التفاسير

< >
عرض

وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً
١
فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً
٢
وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً
٣
فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً
٤
فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً
٥
عُذْراً أَوْ نُذْراً
٦
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ
٧
فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ
٨
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ
٩
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ
١١
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
١٢
لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ
١٣
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ
١٤
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٥
-المرسلات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً * فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } اختلفوا في تأويلها:
فمنهم من حمل تأويل هذا كله على الملاكئة.
ومنهم من صرفها إلى الرياح.
ومنهم من صرف البعض إلى الرياح، والبعض إلى الملائكة.
وجائز أن يجعل هذا كله في الرياح، ويستقيم أن يصرف كله إلى الملائكة، ويستقيم أن يجعل البعض في الملائكة والبعض في الرياح.
فإن كان في الرياح، استقام القسم بها؛ لأن من الرياح رياحا هن مبشرات برحمته، سائقات للنعم إلى عباده؛ كقوله تعالى:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ } [الروم: 46].
ومن الرياح رياح [هي] منجيات؛ قال الله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا } [يونس: 22]؛ فجعل الله تعالى الريح سببا لتسيير السفن في البحار، وكام جعل الماء سببا لذلك، وجعل منها مهلكات مذكرات لقوته وسلطانه؛ كما قال - عز وجل -: { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم } الآية [الإسراء: 69]، فهي تميتهم وتهلكهم من غير أن يدركوها بأبصارهم، وإن كانت الأبصار هي أول ما يقع بها درك الأشياء، ولو أراد أحد أن يعرف الوجه الذي له صارت المنجيات منجيات، أو يعرف الوجه الذي له صارت الرياح مهلكات، أو مبشرات - لم يقف عليه؛ فصارت الرياح مذكرات للنعم، وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث، وبكل ما يخبرهم به الرسل؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم، فعلموا أن الأمر غير مقدر بعقولهم ولا بحكمتهم؛ فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض له من الشك والشبه في أمر البعث؛ فأقسم بها - جل جلاله - على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيل ما يقصد إليه باليمين.
فرجعنا إلى قوله: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } قيل: هي الرياح المبشرات؛ سميت: عرفا؛ لأن ما تأتى به من النعم معروفة.
وقيل: العرف: المتتابع، وسمي عرف الفرس: عرفا؛ لتتابع بعض الشعر على بعض؛ فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة.
وكذلك قوله - تعالى -: { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } جائز أن يحمل على الرياح، لكن على الرياح المُنْشِرَات، وهي الرياح السهلة الخفيفة؛ لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله: (وهو الذي يرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته) في بعض القراءات.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء وتقصمها، وهي التي ترسل للإهلاك؛ كقوله تعالى:
{ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ } [الإسراء: 69].
وجائز أن يكون قوله: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للهلاك أو للتبشير؛ لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب، وغير ذلك قبل أن تتتابع، وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها، وهو أن تكف قاصفة شديدة قبل أن تتتابع.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً }.
يحتمل الرياح - أيضا - وأنما سميت: فارقات؛ لأنها تفرق السحاب؛ فيصير البعض في أفق، والبعض في أفق أخرى.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً }.
جائز أن يصرف إلى الرياح، وإلقاء ذكرها ما ذكرنا: أنه تظهر بها النعم، وتتذكر، وتبين بها النجاة، ويقع ببعضها الهلاك، فذلك إلقاء ذكرها، والله أعلم.
وإن صرف الكل إلى الملائكة فيحتمل أيضا:
فقوله - عز وجل -: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً }، أي: الملائكة الذين أرسلوا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً }، أي: الملائكة الذين يعصفون أرواح الكفار، أي: يأخذونها على شدة وغضب.
وقوله - عزو جل -: { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } جائز أن يكون أريد بها السفرة من الملائكة، سموا: ناشرات؛ لأنهم ينشرون الصحف ويقرءونها.
وجائز أن يراد بها الملائكة الذين يأخذون أرواح المؤمنين على لين ورفق.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } جائز أن يراد بها الملائكة، وسميت: فارقات؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } هم الملائكة الذين يلقون الذكر على ألسن الرسل، عليهم السلام.
وإن صرف البعض إلى الملائكة والبعض إلى الرياح، فمستقيم أيضا.
فتكون "المرسلات": الذين أ رسلوا بالمعروف والخير.
و"العاصفات" الريح الشديدة، و"الناشرات": الرياح الخفيفة السهلة.
و"الفارقات فرقا" و"الملقيات ذكرا": هم الملائكة.
ويحتمل وجها آخر: أن يراد بقوله: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هم الرسل من البشر الذين بعثوا إلى الخلق، فيما من رسول بعث إلا وهو مرسل بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وكذلك جائز أن يراد بقوله تعالى: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } هم الرسل؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل، ويلقون الذكر في مسامع الخلق.
وجائز أن يكون قوله: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هي الكتب المنزلة من السماء؛ لأنها أرسلت بالمعروف وكل أنواع الخير.
