التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً
٤
-الإنسان

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }.
فـ"هل" و"مَنْ" و"لعل" من الله تعالى واجب، وحقه أن ينظر أن لو كان مثل هذا الكلام من مستفهم، ما الذي كان يقتضى من الجواب؟ فإذا قال الإنسان لآخر: من أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ فجوابه أن يقول: لا أحد أظلم منه، وإذا قال لآخر: هل أتاك حديث فلان؟ فحق المجيب أن يقول إن كان قد أتاه حديث فلان: قد أتاني، وإن كان لم يأته فحقه أن يسأله: كيف كان حديثه؟ ليعرفه.
فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاه خبر الإنسان، فمعنى قوله: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ }، أي: قد أتى على الإنسان، وإن لم أتاه، فحقه أن يسأل حتى يتبين له.
وقيل: الإنسان: آدم عليه السلام.
ثم لقائل أن يقول: أن كيف قال: قد { أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فهو إن لم يكن شيئاً مذكوراً في ذلك الوقت، لم يكن إنساناً وإذا لم يكن إنساناً لم يأت عليه حين من الدهر، وهو إنسان، وإن كان في ذلك الوقت مخلوقا، فقد صار مذكورا، وإذا صار مذكورا، فقد أتى عليه حين من الدهر وهو مذكور؛ فما معناه؟ قيل فيه من أوجه:
أحدها: أن يكون قوله - عز وجل -: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } أي: على ما منه الإنسان، وهو الأصل الذي خلق منه آدم - عليه السلام - وهو التراب، فقال: { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } على الاستصغار لذلك الأصل؛ إذ التراب لا يذكر في الأشياء المذكورة، إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.
والوجه الثاني: قيل: قد أتى على الخلق حين من الدهر، لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا في تلك الخلائق.
والوجه الثالث: قد أتى عليه حين من الدهر، ولم يكن مذكورا في الممتحنين، وهذا في كل إنسان؛ لأنه ما لم يبلغ، لم يجر عليه الخطاب، ولم يكن مذكورا في الممتحنين؛ فالله تعالى [خلق الخلائق ليعبدوه بقوله:]
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، فقوله: { لِيَعْبُدُونِ } إذا صاروا من أهل المحنة، فإلى أن يبلغ قد أتى عليه حين من الدهر، لم يكن مذكورا في جملة من خلقوا للعبادة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ }، والإنسان لم يكن إنسان في النطفة، ولا في العلقة، ولا في المضغة؛ ولكن المقصود من إنشاء النطفة والعلقة هذا الإنسان، والعواقب في الأفعال هي الأوائل في القصد والمراد؛ فاستقام إضافته إلى ما ذكرنا؛ لما رجع إليه القصد من إنشائها.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا أردت أمرا فدبِّرْ عاقبته، فإن كان رشدا فأمضه، وإن كان غيّاً فانته" ؛ فألزم النظر في العواقب؛ فثبت أن المقصود من فعل أهل التمييز العاقبة؛ وإذا كانت العاقبة مقصودا إليها في الابتداء صارت العاقبة كالموجود في الابتداء؛ لذلك استقام إضافة الإنسان إلى النطفة والعلقة والمضغة.
ثم قوله - عز وجل -: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } منصرف إلى أولاد آدم - عليه السلام - فيكون المعنى من الإنسان أولاده، ثم ذكر لهم ابتداء أحوالهم وما تنتهي إليه عاقبتهمه - وهو الموت - ليتعظوا به، ويتذكروا.
ووجه الاتعاظ: هو أنهم إذا علموا ابتداء أحوالهم، وعلموا ما ينتهي إليه عاقبتهم، علموا في الحال التي هم فيها أن أنفسهم في أبدانهم ليست لهم، بل عارية في أبدانهم؛ إذ لم يكن منهم صنع في الابتداء، أو أمانة، والحق على الأمين أن يقوم بحفظ الأمانة ورعايتها، وألا يخونه صاحبها فيها، فإن هو خانها، ولم يتول حِفْظَها - لحقته المسبة والمذمة، وإن حفظها ورعاها حق رعايتها، استوجب الحمد والثناء من صاحبها.
والحق على المستعير أن يتمتع بالعارية، وينتفع بها إلى الوقت الذي أذن له، وألا يضيعها، فإن ضيعها لحقته الغرامة والضمان بتضييعه أياها، وكذلك إذا علموا أنها في أبدانهم عارية وأمانة علموا أن عليهم رعايتها واستعمالها في الوجه الذي أذن لهم فيها؛ لئلا تلحقهم التبعة في العاقبة، ولا تلزمهم المسبة والمذمة في ذلك [في الدنيا والآخرة]، والله أعلم.
والثاني: أن النظر في ابتداء الخقلة، وإلى ما يصير عند انقضاء الأمر، يدعو إلى إيجاب القول بالبعث، وإلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل من الأخبار؛ وذلك لأن التأمل في ابتداء الخلقة يظهر عجيب قدرة الله تعالى ولطيف حكمته، ويعلم أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ لا يجوز أن يقع قصده من إنشاء الخلق للإفناء خاصة؛ لخروجه عن حد الحكمة؛ فيحملهم ذلك على القول بالبعث.
