التفاسير

< >
عرض

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً
٣١
حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً
٣٢
وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً
٣٣
وَكَأْساً دِهَاقاً
٣٤
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً
٣٥
جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً
٣٦
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً
٣٧
يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً
٣٨
ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً
٣٩
إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً
٤٠
-النبأ

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً }، أي: مفازا عن أنواع العذاب التي ذكرت في الطاغين.
وقوله - عز وجل -: { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً }، فالحدائق هي الأماكن التي أحاطت الأشجار بأطرافها.
وقوله - عز وجل -: { وَأَعْنَاباً } ظاهر، وقد ذكرنا أنهم وعدوا في الآخرة بكل ما يقع لهم الرغبة في الدنيا.
ثم الأصل أن هذه السورة نزلت على إثر التساؤل بقوله تعالى:
{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } [النبأ: 1-2]، فجائز أن يكون الذي حملهم على السؤال ما اعترض لهم من الشبه، أو خطر ببالهم، فسألوا؛ ليبين لهم، وتزول عنه الشبه، فذكرهم عظم نعمه وعجائب تدبيره وقوته وسلطانه، ووعد أن من أمعن النظر فيها دلهم ذلك على بعثهم وإزاحة الإشكال عنهم بقوله: { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [النبأ: 4-5]، وبين مآب من استقام على الصراط المستقيم، وسلك سبيله، وأخبر أنه من لم ينعم النظر فيها، ولم يعط النصفة من نفسه وضيعها، فمصيره إلى ما ذكر من قوله: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِّلطَّاغِينَ مَآباً } [النبأ: 21-22]، وسيعلم ذلك بقوله: { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [النبأ: 4] إن حمل هذا على الوعيد.
وقوله - عز وجل -: { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } قيل: الكاعب: هي التي تكعب ثدياها، وذلك حين تبلغ أن تحيض، وهي ناهد، وهي أشهى ما يكون إلى الرجال.
والأتراب المستويات في السن؛ ففي هذا إنباء أنهن يكن أبدا على سن واحد، لا يتغيرن عن تلك الحال، ولا يهرمن.
وقوله - عز وجل -: { وَكَأْساً دِهَاقاً }، قيل: ملآنا.
وقيل: صافيا.
وقيل: متتابعا.
فوصفه بالملآن؛ ليعلم أن ذلك الشراب لا ينقص ما داموا يشربون؛ خلافا لما عليه شراب أهل الدنيا.
ومن حمله على الصفاء، فمعناه: أنه صاف عن الآفات والمكروه التي تكون في شراب أهل أهل الدنيا من التصديع وإذهاب العقل، وغير ذلك.
ومن حمله على التتابع، فمعناه: أن ذلك الشراب لا ينقطع، ولا نفد ما داموا ي شربه، بل يتتابع عليهم، ولا يحدث فيهم حال تمنعهم عن الشرب من السكر وغيره؛ فيمتنعوا عن شربه؛ خلافا لشرب أهل الدنيا.
وروي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: "كنا إذا استحثثنا الساقي في الجاهلية، قلنا: داهق لنا"، أي: تابع لنا.
وقوله - عز وجل -: { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً }، أي: لا يسمعون فيها ما يحق أن يلغى، بل يسمعون فيها كل خير، والذي يحق أن يلغى ما ذكروا من الحلف والباطل والكذب؛ فلا يسمعون شيئا من ذلك ما يسمع من أهلها في الدنيا إذا شربوها.
وقوله - عز وجل -: { كِذَّاباً } إن قرئ بالتخفيف فهو من الكذب؛ أي: لا يكذبون.
وإن قرئ بالتشديد فهو من التكذيب؛ أي: لا يكذب بعضهم بعضا؛ فكان معناه: أن ذلك الشراب لا يعمل فيهم هذا العمل؛ حتى يحملهم على الكذب والتكذيب؛ كما يوجد في شراب أهل الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { فِيهَا } أي: في الجنة.
ثم قوله: { كِذَّاباً } قرأه بعضهم بالتخفيف في الموضعين هانا وفي:
{ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } [النبأ: 28] وقرئ بالتشديد في الموضعين، وقرأه بعض القراء بالتشديد في الأول ، وبالتخفيف في الثاني.