وكذا قوله: { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً }، أي: ناشرات للحق والهدى، وكذا قوله - عز وجل -: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً }؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل أيضا.
وكذلك { فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً }؛ فإنها سبب لذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { عُذْراً أَوْ نُذْراً }:
أي: عذراً من الله - تعالى - وهو أن الله - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبين الحجج؛ حتى لم يبق لأحد على الله حجة بعد ذلك، فهذا هو الإعذار.
وقوله - عز وجل -: { أَوْ نُذْراً }، أي: أنذرهم، ولم يعجل في إهلاكهم؛ بل بين لهم ما يتقى ويجتنب، وما يندب إليه ويؤتى، فهذا هو الإنذار على تأويل الرياح ما ذكرنا: أنها مذكرات نعم الله تعالى ونقمته؛ فيكون في ذلك إيجاب ذكر المنعم والمنتقم؛ فيكون في ذلك إعذار وإنذار، والله أعلم.
وقوله - عزو جل -: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ }.
فهذا موضع القسم بما ذكر من المرسلات إلى آخرها.
ثم إن كان الموعود هو البعث؛ فمعناه: إن الذي توعدون به من البعث لكائن، وإن كان على الجزاء والعقاب، فتأويله: إن ما توعدون به من العذاب لنازل بكم؛ فتكون الآية في قوم علم الله - تعالى - أنهم لا يؤمنون.
وقوله - عز وجل -: { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ }.
فكأنه - والله أعلم - لما نزل قوله تعالى: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ } سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت وقوعه متى يكون؟ فنزلت: { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ }، فأشار إلى الأحوال التي تكون يومئذ، لا إلى نفس الوقت، فقوله: { طُمِسَتْ }، أي: ذهب ضوءها ونورها، ثم تناثرت.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ }:
أي: انشقت.
{ وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ }.
أي: قلعت من أصلها؛ فسويت بالأرض.
وقال الزجاج: نسفت الشيء إذا أخذته على سرعة.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ }، وقرئ (وقتت)، وكذلك أصله، لكن الهمزة أبدلت مكان الواو؛ طلبا للتخفيف، وهو من التوقيت، أي: جمعت لوقت.
وقيل: أحضرت الرسل؛ ليشهد كل واحد منهم على قومه الذين بعث إ ليهم؛ كما قال [الله] تعالى:
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [النحل: 89].
وقيل: { أُقِّتَتْ } أي: وعد لهم بيان حقيقة ما إليه دعوا من وقوع ما أوعدوا قومهم الذين تركوا إجابتهم من العذاب، ووعد لهم الوصول إلى من آمن بالله تعالى وأجاب الرسل فيما دعوهم إليه من الثواب.
وقوله - عز وجل -: { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ }:
{ أُجِّلَتْ } و{ أُقِّتَتْ } واحد؛ لأن في التأجيل توقيتا، وفي التوقيت تأجيلا، ثم بين وقت حلول الأجل - أجل العذاب - بقوله - عز وجل -: { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ }، أي: ليوم الحكم والقضاء، قال الله - تعالى -:
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [طه: 129]، وقال: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } [فصلت: 45].
فجائز أن تكون الكلمة التي سبقت منه هي تأخير الجزاء إلى يوم البعث؛ فجعل ذلك يوم الجزاء؛ وذلك يكون بالمعاينة، وجعل هذه الدار دار محنة وابتلاء، وذلك يكون بالحجج والبينات؛ فكأنه قال: لولا ما سبق من كلمة [الله - تعالى - من تأخير الجزاء العذاب، وإلا كان العذاب واقعا بهم في هذه الدنيا بالتكذيب.
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن الله - تعالى - أخر] الجزاء والعقاب إلى اليوم الذي يجمع فيه الأولين والآخرين، وقدر في هذه الدنيا خلق هذه البشر على التتابع إلى ذلك اليوم؛ إذ ذلك اليوم هو الذي يوجد فيه الجمع، والله أعلم.
وسمى يوم الفصل لهذا أنه يوم القضاء والحكم، ولأنه اليوم الذي يظهر فيه مثوى أهل الشقاء وأهل السعادة، ويفصل بين الأولياء والأعداء ويفصل بين الخصماء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ }:
أي: لم تكن تدري، فدراك الله تعالى؛ ذكر هذا: إما على التعظيم والتهويل لذلك اليوم، أو على الامتنان على رسوله - عليه السلام - بإطلاعه عليه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }:
في هذا دليل على أن الوعيد المذكور على الإطلاق منصرف إلى أهل التكذيب، ثم لم يذكر ما للمصدقين، وحقه أن يقال: "طوبى للمصدقين"؛ لأن حرف "الويل" يتكلم به عند الوقوع في المهلكة، وحرف "طوبى" يتكلم به في موضع السرور والعطية، فإذا ذكر في أهل التكذيب حرف الهلاك؛ كان من كان بخلاف حالهم مستوجبا للسرور، ولكنه إن لم يذكرها هنا فقد ذكرها في موضع آخر بقوله:
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } [الانشقاق: 7-8]، وقال - عز وجل -: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الأعراف: 8]: تقديم وتأخير.