التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ
١
وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ
٢
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
٣
بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ
٤
بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
٥
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ
٦
فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ
٧
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ
٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ
٩
يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ
١٠
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
١٤
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ
١٥
-القيامة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ }، اختلف في تأويله:
فمنهم من ذكر: أنه أقسم الله تعالى بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة، ذكر ذلك عن الحسن، ويكون معناه: لأقسم بسوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة.
لكن ذكر عنه أنه يقول في قوله تعالى:
{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } [البلد: 1-3]: إن القسم يقع على البلد [ووالد وما ولد، والوالد هو آدم] عليه السلام، وما ولد جملة أولاده عليه السلام، فإذا كان القسم جائزا بالوالد والمولود جميعا، كانت النفس اللوامة داخلة في جملة المولود فقد أقسم بالنفس اللوامة عنده؛ فلا معنى للرد هاهنا [ثم موقع "لا" في قوله: { لاَ أُقْسِمُ } وتأويله - يذكر في قوله: { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } في سورة يذكر فيها الكبد.
ومنهم من ذكر أن القسم وقع بهما جميعا، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.
ثم صرف بعض أهل التأويل معنى القسم إلى قوله تعالى: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }، وجعله موضع القسم، فإن كان على هذا، فالإشكال عليه أن يقول قائل: كيف أكد أمر البعث، وجمع العظام بالقسم بيوم القيامة، وقد جرى من القوم الذين احتج عليهم بهذه الآية الإنكار بيوم القيامة، فكأنه أكد القسم بشيء جرى به الإنكار؟
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن يكون القيم منصرفا إلى الحكمة التي توجب القول بالبعث؛ إذ قد بينا في غير موضع: أنه بالبعث ما خرج خلق هذا العالم مخرج الحكمة، ولولا البعث، لكان خلقه عبثا باطلا، كقوله - عز وجل -:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115]، كأنه قال: لا أقسم بحكمته الداعية إلى كون القايمة كذا أن يكون كذا.
وجائز أن يكون القسم في الحقيقة بالدلائل والبراهين التي من تفكر وأمعن النظر فيها، حمله ذلك على القول بالبعث، وإذا كان محتملا صح القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة؛ لأن التفكر في النفس اللوامة والاعتبار بها يدعو إلى القول بالبعث.
ثم العادة جرت على القسم بالأشياء التي عظم خطرها، وجل قدرها في القلوب؛ وجلالة خطرها يكون بأحد وجهين:
إما بما كثرت منافعها؛ فيكون خطرها مشاهدا معروفا.
أو يعظم خطرها بالدلائل الأخبار، فالسماوات والأرضون قد عرف الخلق جلالة أقدارهما بالعيان؛ بما كثرت منافع الخلق بهما.
وعظم يوم القيامة بما جل خطره في القلوب؛ وثبت القول بكونه بالدلالات والبراهين.
ثم قد وصفنا أن الله - تعالى - أقسم بأشياء؛ لتأكيد ما يعرف بيانه ويجب القول به لولا القسم لو أمعن النظر فيه؛ وأعملت فيه الروية؛ لذلك استقام القسم بها، والله أعلم.
واختلف في النفس اللوامة:
قال بعضهم: النفس اللوامة هي النفس الكافرة، تلوم ربها في الدنيا أبدا في تضييق العيش عليها، وتشكو ربها من الفقر والإقتار عليها، مع كثرة نعم الله عليها وإحسانه إليها.
ومنهم من صرف التأويل إلى كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة، فهي تلوم غيرها؛ لتعاطيها أشياء قد تعاطت نفسه مثلها، وامتحنت بها، والحق على كل أحد ألا يلوم أخاه بما تعاطى فعلا قد أتى هو ذلك الفعل بعينه أو مثله، ولكنها أنشئت كذلك لوامة، كما قال:
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } [المعارج: 19-20].
ومنهم من ذكر أن هذا يكون في الآخرة، فالكافر إذا أيقن بالعذاب وما حل به من نقمة الله تعالى ندم على ما فرط في جنب الله، وأدركته الحسرة؛ فعند ذلك يلوم نفسه، والمؤمن إذا عاين الثواب يلوم نفسه لما أمسك عن المعصية وتاب، وأطال المقام في المحراب؛ و أبصر للعاملين بالطاعة حسن المآب، وللعاصي نفسه بما شذ منه وغاب، عند كمال القوة وعنفوان الشباب، وقال: كيف لم أزدد في العمل؛ لأزداد في الثواب!
