفكروا في حاله أداهم ذلك إلى العلم برسالته من غير أن يحتاجوا إلى تثبيت رسالته بكتاب ينزل عليهم، والله أعلم.
وجائز أن يكونوا رأوا أكابرهم أحق بالرسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى بإنزال الكتاب عليهم؛ لما رأوهم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا ترى إلى قوله:
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]، وقال في آية أخرى: { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ص: 8]، فأرادوا أن يؤتوا صحفا منشرة لهذا المعنى؛ إذ هم أولى أن يخصوا بهذه الفضيلة.
وإنما ذكرنا هذه التأويلات في هذه الآية؛ لأن هذه المعاني التي ذكرناها قد ظهرت منهم بمتلو القرآن، والتأويلات التي ذكرها أهل التفسير لا يتهيأ تثبيتها من جهة الكتاب ولا من جهة الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصارت هذه التأويلات أمكن وأملك بالآية من غيرها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ }:
إن الذي حملهم على الطلب بأن يؤتى كل منهم صحفا منشرة إعراضهم عن الإيمان بالآخرة؛ وإلا لو آمنوا بها، لكان إيمانهم بها يحملهم على ترك العناد والتعنت، وعلى ترك الجسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى الإذعان للحق.
وقوله: { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } سنذكر معنى هذه الآية في سورة "عبس وتولى"، وسنذكر معنى قولخ: { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } في سورة "إذا الشمس كورت".
وقوله: { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ }:
فأهل التأويل صرفوا قوله { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ } إلى الله تعالى.
وجائز أن يصرف إلى البشر.
فإن كان المراد من قوله - عز وجل - { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ }: البشر؛ فيكون معنى قوله: { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ }، أي: الذي يقوم بالذكر؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح: 26]، فجعل الذين ألزمهم كلمة التقوى من أهل التقوى، وإن كان المراد من قوله: { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ }، أي: الله - سبحانه وتعالى - فتأويله أنه أهل أن يتقي الزلة والعثرة في حقوقه تعالى.
والوجه فيه أن المرء في الشاهد إنما يتقي الزلة والعثرة إلى آخر؛ لإحدى خصال ثلاث:
إحداها: لما يرى من افتقاره وحاجته إليه؛ فيتقي العثرة إليه؛ تبجيلات وتعظيما.
أو يتقي زلته؛ ذلك لما يرى من قدرته وسلطانه على الانتقام منه.
أو يتقي زلته؛ لكثرة نعمه وأياديه؛ استحياء منه.
وإذا كانت هذه الأشياء هي الداعية إلى الاتقاء، فإن الخلائق بأجمعهم مفتقرون ومحتاجون إلى الله تعالى، وله القدرة والسطان عليهم، وهو المنعم المتفضل على كل أحد، فهو أهل أن يعظم ويوقر، وأن يخاف نقمته، ويستحيا منه، ومن اتقى صار أهل لأن يغفر [له].
وجائز أن يكون معنى قوله - عز وجل -: { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ }، أي: هو أ هل لأن يسأله منه ما يتقي [به] من النار بقوله تعالى:
{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131]، وبقوله: { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6]، ثم علمنا وجه الاتقاء بقوله: { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 201]، فبين أن الاتقاء أن يفزع إلى الله تعالى، ويتضرع إليه، ليتقي بفضله ورحمته، وقال: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [فاطر: 6]، فأمرنا - جل جلاله - بالمناصبة مع الشيطان؛ للمحاربة، وأخبر أن محاربته أن نفزع إلى الله - تعالى - بالاستعاذة بقوله - عز وجل -: { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [الأعراف: 200]، وقال فقي آية أخرى: { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ... } الآية [المؤمنون: 97]، فهو أهل أن يطلب منه ما يقتي به، وأهل أن يستعاذ به؛ لدفع كيف العدو.
{ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ }، أي: أهل أن يطلب منه المغفرة، جعلنا الله - تعالى - من أ هل التقوى والذين من عليهم بالمغفرة.
وقال بعضهم: { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ }، أي: هو أهل أن يتقي عنه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه، والله المستعان.