التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ
١٦
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ
١٧
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ
١٨
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٩
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٢٠
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
٢١
إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ
٢٢
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ
٢٣
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٢٤
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً
٢٥
أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً
٢٦
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً
٢٧
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٢٨
-المرسلات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ }:
جائز أن يكون ذكر هذا؛ ليدفع عنهم الإشكال والريب الذي اعترض لهم في أمر البعث؛ لأن الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في الإنشاء والابتداء، فذكر ابتداء خلقهم؛ لينتفي عنهم الريب في الإعادة.
وجائز أن يكون ذكر خلقهم من الماء المهين، وهو الماء المستعاف المستقذر؛ ليدعوا تكبرهم وتجبرهم وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقادوا له، ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه.
وأخبر أنه خلقهم في الظلمات التي لا ينتهي إليها تدبير البشر؛ ليعلموا أنه قادر على ما يشاء، ويعرفوا أنه لا يخفى عليه شيء؛ فيحملهم ذلك على المراقبة، وعلى التيقظ والتبصر.
وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }:
القرار المكين هو الرحم، جعله الله - تعالى - قرارا مكينا يتمكن فيه الماء المهين، فيخلق منه علقة ومضغفة، ويقر فيه إلى الوقت الذي قدر الله تعالى الخروج منه.
وقوله - عز وجل -: { فَقَدَرْنَا }، قرئ: (قَدَّرنا) و(قَدَرنا)، فـ (قَدَّرنا)، أين خلقنا كل شيء منه يقدر؛ و(قَدَرنا)، أي: سويناه على ممما توجبه الحكمة على الوجوه التي تذكر في قوله - عز وجل -:
{ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 3].
وقوله - عز وجل -: { فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ }:
أي: أنعم به من قادر؛ فيخرج مخرج ذكر الآلاء والنعم، أي: إن الذي فعل بكم هذا هو الله - تعالى - لم يقدر أحد أن يفعل بكم هذا الفعل.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً }:
جائز أن يكون هذا صلة قوله: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } و{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً }.
فيكون في ذكر هذا كله تذكير للآلاء والنعم، وتذكير القدرة والسلطان والحكمة.
فوجه تذكير النعم: أن الله - تعالى - في أول ما أنشأه، أنشأه نطفة قذرة، وجعل لها مكانا يغيب عن أبصار الخلق، ولم يفوض تدبيرها إلى البشر، وكذلك في الوقت الذي أنشأه علقة ومضغة، لم يفرض تدبيره إلى أحد من خلائقه؛ لأنه في ذلك الوقت بحيث يستعاف ويستقذر، ولا يدفع عنه المعنى الذي به وقعت الاستعافة والاستقذار بالتطهير؛ فجعل له قرارا مكينا يستتر به عن أبصار الخلائق، ثم لم أنشأه نسمة، وسوى خلقه أخرجه من بطن أمه وألقى في قلب أبويه الرقة والعطف؛ ليقوموا بتربيته وإمساكه إلى أن يبلغ مبلغا يقوم بتدبير نفسه ومصالحه، ثم جعل له بعد مماته أرضا تكفته وتضمه إلى نفسها؛ فيستتر بها عن أبصار الناظرين؛ إذ رجع بعد موته إلى حالة تستعاف وتستقذر ولا تقبل التطهير؛ فكان في ذكره أول أحواله إلى ما ينتهي إليه تذكير النعم؛ ليصل إلى أداء شكره.
