التفاسير

< >
عرض

لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
-القيامة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }:
هذا كلام مبتدأ منفصل عن الأول، وذكر أهل التأويل أن جبريل - عليه السلام - كان إذا أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، فكان لا يفرغ من آخر آية حتى يقول نبي الله - عليه السلام - في أولها؛ مخافة النسيان، على ما عليه عرف الخلق أنهم إذا أرادوا وعي الكلام وحفظه، كرروها بألسنتهم؛ كي يضبطوها ولا ينسوها؛ فكان النبي - عليه السلام - يفعل ذلك؛ خشية النسيان؛ فَنُهِي عن ذلك بقوله: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }، وهو كقوله:
{ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114].
وهذا عندنا مما لا يجوز أن نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحرك لسانه قبل مجيء هذه الآية، ويستذكره؛ مخافة النسيان إلا بأخبار متواترة؛ لأن هذا في حق الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ولا تجوز الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم] أنه كان يفعل كذلك إلا بتواتر الأخبار، فأما أن يثبت بخبر واحد فلا.
ولا يقال بأنه لو لم يتقدم منه التحريك، لكان لا معنى للنهي؛ فإنه ليس فيه ما ثيبت مقالتهم، ويصحح تأويلهم، ويسوغ لهم الشهادة؛ لأنه يستقيم في الابتداء أن ينهى فيقال: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ }، ولا تفعل كذا، وإن لم يسبق منه ارتكاب ذلك الفعل، ولا تقدم منه تحريك لسان؛ فثبت أنه ليس في ضمن هذه الآية بيان ما ادعوا.
هذا إذا ثبت أن قوله: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ }، وقوله:
{ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114] على النهي؛ فكيف وهو يحتمل معنى آخر غير النهي، وهو أن يكون هذا على البشارة له بالكفاية: أن قد كفيت مؤنة الاستذكار للحفظ، وهذا من عظيم آيات الرسالة أن السورة تلقى عليه؛ فيحفظها كما هي، ما يشتد على الناس حفظه وقراءته إلا أن يتكلفوا، ويجتهدوا في ذلك؛ فيعلم بهذا أن الله - عز وجل - هو الذي أقدجره على ذلك، وجعله آية من آياته، والله أعلم.
ثم الأصل أن من ألقى إلى آخر كلاما متتابعا، نظر في ذلك الكلام:
فإن كان القصد منه حفظ عين الكلام، فإن المخاطب به لا ينتظر فراغ المتكلم عن ذلك الكلام، بل يشتغل بالتقائه وتحفظه ساعة ما يلقى إليه، كمن ينشد بين يدي آخر شعراً، وأراد الآخر أن يحفظ ذلك الشعر ويعيه، فهو لا ينتظر فراغ المنشد عن شعره، بل هو يأخذ بالتقائه في أول ما يسمع منه؛ إذ الغرض من الأشعار حفظ أعينها دون معانيها؛ ألا ترى أن الألفاظ إذا حذفت منها خرجت عن أن تكون شعرا.
وأما إذا لم يكن القصد من الكلام ضبط عينه، وإنما أريد به تفهيم ما أودع فيه من المعنى، فالعادة في مثله الإصغاء إلى آخر الكلام؛ ليفهم معناه، وما يراد به؛ ألا ترى أن من كتب إلى آخر كتابا فإن المكتوب إليه يقرأ بالكتاب من أوله إلى آخره؛ ليعرف مراد الكتاب، لا أن يشتغل بضبط ما أودع فيه من الألفاظ؛ إذ ليس يقصد بالكتابة إلى حفظ الألفاظ.
فإذا كان المراد يتوجه من الكلام إلى ما ذكرنا، ثم القرآن قصد به الوجهان جميعا: ضبط حروفه ونظمه، وتعرف ما أودع فيه من المعاني؛ إذ صار حجة بنظمه ولفظه، وبالمعاني المودعة فيه - فقيل: لا تعجل بتحريك اللسان كما يفعل من يريد التقاء الكلام الذي يلقى إليه؛ فإنك وإن أحوجت إلى حفظ نظمه وحروفه، فقد كفيت حفظه بدون تحريك اللسان.
وجائز أن يكون نُهي عن تحريك اللسان والمبادرة إلى حفظه قبل أن يُقضى إليه بالوحي؛ لما فيه من ترك التعظيم لمن يأتيه بالوحي، فأمر أن يصغي إليه سمعه، ويستمع إلى آخره؛ تعظيما للذي أتاه بالوحي، وتوقيرا له.
ثم هذ هالآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأن من قولهم: إن القرآن لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤلفا منظوما؛ بل أنزل على قلبه كالخيال، فصوره بقلبه، وألفه بلسانه؛ فأتى بتأليف، عجز الآخرون عن أن يؤلفوا مثله.