ومنهم من خص الكافر في الآخرة باللوم على نفسه، وهذا أظهر؛ لأن المسلم إذا أكرم بالثواب فشكره لذلك بشغله عن اللوم [على نفسه]؛ فلا يتفرغ له.
ولأن الله - تعالى - يضاعف له من الحسنات، ويعطيه من الدرجات زيادة على ما استوجبه ب عمله؛ فضلا منه وإنعاما، فكيف يلوم انفسه بتقصيرها في العمل، وهو يعل أن ما وصل إليه من الكرامات، لم ينل جملتها بعمله، بل بفضل الله تعالى وبكرمه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }:
فقوله: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ } وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فليس هو باستفهام؛ ولكنه تحقيق حسبان من الإنسان؛ فجائز أن يكون [ما] حمله على الحسبان هو أن القدرة لا تنتهي إلى هذا في أن تجمع العظام وتؤلف بعد تفتتها وتلاشيها، فيدفع حسبانه هذا بقوله:
{ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] فمن تفكر في النشاة الأولى، علم أن القدرة تنتهي إلى جمع العظام بعد أن صارت رميما، وأن الذي قدر على إنشائها لقادر على جمعها بعد تفريقها.
وجائز أن يكون حسب أن العظام لا تجمع بعد تفريقها؛ لأنها لو جمعت بعد التفريقب، لم تكن تفرق بعد أن وجدت مجموعة؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد لا يقصد إلى نقض ما بنى؛ ليعيده مرة أخرى إلى الجهة المقتدمة، ومن فعل ذلك كان عابثا في هدمه، ولم يكن حكيما، فإن كان هذا المعنى هو الذي حمله على الحسبان، فجوابه أن يقال بأن الجمع الأول وقع لمكان المحنة والابتلاء، والجمع بعد التفريق لمكان الجزاء؛ فإذا كان الجمع الثاني لغير الوجه الذي وقع [له] الجمع في الابتداء، كان مستقيما صحيحاً، وإنما يخرج عن حد الحكمة إذا لم تكن الإعادة إلا للوجه الذي وقع الابتداء [له]؛ ألا ترى أن الذي نقض بناءه إذا أعاده لا للوجه الذي كان يني أول مرة، لم ينكر عليه.
وفيما ذكرنا رد قول الباطنية؛ لأنهم زعموا أن هذه الأنفس تتلاشى وتتلف؛ فلا تبعث، وأن البعث يقع على الأنفس الروحانية، ولو كان كما زعموا، لم يكن لقوله: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } معنى؛ لأن العظام لا تجمع على قولهم بعدما صارت رميمة؛ فيكون الأمر إذن على ما وقع في حسبان هذا الإنسان؛ فلا معنى للرد عليه بقوله: { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ }؛ ألا ترى أن الذي حمله على الإنكار لجمع العظام بعد تفريقها هو أنه لم ير هذا موجودا في الشاهد، ولو كان الأمر على ما زعمت الباطنية، لكن الإنكار مدفوعا؛ إذ وجد النفس الروحانية مبعوثة في الشاهد بعد توفيها، وقال [الله] تعالى:
{ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79]، فأخبر أن الأنفس التي أنشئت أول مرة هي التي تحيا، لا غير.
وقوله - عز وجل -: { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ }:
فمنهم من حمل هذه الآية على الابتداء، وزعم أنه ليس فيها جواب لما يقتضيه قوله - عز وجل -: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }.
ومنهم من ذكر أن قوله: { بَلَىٰ }، جواب قوله: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ }، فاكتفى بقوله: { بَلَىٰ } بما سبق منه من الدلالات والحجج على القول بالبعث؛ فاقتصر على قوله: { بَلَىٰ } على الوصل بما تقدم من الدلالات.
ومنهم من جعل جوابه في قوله: { قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ }، معنى تسوية البنان: هو الجعل من عظم واحد، مجموعا غير متفرق، مثل خف البعير، وحافر الدواب.
ووجه الاستدلال: أنهم أقروا بأن الله تعالى قادر على [أن يسوي] البنان؛ لما رأوا التسوية موجودة في الدواب، ثم الجمع بعد التفريق أظهر وجودا أيسر فعلا من تسوية البنان؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يقدر على التأليف والجمع بين أشياء متفرقة، ويعجز عن تسوية البنان؛ فإذا كانت التسوية أعسر وجودا من الجمع بعد التفريق، ثم وصفوا الله تعالى بالقدرة على تسوية البنان، فكيف أنكروا قدرته على جمع العظام بعد تفريقها؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيرا!!.