ولأن النظر في ابتداء الخلقة، والنظر إلى ما يرجع إليه بعد الوفاة مما يمنع الافتخار والتكبر؛ لأن إنشاءه كان من نطفة تستقذرها الخلائق، ومن علقة ومضغة يستخبثها كل أحد، وبعد الممات يصير جيفة قذرة، ومن كان هذا شأنه، لم يسحن التكبر في مثله؛ فكان في تذكير أوائل الأحوال وأواخرها موعظة لهم؛ ليتعظوا، ويتبصروا، وتعريف لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم؛ فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ }:
الأمشاج: الأخلاط، ثم الأخلاط تقع بوجهين:
أحدهما: في اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
والثاني: تقع في الأحوال، وهو أن النطفة إذا حولت علقة لم تحول بدفعة واحدة؛ بل هي تغلظ شيئا فشيئا، حتى إذا تم غلظها صارت علقة، وكذلك العلقة يدخل فيها التغيير شيئا فشيئا، حتى إذا تم التغيير فيها حالت مضغة؛ فهذا هو الاختلاط في الأحوال.
فمنهم من قال: الأخلاط: الطبائع الأربع التي عليها جبل الإنسان.
ومنهم من صرف الخلط إلى الألوان، فذكر أن ماء الرجل أبيض يخالطه حمرة، وماء المرأة أحمر يخالطه صفرة.
وقوله - عز وجل -: { نَّبْتَلِيهِ }، أي: بالخير والشر، والأمر والنهي، ثم الابتلاء هو الاستظهار لما خفي من الأمور؛ والله تعالى لا يخفى عليه أمر فيحتاج إلى استظهاره، ولكنه يبتليه ليظهر للمبتلي ما كان خفيا عليه بفعله وتركه، وأما الخلق فهم يمتحنون، ويبتلون؛ ليظهر لهم ما كن خفيا عليهم؛ فيكون الابتلاء منصرفا إليهم لا إلى المبتلي والممتَحِن.
والثاني: أن الابتلاء لما كان لاستظهار ما خفي من الأمور، وذلك يكون بالأمر والنهي؛ فسمي الأمر من الله تعالى والنهي لعبادة: ابتلاء؛ لمكان الأمر والنهي، لا على تحقيق معنى الابتلاء منه.
وقال الحسن: لما صلح أن يضاف الاستخبار إلى الله تعالى وإن كان هو خبيرا عما استخبر؛ فجائز أن يضاف إليه الابتلاء أيضا، وإن كان هو بالذي ابتلاه عالما بصيرا، ولأن الذي يظهر من العبد بعد الابتلاء من الفعل كان غائبا، فالله - تعالى - يعرفه شاهدا بفعله، وقبل ذلك كان يعرفه غائبا؛ لأن معرفة ما يكون أن يعرف قبل كونه غائبا، وبعد كونه شاهدا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }:
أي: جعلنا له سمعا يميز بين ما يؤدي إليه سمعه، وجعلنا له بصرا يبصر به ما أدى بصر الوجه؛ ليضع كل شيء موضعه؛ وذلك هو بصر القلب وسمع القلب؛ لأنه قد خص البشر بالابتلاء؛ لمكان بصر الباطن والسمع الباطن؛ ألا ترى أن البهائم لها بصر الظاهر، وكذلك السمع.
ويحتمل: أي: جعلناه سميعا بصيرا يبصر ما له، وما عليه، وما ينفعه، وما يضره، ثم أنشأ فيه السمع والبصر، ولا يعرف كيفية السمع والبصر الذي جعل فيه، ولا ما هيته، ولا ممن هو؟ لطفاً منه؛ ليعلم أنه منشئ الكيفيات والماهيات، وأنه يتعالى عن الوصف له بالكيفية والماهية.
ثم قال تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }.
يحتمل قوله - عز وجل -: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أوجها ثلاثة:
أحدها: هديناه السبيل؛ لإصلاح بدنه ومعاشه.
أو هديناه السبيل الذي يصلون به إلى استبقاء النسل والتوالد إلى يوم التناد.
أو هديناه السبيل الذي يرجع إلى إصلاح دينهم، وأمر آخرتهم باكتساب المحامد المحاسن، ثم قوله: { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أخبر أنه قد بين لهم السبيل وهداهم إليه، ثم منهم من يختار الشكر له، ومنهم من يختار الكفران له، ثم بين ما أعد للكفور منهم، وما أعد للشكور، وهو ما قال: { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً }.
ثم قوله: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } إن كان المراد منه الطريق؛ فكأنه قال: إنا بينا كلا الطريقين، فإن سلك طريق كذا واختاره يكون شاكراً، وإن سلك طريق كذا واختاره يكون كفورا.
ثم بين لكل طريق سلكه جزاء وثوابا.
ثم قوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً }:
ففيه إنباء أن أيديهم تغل، ويشدون بالسلاسل، فلا يتهيأ لهم أن يقوا العذاب عن وجههم.
ثم قرئ { سَلاَسِلاَ }؛ لأنها غير منصرفة، وقرئ (سلاسلاً) وصرفوه؛ بناء على أن الأسماء كلها منصرفة إلا نوعا واحدا.
وقال الزجاج: السلاسل لا تنصرف؛ لأنه لا فعل لها، لكن صرفها هاهنا لأنها من رءوس الآيات.
وقيل: لأنه جعله رأس الآية.