التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
٢٢
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
٢٣
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
٢٤
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
-القيامة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ }.
فقوله: { كَلاَّ } ردع ومنع عما سبق منهم.
وفي قوله: { بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان: أن العظام لا تجمع، وأن البعث ليس بشيء - حبهم العاجلة، وذلك أنهم أولعوا بالعاجلة، وأحبوها حبا أنساهم عن الإيمان بالآخرة، أو عن النظر في الحجج والبراهين التي لو أمعنوا النظر فيها أدتهم إلى القول بالبعث، وحتى صاروا إلى ألا يرجوا الآخرة كقوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا... } الآية [يونس: 7].
وقوله - عز وجل -: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }:
ففيه بيان ما ينتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله تعالى، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما ينتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته؛ فقوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } جائز أن يكون أريد بها نفس الوجوه.
وجائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها، والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }، والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم به، فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية، لا أن أريد بها أعينها، فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ، وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر فاعتراها الحزن، ظهر أن الحزن في وجهه؛ فيكون في قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
وإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع اللذات، لم يبقى لقوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } موضع، إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر؛ فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني: أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق، إذا قربوا إنسانا لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرمه به؛ فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم بذلك.
وجائز أن يكون قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } منصرفا إلى انتظار الثواب؛ كما قاله بعض أهل التأويل، فنتنظر ما يأتيها من التحق والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه؛ فجائز أن يكون بعد تلك الكرامات [كرامات] وتحف أخر لم تأتهم بعد؛ ألا ترى إلى قوله: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه وتكلح؛ فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات لم ينتهوا بعدُ إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها؛ وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
وجائز أن يكون قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }، أي: نجعل نظرها فيما أكرمت إلى الله تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }، أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما ينتهي إليه نظره؛ بل يكون وراء ذلك كرامات أخر، فينصرف قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } إلى ذلك.
ويحتمل: أي: إلى أمر ربها ناظرة.
وإذا كان قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيناها - لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد؛ لا بل ظاهره يُحِيلُ القول بالرؤية؛ فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل.
فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل على إحالة الرؤية، فليس له قطع هذا التأويل، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات؛ فيكون الآية حجة في جواز الرؤية، [و] إن لم تكن حجة في الوجوب، والخلاف فيهما واحد.
واحتج من نفى صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية بأن قوله: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } هو مقابل قوه: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ }، وقوله: { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } مقابل قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ثم لم يكن قوله: { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } على فقد الرؤية، ولكن على العقاب نفسه؛ فكذلك قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها؛ ولكن واقع على الثواب نفسه.
وجواب هذا الفصل من وجهين:
أحدهما: أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب، لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسود الوجوه وتكلحها، ليس في بسورها؛ فلذلك استقام أن يكون قوله: { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } على نفس العذاب، وأهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات بما وصفوا بنضارة الوجوه؛ فاستقام أن يكون قوله: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } منصرفا إلى حقيقة النظر، لا إلى غيره من الكرامات.
ولأن الرؤية من أعلى الكرامات وأرفعها، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات، فكيف يتوقعون أرفعها؟! أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى؛ فجائز أن يكرموا بالرؤية أيضا.
والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب، والنظر إليه ثابت؛ كما قال - عز وجل - ولما جاء في غيرِ خبرٍ النظرُ إلى الله تعالى، وقد قال - عليه السلام -:
"إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته" وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية، ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم، وذلك غير مستقيم لوجهين:
أحدهما: أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة، ولو كان المراد من الرؤية العلم، لارتفع الاختصاص؛ لأن العلم به مما يقع به الاشتراك بين الفريقين.
ولأن كلا يجمع على العلم بالله تعالى في الآخرة، العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب، والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم العيان والمشاهدة، لا علم الاستدلال؛ لأن الآيات لا تضطر أهلها إلى العلم الحقيقي؛ ألا ترى إلى قوله:
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ... } [الأنعام: 111]، وقال: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23]، وقال: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } [المجادلة: 18]، فإذا ثبت ما ذكرنا، فقد صاروا مثبتين للرؤية من الوجه الذي أرادوا نفيها؛ فتثبت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى، ولا نصب الرؤية بالكيفية؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة؛ وهو يُرى بلا كيف، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } جائز أن يكون الظن في موضع العلم هاهنا.
وجائز أن يكون على حقيقة الظن، وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، إذا قلت وخفيت، لم يقع بها علم؛ فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل حانب حتى وقع له اليأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر بعد لم يبلغ مبلغ الإياس؛ فيتوقع النجامة، ولا يتيقن أن يفعل به فاقرة، بل يكون منه على ظن، والله أعلم.
والفاقرة: قيل: الشر، والمنكر، والداهية.
وقيل: الفقير: هو كسير الظهر، والفقر: الكسر، والفقار: عظم في الظهر يكسر، فكأن عظم الظهر يكسر في الآخرة ويسحب في النار على وجهه.
قال -رحمه الله -: كأن هذه السورة من أولها إلى أخرها إلا آيات منها؛ وهي قوله: { بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } - نزلت في تبيين معاملة واحد من الكفرة على الإشارة إليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشترك في حكم من يشاركه في معاملته، فأمر الله تعالى نبيه - عليه السلام - أن يعامله ويستقبله بالذي يحق على الحكماء معاملة السفهاء، ولم يأمره أن يعامله معاملة مثله من السفهاء، وبين معاملَته في هذه السورة؛ ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى، فيعلموه قدره ومنزلته، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا سهلا، وأمره أن يتعامل معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشوكة بقوله:
{ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } [القيامة: 34-35]، والله أعلم.