ومنهم من يقول بأن الله تعالى لم يسو بين بنان الإنسان، وسوى بين بنان الدواب؛ ليصل إلى الأخذ والإعطاء، وإلى التقديم والتأخير، والقبض والبسط، وأنواع المنافع التي خص بها من نحو ما يملكون بالبنان تسخير الدواب والأنعام؛ فعلم بالتفريق بين الدواب وبينهم أن البشر هم المقصودون بالمحنة، وألا يتركهم سدى، لا بأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يستأديهم شكر ما أنعم الله عليهم؛ وقد ائتمر البعض وعصى البعض؛ فلا بد من دار أخرى للمجازاة؛ فالنظر في هذا يحمله على القول بالبعث والجزاء.
ولأن الاستواء يقع في الابتداء، والجمع بعد التفريق يكون عند الإعادة، والعقول تشهد على أن أمر الإعادة أيسر من أمر الابتداء، فإذا لم يتعذر عليه الاستواء في الابتداء؛ فأنى يعسر عليه إعادة الجمع مع قدرته على الجمع في الابتداء؟
ولأ،هم لما لم يخلقوا مستوية البنان، فليعلموا أن في ترك الاستواء حكمة، ولو كان الأمر على ما قدروا أن لا بعث لكان ذل يخرج عن حد الحكمة؛ فيكون فيما ذكر تثبيت البعث والقول بالقدرة على جمع العظام بعد تفرقها، وتفتتها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }:
قال أهل التفسير: يؤخر التوبة، ويقدم المعصية، ويقول: "سوف أتوب"، فيأتيه الموت على شر حاله.
وعندنا يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون ذكر الإرادة لا على تحقيقها؛ ولكن من فعل شيئا فعله على الإرادة والاختيار، فكنى بالإرادة عن الفعل؛ لأنها تقترن بالفعل؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل، وهو كقوله - عز وجل -:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ص: 27] ولم يظن أحد من الكفرة أن السماء والأرض خلقتا باطلاً، ولكن خلقهما خرج على الحكمة بالبعث والجزاء، ففي تركم القول بالبعث وصف بأن خلقهما للعب والباطل، ويؤدي إلى هذا؛ فيصير كأنهم قالوا ذلك، وظنوا كذلك؛ فعلى هذا يحمل الأمر على الظن، لا أن وجد منهم الظن في الحقيقة؛ فكذلك إذا فعلوا فعل الفجور، وكان فعلهم على الإرادة والاختيار؛ فكأنهم أرادوا أن يفجروا أمامهم، لا أن كانت الإرادة منهم متحققة مقصودا.
وجائز أن يكون ذلك على تحقيق الإرادة، وذلك أن للشر والفجور سبلا من سلكها أفضت به إلى أن يستحق اسم الفجور، وللخير والهدى سبلا من سلكها أفضى به الأمر إلى أن يستحق اسم البر والتقوى، فإنما صار إلى الفجور وإلى أنواع الشرور بسلوكه ذلك السبيل، وصار مريدا من هذه الجهة.
ثم قوله: { أَمَامَهُ }، يحتمل وجهين:
أحدهما: فيما بقي من عمره؛ لأنه يترك الاستهداء والاسترشاد، ويمضي على العادة التي عود نفسه على ذلك من الشرور والضلال.
ويحتمل أن يكون الأمام هو يوم القيامة، ثم قال في موضع:
{ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [الإنسان: 27] بعد ذكر ذلك اليوم بالأمام والوراء جميعا؛ فيكون قوله: { وَرَآءَهُمْ }، أي: وراء الأوقات التي خلت ومضت؛ فعلى اعتبار الإضافة إلى الأوقات الماضية يكون يوم القيامة وراءها، وعلى اعتبار الإضافة إلى ذلك الفاجر يكون أماما؛ لأنه يكون أمام هذال الفاجر؛ فكذلك استقام الوصف بالأمام والوراء جميعا.
ثم ذكر الفجور، ولم يذكر الكفر وإن كان الإنسان الذي يريد أن يفجر أمامه كافرا؛ لأن في ذكر الفجور تعبيراً وتنشييناً؛ إذ هو اسم للتعيير خاصة، وليس في نفس الكفر تعيير؛ إذ كل أحد - مؤمنا كان أو كفارا - مؤمن بشيء كافر بشيء، فالكافر من حيث اسمه لم يصر قبيحا؛ بل بمعناه ما قبح؛ فكان الفجور أبلغ في التعبير من الكفر؛ فسمي به، والله أعلم.
وقال أبو بكر: معنى قوله: { يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }، أي: يريد أن يعاين يوم القيامة، ويعلم به أنه متى هو؟ تفسيره على أثره.