وعن الكسائي أنه قال: بالتخفيف لغة مضر، وبالتشديد لغة يمانية؛ يقولون: كذبه تكذيبا وكذابا، وخربه تخريبا وخرابا، ونحو ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }، قوله: { جَزَآءً }، أي: جزاهم، و{ عَطَآءً }: أعطاهم، و{ حِسَاباً } حاسبهم.
وقال الحسن: جزاهم بأعمالهم، أي: زادهم على القدر الذي استوجبوا.
وقال بعضهم: أعطاهم عطاء كثيرا حتى قال كل واحد منهم: حسبي، حسبي.
والذي يؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يقرأ: (جواء من ربك عطاء حَسَناً).
وقال بعضهم: جزاء باعمالهم التي كتبت الحفظة، وأحصتها عليهم، وأعطى عطاء حسابا؛ أي: كثيرا؛ جزاء لما أخفوا من أعمالهم التي لم يطلع عليها ملائكة، فأعطاهم عطاء بينا ظاهرا يعرفه الناس.
وجائز أن يكون الجزاء عطاء من ربه، لا أنه يستوجب الجزاء؛ لما ذكرنا أنه لا أحد من هذا البشر إلا وقد سبقت له من الله - تعالى - نعم، لو أنفذ جميع عمره في أداء شكره منها، لم يصل إلى كنه ما عليه من الشكر؛ إذ من قام بالشكر، ووفق عليه، زيد له - أيضا - في النعم؛ لمكان الشكر، فإذا وصل إلى جزاء عمله في الدنيا، لم يستوجب به المزيد؛ فثبت أن الجزاء في الآخرة بحق الإفضال من الله تعالى والإنعام، لا بحق الاستيجاب؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ... } الآية [النساء: 69]، فسمى الكرامة: إنعاما، وقال في آية أخرى: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [الحديد: 21]، فجعل ما آتاهم من النعيم فضلا منه؛ فثبت أن الذي جزاهم به عطاء من ربه حساب، أي: كثير.
وقوله - عز وجل -: { رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }، فالرب: المالك، فذكر أنه مالك السماوات والأرض وما بينهما؛ ليعلموا أنه لم يمتحن أحدا بعبادته لحاجة تقع له، أو لمنفعة تصل إليه، بل هو الغني، وله ما في السماوات وما في الأرض، وأن منفعة ما امتحنوا به من العبادات راجعة إلى أنفسهم إذا وفوا بها، وإذا لم يقوموا بأدائها كان الضرر راجعا إليهم.
وقوله - عز وجل -: { ٱلرَّحْمَـٰنِ } بين أنه رحمان؛ ليرغبوا في رحمته، ويتسارعوا إلى مغفرته.
وقوله - عز وجل -: { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } هيبة من الله تعالى، وتعظيما لحقه؛ فلا يملكون من هيبته الخطاب بالشفاعة أو بالخصومة أو بأي شيء كان.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً }، اختلف في الروح:
فمنهم من صرفه إلى أرواح المسلمين.
ومنهم من ذكر أنهم الحفظة على الملائكة يرون الملائكة ولا تراهم الملائكة.
وجائز أن يكون الروح الكتب المنزلة من السماء، كما قال:
{ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [النحل: 2]؛ فتكون الكتب مخاصمة مع من ضيع حقها وبنذها وراء ظهره، وشافعه لمن أدى حقها، وعمل بما فيها.
ومنهم من ذكر أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر؛ قال الله تعالى:
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85].
وقوله - عز وجل -: { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً }، جائز أن يكون هذا منصرفا إلى الشافع؛ أي: الشافع لا يقول فيما يشفع غير الصواب، وما حل به من الرهبة والخوف من هيبة الله تعالى لا يزيله عن التكلم بالحق؛ بل الله تعالى يثبته على الحق، ويجرى على لسانه الصواب.
وقال بعضهم: معناه: لا يشفع إلا من قال في الدنيا صوابا، وهو الحق.
وقيل: معناه: أنه لا ينال من الشافعة حظا إلا من قال في الدنيا الصواب، والصواب أن يكون مقيما فيما دان به من التوحيد.
وذكر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه مر بعجوز وهي تدعو فتقول: "اللهم اجعلني من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم" فقال لها: قولي: "اجعلني من رفقاء محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ فإن شفاعته لأهل الكبائر من أمته".
