التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ
٣٣
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٤
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٥
-القيامة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ } فقوله: { كَلاَّ }، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون أريد به: حقا.
ويحتمل أن يكون على الردع والرد؛ أي: لا تفعل مثل هذا؛ فإنك ستندم في الوقت الذي قال: { إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ }؛ كأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت ندمه، فبين لهم ذلك بقوله تعالى: { إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ }، والتراقي: هي عروق العنق، كأنه يقول: حين تزول النفس، أي: الروح عن مكانها، وتنتهي إلى التراقي.
وقوله - عز وجل -: { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } جائز: أن يكون الملائكة هم الذين يقولون هذا، فيقول بعضهم: من يرقى بروحه: أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ مِنْ رقي يرقى، أي: صعد. أو: من يقبض روحه؟
ويحتمل أن يقول أهله: من الذي يرقيه رقية فيشفى؟ فيكون فيه إخبار عما حل به من الضعف والشدة؛ أنه يمتنع عن أن يقول: ادعوا لي راقيا لعلي أُشفَى؛ فيكون أهله هم الذين يقولون هذا فيما بينهم.
وقوله - عز وجل -: { وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ }:
جائز أن يكون الظن على الإيقان هاهنا؛ لما وقع له اليأس من الحياة، وكذلك روي في قراءة ابن عباس - رضي الله عنه -: (وأيقن أنه الفراق).
وجائز أن يكون على حقيقة الظن؛ لما لم يقع له الإياس من حياته بعد، فهو يأملها بعد.
قوله - عز وجل -: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ }:
اختلفوا في تأويله:
قيل: لفت ساقاه إحداهما على الأخرى؛ فلا يفترقان؛ كالتفاف الأشجار حتى لا يجد نفاذا فيها ولا هربا.
وقيل: إن ساقيه في القايمة لتضعف عن حمله؛ من شدة الفزع.
وقيل: أريد بالساق: الشدة، يقال: قامت الحرب على ساق؛ أي: على شدة؛ أي وصلت شدة الموت بشدة الآخرة، واجتمعت شدة الدنيا مع شدة الآخرة عليه؛ لأنه قد حل به سكرات الموت، ونزلت به شدائد الآخرة، وذلك آخر يومه من الدنيا وأول يوم من الآخرة.
وقيل: ما من ميت يموت إلا التفت ساقاه من شدة ما يقاسي من الموت.
وقال بعضهم: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ }، معناه: أن الملائكة يجهزون روحه، وبني آدم يجهزون بدنه، فذلك التفاف الساق بالساق.
وقوله - عز وجل -: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ }:
أي: إلى ما وعد ربك يومئذ يساق: إما إلى خير، وإما إلى شر.
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ صَدَّقَ }، أي: فلا صدق بما جاء من عند الله تعالى من الأخبار، ولا صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.
{ وَلاَ صَلَّىٰ } يحتمل أن يكون أريد به نفس الصلاة، وذلك أن الصلاة حببت إلى الأنفس كلها حتى لا ترى أه ل دين إلا وقد حببت الصلاة إليهم؛ فيكون في قوله: { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ } إبانة سفهه وجهله.
أو يكون قوله: { وَلاَ صَلَّىٰ }، أي: ولا أتى بالمعنى الذي له الصلاة، وهو الاستسلام والانقياد لله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ }:
أي: ولكن كذب بالأخبار التي جاءته.
{ وَتَوَلَّىٰ }، أي: أعرض عن طاعة الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ }، أي: يتبختر ويتكبر، وذكل أن الاحتيال والتكبر إنما يليق بمن أتى بفعل عظيم يعجز غيره عن إتيان مثله؛ نحو أن يهزم جندا عظيما، أو يفتح كورة حصينة، وهذا الذي تمطى لم يفعل سوى أن كذب بآيات الله تعالى، وأعرض عن طاعته، وما هذا إلا فعل السفهاء الحمقى، فأنى يليق بمثله التمطي؟!
وقوله - عز وجل -: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ }:
جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: قل: أولى لك فأولى.
أو كان رسول الله قال له: أولى لك فأولى، فبين الله تعالى ذلك في كتابه.
وقال أهل التأويل: هذا وعيد على وعيد، كأنه قال: "ويل لك فويل، ثم ويل لك فويل".
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بجميع ثيابه، وقال له هذا، فلم يتهيأ لذلك المسكين أن يدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وكان يفتخر بكثرة أنصاره، وأنه أعز من يمشي بين الجبلين، فاله تعالى بلطفه أذله وأهانه حتى لم يتهيأ له الحراك عما نزل به، ولا نفعه قواه وكثرة أتباعه.
وجائز أن يكون قوله: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } أي: أجدر لك، وأحرى، لا أن يكون محمولاً على الإبعاد؛ فيكون قوله: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ }، أي: الأجدر لك أن تنظر فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ وفي الذي كان عليك آباؤك؛ ليظهر لك الصواب من الخطأ، ولاحق من الباطل، فتتبع الصواب من ذلك فتحرز به شرف الدنيا والآخرة؛ إذ كان يفتخر بشرفه وعزه، فإن أردت أن يدوم لك الشرف، فالأولى لك أن تنظر إلى ما ذكرنا، فتتبع الصواب من ذلك.
والثاني: أن العرب كانت عادتها أن تقوم بنصر قبيلتها والذب عنها، [سواء] كانت ظالمة في ذلك أو لم تكن ظالمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قبيلة أبي جهل - لعنه الله - فلو كان على غير حق عنده، كان الأولى به أن ينصره، ويعينه، وعلى ما عليه عادة العرب، وإن كان محقا فهو أولى، فترك ما هو أولى به من النصر والحماية، والله أعلم.