قوله - عز وجل -: { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ }، أي: يريد أن يعلمه بسؤاله متى هو؟ فأخبر أنها تقوم إذا { بَرِقَ ٱلْبَصَرُ }، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } سؤاله هذا سؤال تعنت واستهزاء؛ لما ذكرنا أنه ليس في تعرف وقت كونه مزجر ولا مرغب، وإنما يقع الزجر والرغبة بتكذير الأحوال التي تكون في ذلك اليوم؛ فلذلك ذكر الأحوال التي تكومن في ذكل اليوم، ولم يوقفهم على ذلك الوقت متى يكون؟ إذ ليس في معرفة وقته كثير حكم، فيجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواب الحكماء، لا أن يجيبهم بجواب مثلهم.
وقوله - عز وجل -: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ }:
قيل: دهش وتحير، ثم اختلف بعد هذا:
فمنهم من صرف هذا إلى حالة الموت.
ومنهم من ذكر أن هذه الأحوال تكون يوم القيامة.
وإلى أي الحالين صرف التأويل، فهو مستقيم؛ لأن المنكر بالبعث إذا جاءه بأس الله تعالى، ورأى ما حل به من الأهوال - أيقن بالبعث، وعلم به.
ثم إن كان المراد به حالة الموت؛ فقوله - عز وجل -: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ * وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ * وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ * يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } يخرج على التمثيل، ليس على التحقيق؛ لأن بصره إذا دهش وتحير، صار بحيث لا ينتفع ببصر وجهه، ولا ببصر قلبه، لا يرى ضوء القمر؛ فيصير القمر كالمنخسف، وتصير الشمس والقمر كالمجموعين، ولا يرى ضوء الشمس ولا نور القمر؛ فيصير النهار عليه ليلا، والليل نهارا؛ شغلا بما حل به من البلايا والأهوال، وهو كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قا ل:
"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كره لقاء الله، كره الله لقاءه، ومن أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه" فصرفوا تأويل هذه الخبرين إلى حالة الموت؛ وذلك أن الكافر يعاين في ذلك الوقت ما أوعد من الأهوال والشدائد؛ فكره مفارقة روحه من جسده؛ لئلا يقع في تلك الأهوال والشدائد، وتصير الدنيا له في ذلك الوقت كالجنة، لا يجب مفارقتها.
والمؤمن إذا عاين ما وعد له من البشارات، وأنواع الكرامات، ود الخروج من الدنيا؛ ليصل إلى ما أعد له؛ فتصير الدنيا عليه كالسجن في ذلك الوقت؛ فيكون هذا كله على التمثيل من الوجه الذي ذكرنا.
وإن كان ذلك على يوم القيامة، فهو على تحقيق الخسف، وجمع الشمس والقمر.
وقوله - عز وجل -: { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ }:
يحتمل أن يكون قوله - تعالى -: { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ }، أي: ليس لي موضع فرار عما حل بي.
أو يقول: إلى أين المفر؟ وإلى من ألتجئ؛ لأتخلص من العذاب؟ والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ }:
قال بعضهم: إذا شخص البصر نحو الداعي يوم القيامة، وهو كقوله - عز وجل -:
{ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، فيشخص ببصره إلى الداعي؛ لأنه قد علم أن الذي حل به من بأس الله تعالى هو لامتناعه عن الإجابة للداعي في هذه الدنيا؛ فيسارع يوم القيامة في إشخاص بصره إلى الداعي؛ ابتدارا منه إلى إجابة الداعي.
وقوله - عز وجل -: { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ }، أي ذهب ضوءه ونوره؛ ففيه أن العالم في ذلك اليوم يغير ويبدل، كقوله - تعالى -:
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } [إبراهيم: 48]، وقال: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } [الكهف: 47]، وقال: { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } [طه: 105-106].
وقوله - تعالى -: { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ }:
فيه أن سلطانهما يذهب؛ فلا يعملان عملهما بعد ذلك.
ثم من الناس من زعم أنهما يجمعان يوم القيام كالبعيرين القرينين، أو كالثورين القرينين، فيلقيان في النار، ويعذبان بها.
وذكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أنكر هذا، وقال: "إنهما خَلقْان لله تعالى، طائعان له - عز وجل - ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ } [إبراهيم: 33] يدأبان في طاعة الله تعالى، ومن كان هذا وصفه؛ فلا يجوز أن يعذب".