قال - رضي الله عنه -: وبهذا الفصل تعارضنا المعتزلة، فتقول: إذا قلتم: ا للهم [اجعل لنا] من شفاعة محمد نصيبا، فقد قلتم: اللهم اجعلنا ممن يرتكب الكبائر؛ إذ شفاعته في زعمكم لأهل الكبائر.
فالجواب عن هذا أن الذي ابتلي بارتكاب الكبائر دون الشرك إنما ينال الشفاعة بما سبق منه من الخيرات من التوحيد وتعظيمه ربه - عز وجل - فمحاسنه التي سبقت منه هي التي تجعله محلا للشفاعة، ولولاها ما نالها، فإذا قال: اللهم اجعل لي من شفاعة نبيك نصيبا، فهو يقول: اللهم وفقني على فعل الخيرات، واجعلني ممن يعظمك ويتقرب إليك بالطاعة حتى أنال بها الشفاعة، لا أن يقصد بدعائه جعله من أهل الكبائر، والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143-144] فأخبر الله تعالى أن تسبيحه ما أنقذه من بطن الحوت، ولو لم يكن مسبحا لم يستوجب الخلاص، وكذلك صاحب الكبيرة يستوجب الشفاعة، ويرجى له الخلاص بما سبق منه من الحسنات دون أن يستوجبها لارتكاب الكبيرة.
ثم من قول المعتزلة: أنهم يرون الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر؛ فيقال لهم: إن من دعا الله تعالى، وسأله المغفرة، فكأنه يدعو، فيقول: اللهم ابتلني بالصغائر حتى تغفرها [لي]، فإن قلتم بأن دعاءه بالمغفرة لا يقتضي ما عارضناكم به، فقولوا كذلك فيمن يقول: "اللهم اجعل لي من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم نصيبا": إنه لا يقتضي أن يجعله من أهل الكبائر.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ } قيل: معناه: ألا يقال في ذلك اليوم غير الحق.
وجائز أن يكون منصرفا إلى اليوم نفسه؛ فيكون معناه: أن كونه حقا يكون لا محالة.
وقوله: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً }، أي: مرجعا؛ تأويله: أن الله تعالى بين للخلق سبيل الضلال والهدى، ولم يصد أحدا عن سبيل [الضلال و] الهدى، وبين أن من سلك سبيل الضلال فمآبه إلى النار، ومن سلك سبيل الرشد والهدى، فمآبه إلى الجنة، وذلك مآبه إلى الله تعالى، واتخاذ السبيل إليه تعالى.
وقوله: { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً }، أي: العذاب الذي أوعدهم به قريب مأتاه، وإن استبعدتموه في أوهامكم؛ قال الله - تعالى -:
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [النحل: 1].
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ }، فجائز أن يكون هذا منصرفا إلى الخلائق أجمع مؤمنهم وكافرهم.
ثم تخصيص الأيدي بالذكر هو أن التقديم والتأخير في الشاهد يقع بالأيدي؛ فأضيف إليها؛ وإن احتمل ألا يكون للأيدي صنع فيما ارتكب من الآثام، أو فيما فعل من الخيرات، وهو كالمطر يسمى: رحمة الله، وإن لم يكن ذلك من أوصافه؛ لأنه برحمة الله ما ينزل من السماء، وسمي الكلام: لسانا وإن لم يكن هو لسانا؛ لأنه باللسان ما يتكلم؛ فكذلك التقديم أضيف إلى الأيدي؛ لما بها يقع التقديم في الشاهد وإن لم يكن للأيدي صنع.
وقوله - عز وجل -: { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }، ذكر هذا التمني في الكافر دون المؤمن؛ لأن المؤمن يرى حسناته متقبلة وسيئاته مغفور؛ فيأمن من عقاب الله تعالىا، والكافر يرى نفسه مؤاخذة بالسيئات، ولا يرى لها حسنات متقبلة؛ فيتمنى أن يكون ترابا؛ ليتخلص عن عذاب الله .
وقال بعضهم: إن الوحوش تحشر والطيور كلها، ثم يقول الله - تعالى -: "كوني ترابا"؛ فيتمنى الكافر في ذلك الوقت أن يكون ترابا، والله أعلم [بالصواب].