التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-الأنفال

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلى آخر ما ذكر.
يحتمل وجوهاً:
يحتمل قوله: إنما المؤمنون الذين [حققوا إيمانهم بما ذكر من الأفعال.
والثاني: إنما المؤمنون الذين] ظهر صدقهم عندكم بما ذكر من الأفعال من وجل القلب والخشية والثبات واليقين على ما كانوا عليه، ليس كالمنافقين الذين كانوا مرتابين في إيمانهم، كما وصفهم في آية أخرى؛ حيث قال:
{ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ } [النساء: 142]، وكانوا إذا أنفقوا أنفقوا كارهين، وكانوا لا يذكرون الله إلا قليلاً مراءاة للناس، وأما المؤمنون فهم الذين يقومون بوفاء ذلك كله حقيقة، فيظهر صدقهم بذلك، وهو ما وصفهم [به] في آية أخرى: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [الحجرات: 15].
ويحتمل أن يكون على الاعتقاد خاصة، ليس على نفس العمل؛ كأنه قال: إنما المؤمنون الذين اعتقدوا في إيمانهم ما ذكر من وجل القلوب والخشية عند ارتكاب المعصية، والتقصير عن القيام بما عليه، وما يرتكب المؤمن من المعاصي إنما يرتكب عن جهالة ثم يتوب عن قريب؛ كقوله:
{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } [النساء: 17]، يرتكب ذلك إما لغلبة شهوة، أو يعتقد التوبة من بعده، أو يرجو رحمة الله وفضله في العفو عن ذلك، فيكون قوله: إنما المؤمنون الذين اعتقدوا لإيمانهم ما ذكر من الأفعال؛ وهو كقوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [التوبة: 5] هو على الاعتقاد والقبول له: أنهم إذا اعتقدوا ذلك وقبلوا، يخلى سبيلهم وإن لم يقيموا الصلاة وما ذكر وكذلك الأول يحتمل ذلك.
والرابع: يحتمل قوله: إنما المؤمنون هم الذين فعلوا هذا وأتوا بذلك كله، لكنهم أجمعوا: أن من آمن بقلبه وصدق كان مؤمناً وإن لم يأت بغيره من الأفعال؛ نحو أن يؤمن ثم يخترم ويموت من ساعته مات مؤمناً؛ فدل أنه لم يخرج ذلك على الشرط لما ذكرنا، ولكن على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } يخرج على وجوه:
أحدها: يخبر أن المؤمن هو على وصف ما ذكر.
أو يقول: إن المؤمنين الذين ينبغي أن يكونوا ما ذكر.
أو يقول: إنما المؤمنون المختارون ما ذكر، جعل الله تعالى ما ذكر من وجل القلب وغيره علماً بين الذين حققوا الإيمان في الظاهر والباطن وبين الذين أظهروا الإيمان وأضمروا الكفر والخلاف، وكذلك ما ذكر في آية أخرى:
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ } [النور: 62].
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } يحتمل قوله: { ءَايَٰتُهُ } : حججه وبراهينه إذا تليت عليهم ذلك يزداد لهم ثباتاً وقوة على ما كانوا، وأما المنافقون فإن الآيات التي نزلت كانت تزداد لهم بها رجساً وبعداً فإن المؤمنين يزيد لهم ذلك ثباتاً وقوة. أو ذكر الزيادة؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة، فإذا كان له حكم الحدوث والتجدد فهو زيادة على ما كان، فإن شئت سميتها زيادة وإن شئت سميتها ثباتاً. وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: يزيد الإيمان بالتفسير على الإيمان بالجملة، فإذا فسروا لهم وقالوا: فلان رسول ونبي، ازداد بذلك له إيماناً وإن كان قد آمن به بالجملة، وكذلك الإيمان بجميع الكتب والأمر وإن كنا نؤمن في الجملة أن له الخلق والأمر، فإذا عرف ذلك الأمر ازداد له إيماناً في ذلك - والله أعلم - لأن من آمن بالله وأن له الخلق والأمر فقد أتى بعقدة الإيمان، فإذا جاء بالتفسير واحداً بعد واحد ازداد له إيمانه بالتفسير على إيمانه بالجملة.
وقوله - عز وجل -: { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي: على ربهم يتقون ويعتمدون في كل أمورهم لا يتوكلون على غيره إنما يتوكلون على الله وليس كالمنافقين هم إنما يتوكلون على النعم التي أعطوا؛ كقوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } [الحج: 11] ونحو ذلك، وأما المؤمن فإنه في جميع أحواله يتوكل على الله ومنه يخاف، وإن كان يصل ذلك إليه ويجري على يد غيره فهو في الحقيقة من الله.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } بحق الله الذي عليهم.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } يحتمل وجهين:
يحتمل: أولئك الذين حققوا إيمانهم.
والثاني: أولئك المؤمنون الذين وعد لهم وعداً حقّاً، وهو ما وعد لهم من الدرجات والمغفرة حق لهم ذلك الوعد، والله أعلم.
{ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } قيل: فضائل عند ربهم { وَمَغْفِرَةٌ } أي: يستر عليهم ذنوبهم التي كانت لهم في الدنيا في الجنة وينسونها؛ لأن ذكر ذلك ينقص عليهم نعمتهم التي أنعم عليهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } قيل: الحسن ورزق يكرم به أهله.