أو جعل الرحم قرارا له في وقت كونه نطفة وعلقة ومضغة؛ لما لا يعرف الخلائق أنه بم يغذى حتى ينمو ويزيد؟ فرفع عنهم مؤنة التربية في ذلك الوقت، ثم إذا صار بحيث يعرف وجه غذائه، وعرف الخلق المعنى الذي يعمل في دفع حاجته، أخرجه من بطن الأم، وفوض تدبيره إلى أبويه؛ فهذا وجه تذكير النعم، وفي ذكره ذكر القوة والسلطان والحكمة، وهو أن الله تعالى جعل النطفة التي أنشأ منها النسمة، بحيث تصلح أن ينشأ منها علقة ومضغة، ولو أراد الخلائق أن يعرفوا المعنى الذي له صلحت النطفة بأن ينشأ منها العلقة والمضغة والعظام واللحم، ثم يكون منها نسمة سوية - لم يصلوا إلى معرفته، وإذا تفكروا في هذا علموا أن حكمته ليست على ما ينتهي إليه علم البشر ولا قوته تقتصر على الحد الذي تنتهي إليه قوى البشر، والذي كان يحملهم على إنكار البعث بعد الإماتة تقديرهم الأمور على قوى أنفسهم وتسويتها بعقولهم، فإذا تدبروا في ابتداء أحوالهم ورأوا من لطائف التدبير وعجائب الحكمة، علموا أن الأمر ليس كما قالوا وقدروا؛ فيدعوهم ذلك إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل وتخبرهم من أمر البعث وغيره.
وجائز أن يكون ذكرهم ابتداء أحوالهم ونشوءهم، وإلى ما يصيرون إليه؛ ليدعوا التكبر على دين الله تعالى وينقادوا له بالإجابة، ولا يستكبروا على أحد من خلائقه؛ لأنهم في ابتداء أحوالهم كانوا نطفة يستقذرها الخلائق، ثم علقة ومضغة، ويصيرون في منتهى الأمر جيفة قذرة؛ ومن كان هذا وصفه فأنى يليق به التكبر على أحد؟!
ثم قوله - عز وجل -: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً }: تكفتهم، أي: تضمهم وتجمعهم في حياتهم وبعد مماتهم، فالانضمام إليها [ف] حال حياتهم ما جعل لهم من المساكن فيها والبيوت، وجعل لهم بعد مماتهم مقابر يدفنون فيها، أو جعل متقلبهم ومثواهم في ظهورها في حياتهم، وجعل بطنها مأوى لهم بعد وفاتهم، وجعل ظهرها بساطا لهم؛ ليسلكوا فيها سبلا فجاجا؛ وقدر لهم فيها أقواتهم، فذكرهم وجوه النعم في خلقه الأرض؛ ليستأدي منهم الشكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ }:
الرواسي هي الجبال الثابتات في الأرض أثبتها في الأرض؛ لتقر بها، ولا تميد بأهلها؛ إذ لو مادت لم يصل أهلها إلى ما قدر لهم من المنافع، فذكرهم بذكره الجبال الرواسي عظيم نعمه عليهم؛ ليستأدي منهم الشكر.
والشامخات: هي الطوال.
وقوله - عز وجل -: { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً }:
ولولا أنزاله عليكم لم تكونوا تصلون إليه بقواكم وحيلكم، ثم أنزله من السماء إلى الأرض، ولم يخرج من حد العذوبة، ولا حل به التغير بما مسته الأرض، واختلطت به، وهذا منصرف إلى الشرب خاصة، ثم لغير العذاب من المنافع ما للعذاب إلا الشرب خاصة.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ }:
وهم قوم نوح - عليه السلام - وقوم عاد وثمود.
{ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ }:
قوم فرعون اللعين وقوم لوط - عليه السلام - وغيرهم.
{ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ }:
قيل: مجرمي هذه الأمة.
ثم اختلف في وقت فعله:
فمنهم من يقول بأن هذا الإهلاك في الآخرة، لقوله - عزو جل -:
{ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } [القمر: 46].
ومنهم من ذكر أنه فعل بهم يوم بدر.
ومنهم من ذكر أن فعله بمجرمى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"نصرت بالرعب مسيرة شهرين" ، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب؛ حتى تركوا الانتداب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمحاربة، ومع كثرة شوكتهم، وقلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا فعله بالمجرمين، وفي إلقاءه الرغب ألطف آيات رسالته، وأبين حجة عليها إذ كان فيه ما ينبههم أن الذي أقعدهم عن القتال، وقذف في قلوبهم الرغب أمر سماوي لا غير، والله أعلم.