ونحن نقول: بل أنزل هذا القرآن مؤلفا منظوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن التأليف من فعله؛ والذي يدل على صحة مقالتنا قوله تعالى: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ }؛ لأن التأليف لو كان فعله - عليه السلام - لكان لا يوجد منه تحريك اللسان وقتما نزل عليه؛ لأنه إذا كان كالخيال فهو يحتاج إلى أن يصوره في قلبه، ثم يصل إلى التأليف بعد التصوير، وتتأتى له العبارة باللسان، وإنما يقع التحريك من مؤلَّف منظوم، ثبت أنه أنُزل هذا مولفٌ منظوم.
والثاني: أنه قال:
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل: 103]، فهذه الآية نفت طعن أولئك الكفرة الذين زعموا أن هذا عليس بقرآن، بل إنما عليه فلان، وكان لسان ذلك البشر أعجميا، وهذا القرآن عربي؛ فكيف يستقيم أن يعلمه ذلك البشر، ولسانه غير هذا اللسان، ولو كان هذا القرآن وقتما أنزل كالخيال، ولكان ذلك الطعن قائما؛ لأنه كان يؤلفه، ويجمعه باللسان العربي، وإن علم بالأعجمية لما قدر أن يؤلفه، وينظمه بعد أن كان خيالا باللسان العربي.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }:
فقوله: { عَلَيْنَا } يخرج على أوجه ثلاثة:
أحدها: أن علينا في حق الوعد جمعه وقرآنه؛ لأنه قد سبق منا الوعد في الكتب المتقدمة بإنزال هذا القرآن وإرسال هذا الرسول؛ فعلينا إنجاز ذلك الوعد ووفاؤه.
أو علينا في حق الحكمة جمعه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ الرسالة، و لايتهيأ له ذلك إلا بعد أن يجمع له فيؤديه إلى الخلق.
ولأن الله تعالى حكيم في فعله؛ ففعله موصوف بالحكمة، وإن لم نعرف نحن وجه الحكمة من فعله.
وجائم أن يكون قوله: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في حق الرحمة والرأفة على الخلق، ولا أن يكون ذلك حقا لهم قبله تعالى، وهو كقوله - تعالى -:
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ... } إلى قوله: { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [الإسراء: 86-87]، فأخبر أنه أبقى القرآن، ولم يذهب به؛ رحمة منه على عباده وفضلا.
وقوله - عز وجل - { وَقُرْآنَهُ }، أي: قراءته، وتسميته: قرآنا؛ كما قيل في تأويل قوله:
{ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [الإسراء: 106]، أي: جعلناه فرقانا.
وقوله - عز وجل -: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ }:
أي: جمعناه في قلبك، أو جمعنا حدوده، وما أودع فيه من المعاني.
أو جمعناه بعد أن فرقناه في التنزيل.
وقوله: { فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } اتباعه يكون بأوجه: في أن يبلغه إلى الخلق، ويعلم أمته، ويتبع حلاله، ويجتنب حرامه، وغير ذلك.
وقوله: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }:
جائز أن يكون قوله: { عَلَيْنَا بَيَانَهُ }، أي: بيان ما أنزلناه إليك مجملا؛ فيكون بيانه في تعريف ما هو بحق الائتمار، وما هو في حلق الجواز، وما هو في حق التحسين والتزيين؛ لأن الفرائض لها شعب وأركان وحواشٍ.
أو نقول: فيها فرائض، ولوازم، وآداب، وأركان.
على هذا ففيه منع تعليق الحكم بظاهر المخرج؛ لأنه لو كان متعلقا به، لكان البيان منقضيا بنفس المنزل؛ فلا يحتاج إلى أن يبين، وفيه دلالة تأخير البيان عن وقت وقوع الخطاب في السمع.
ويحتمل أن يكون قوله - عز وجل -: { عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي: بيان ما هو بحق الكنايات والنتائج منها، ما هو بحق الأصول والفروع، وما هو بحق المقصود، فبين لرسوله - عليه السلام - معنى الأصول والكنايات؛ ليتعرف به فروعها ونتائجها، ويبين لمن بعده ممن جاهد في الله حق جهاده، ويهديه لذلك، قال الله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69].
أو يكون قوله: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } في أن نحفظك ونعصمك من الناس؛ لتمكن من تبليغ ما أنزل إليك إلى الخلق، وتبين لهم، والله أعلم.
ووجه آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان شاهدا من الخلائق إلى يوم التناد، ثم لم يمكن من تبليغ الرسالة إلى كل أحد مما ذكرنا بنفسه؛ فكأنه ضمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التبليغ إلى الخلائق كافة بما شاء - جل جلاله - بتسخير الرواة والحفاظ والعلماء ليبلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدى إليهم.
أو يكون قوله: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }، أي: بيان المحق من المبطل، والولي من العدو، وذلك يكون يوم القيامة؛ فيعرف الأولياء بما يجنون من الكرامات، ويبين للأعداء والمبطلين ما يحل بهم من الحساب وأنواع العذاب.