التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ
٤١
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ
٤٢
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٤٣
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٤٤
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٤٥
كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ
٤٦
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٤٧
وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ
٤٨
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٤٩
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
٥٠
-المرسلات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ }، فالمتقون: هم الذين اتقوا عذاب الله، قال الله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131]، وقال في آية أخرى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم: 6] وقال: { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 201]، فهذا هو التقوى.
ثم [إن] أهل التوحيد أقروا بالعذاب، في اتقائه، فقيل لهم: انطلقوا إلى ظلال وعيون؛ وأهل النار كانوا مكذبين بالعذاب، فقيل لهم:
{ ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [المرسلات: 29] من العذاب.
ثم أخبرنا بالوجه الذي يقع به الاتقاء فقال:
{ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [فاطر: 6]، وأمرنا بالانتصاب لمحاربته، ثم علمنا وجه المحاربة بقوله: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [فصلت: 36]، وقال: - تعالى -: { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } [المؤمنون: 97]، وقال: { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 201]، فألزمنا الفزع إليه، وبين أنا لا نقوى هاهنا مقابل التكذيب في الأولين.
وجائز أن يكون منصرفا إلى المصدقين بالأقوال، والموفين بالأعمال؛ فالمتقي: هو الذي اتقى إساءة صحبة نعم الله تعالى فوقاه الله - تعالى - شر يوم القيامة، مجازاة له، والمحسن: هو الذي أحسن صحبة نعمه، فأحسن الله منقلبه، وأحله بدار كرامته، في ظلال وعيون وفواكه.
أو المتقي: هو الذي وقى نفسه عن المهالك، فوقاه الله تعالى يوم القيامة، والمحسن: هو الذي أحسن إلى نفسه، وهو الذي استعملها في طاعة الله تعالى؛ فأحسن الله إليه بما أنعم عليه من الظلال والعيونز
ثم أخبر أنهم في ظلال؛ لأن الظلال مما ترغب إليه الأنفس في الدنيا؛ لأنها تدفع عنهم أذى الحر والبرد وأذى المطر والرياح، وغير ذلك، وظلال الأشجار والحيطان تدفع أذى الحر، وظلال البنيان تدفع أذى الحر والبرد والمطر، وهي لا تحول - أيضا - بين المرء والأشياء، عن أن يدرك حقائقها؛ فعظمت النعمة في الظلال، ووقعت إليها الرغبة في الدنيا؛ فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ }، وقال تعالى:
{ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } [الواقعة: 30-31]، ثم الأنفس إذا أوت أوت إلى الظلال، اشتهت ما تتمتع به الأبصار، وأعظم ما تتلذذ به الأبصار أن يكن نظرها إلى المياه الجارية؛ فأخبر أنهم في ظلال وعيون.
وقوله - عز وجل -: { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ }، أي: فواكه أيضا؛ فأخبر أن لهم فيها ما تتلذذ به الأبصار، وتتمتع به، وفيها ما تشتهى أنفسهم، وفيها ما يدفع عن أنفسهم الأذى.
وقوله - عز وجل -: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً } لا تبعة عليكم من جهة السؤال، ولا تنغيص؛ أي: لايؤذيهم ما يأكلون ويشربون، فالهنيء الذي لا تبعة على صاحبه، ولا تنغيص فيه.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ }، فسمى المتقي: محسنا؛ لأنه بدأ بذكر المتقين، وذكر ما أعد لهم، ثم أخبر أنهم جوزوا بإحسانهم؛ فيكون فيه دلالة على أن الاتقاء متى ذكر على الانفراد يقتضي إتيان المحاسن والاتقاء عن المهالك.
ثم رجع إلى المكذبين، فقال: { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ }، فهذا في الظاهر أمر بالأكل والشرب، وهو في الحقيقة وعيد، وهو أن تمتعكم بالأكل وغيره الذي يمنعكم عن النظر في الآيات قليل، عن سريع تفارقونه، وتصيرون إلى عذاب الله تعالى.
وقوله - تعالى -: { إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } قد ذكرنا أن المجرم هو الوثاب في المعاصي.
وقوله - عز وجل -: { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ }، أي: إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: اركعوا؛ أي: اخضعوا، واستسلموا لله - تعالى - امتنعوا عن ذلك؛ استكبارا منهم على الرسل، وإعراضا عن النظر في حجج الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } أي: فبأى حديث يصدقون بعد حديث الله - تعالى - الذي لا حديث أصدق منه، وأقوى في الدلالة.
وجائز أن يكون هذا على تسفيه عقولهم وأحلامهم، وهو أنهم يمتنعون عن التصديق بحديث الله تعالى؛ إذ لا حديث أصدق منه، ثم يصدقون الأحاديث الكاذبة والأباطيل المزخرفة، والله أعلم [بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصبحه أجمعين].