وعندنا إن إلقاءهما إن ثبت، فهما يلقيان في النار؛ ليعذب بهما غيرهما، وهم الذي عبدوهما من دون الله تعالى، وذلك كقوله - عز وجل -:
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية [الأنبياء: 98]، ومعلوم أن الأصنام التي عبدت من ون الله لا تعذب بالنار، ولكنها تجعل حصبا ونارا يعذب بها من عبدها، وقال [الله] تعالى: { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } [المدثر: 31]، ولا يجوز أن يكون الملائكة يمسهم أذى النار، بل هم الذين يُعَذِبُون؛ فعلى ذلك الشمس والقمر إن ثبت أنهما يلقيان في النار، فهما يلقيان؛ ليعذب بهما من عبدهما، لا أن يعذبا بأنفسهما، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } جائز أن يكون قوله: { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } على طلب الحيلة أن كيف أحتال إلى أن أفر؟ وإلى من ألتجئ؛ لأتخلص من بأس الله وعذابه؟!
ويحتمل أن يكون قوله: { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ }، أي: ليس لي موضع فرار عما حل بي؛ لإيقانه أن ليس له مفر.
وجائز أن يكون هذا كله عند الموت على ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { كَلاَّ لاَ وَزَرَ }.
ذكر أهل التأويل أن الوزر هو الجبل بلغة حمير؟
وذكر عن الحسن قال: كانت العرب يخيف بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض؛ فكان يكون الرجلان في ماشيتهما فلا يشعران حتى يريا نواصي الخيل، فيقول أحدهما لصاحبه: الوزر الوزر، يعني: الجبل؛ فكأنه يقول: ليس لهما إذ ذاك تفريج ولا تسلٍّ من الأحزان كما يتسلى من يأوي إلى الجبل في الدنيا عن بعض ما يحل به من الأفزاع.
وقيلأ: الوزر: الملجأ.
وقوله - عز وجل -: { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ }، فتأويله: أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى إليه عمله؛ كقوله:
{ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49].
وقال بعض أهل التأويل: بما قدم من أنواع الطاعة، وما أخر من حق الله تعالى من اللوازم التي كانت عليه.
وقال بعضهم: بما أعلن، وأسر.
وقال بعضهم: بما قدم في حياته من أعمال، وما أخر، أي: ما سن من سنة، فاستن [بها] بعد موته.
وقد ذكرنا أنه باللطف من الله تعالى ما يعلم بالذي قدم من الأعمال وأخرها، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه؛ وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا، ثم أتت عليه مدة، لم يتذكر جميع ما كتب فيه، ولا وقف على علم ذلك.
وقوله - عز وجل -: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ }:
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا: أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها: أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس، { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ }، أي: أرخى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.
والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله:
{ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23]، وقال: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [المجادلة: 18]، فيقدمون على الحلف؛ اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.
والثاني: أن يكون معنى البصيرة: الشاهد، أي: أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ }، أي: وإن ستر على نفسه، شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله - عز وجل -:
{ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65] وقوله - عز وجل -: { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ... } الآية [فصلت: 20].
فإن قيل: إن الإنسان مذكر، كيف وصف بالبصر بلفظه التأنيث بقوله: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ }، ولم يقل "بصير"؟
فجوابه من أوجه:
أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنسٍ فيه الجماعة، لا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط؛ ألا ترى إلى قوله:
{ وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [العصر: 3]، استثنى الذين آمنوا من قوله: { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ }، ولا يستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله - عز وجل -: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [التين: 4-6]، فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان؛ فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة؛ فيكون قوله: { بَصِيرَةٌ } راجعا إلى الجماعة، والله أعلم.
وجواب ثاني قوله: { بَصِيرَةٌ } وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل، حتى لا يعزب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة؛ كقولك: فلان علامة ونسابة، ورواية للشعر، وبالغة في النحو.
والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والرأس وغير ذلك، وفيها نفس أمارة بالسوء؛ فتصير جوارحه كلها بصيرة، أي: شاهدة عليه بما قدم وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار؛ فيكون قوله: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ }، أي: نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
ثم من الناس من ثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه؛ حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة بقوله:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24]، ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه، لكانت لا تشهد بما لا تعلم.
وليس الأمر عندنا على ما زعموا؛ لأنها لو علمت بذلك، لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها؛ ألا ترى أن القلب لما ثبت له المعرفة، وقع لصاحبه علم المسموع به، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها؛ فلما لم يقع له العلم بيديه، ولا برجليه، ولا بشيء من جوارحه سوى القلب - علم أنه لا حظ لها في المعرفة، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة تشهد على صاحبها، بما يحدث الله تعالى فيها علما ضروريّاً بذلك، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك، كما جعلت نطوقة في ذلك الوقت، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل، والله أعلم.