التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٥٠
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٥١
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٥٢
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٥٣
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ
٥٤
-الأنفال

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }.
قال بعضهم: الآية مقابلة قوله: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ }؛ يقول - والله أعلم -: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، أي: يقبض أرواح الذين كفروا كيف يقبضون أرواحهم، وكيف يضربون وجوههم وأدبارهم؛ كأنه قال - والله أعلم -: لو رأيت الحال التي تقبض فيها أرواحهم وما ينزل بهم، لرأيت أن ما عملوا من صد الناس عن سبيل الله، واستكبارهم على المؤمنين، وخروجهم لقتال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما عملوا بأنفسهم، لا بالمؤمنين.
وقوله: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }.
يحتمل ما ذكر من فعل الملائكة يوم بدر؛ لأن الآية ذكرت في قصة بدر.
ويحتمل أن يكون ذلك كل كافر أن الملائكة يفعلون به ما ذكر؛ كقوله:
{ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ... } [الأنعام: 93] الآية، هذا في كل كافر.
وقوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }.
ليس على إرادة حقيقة الوجه والدبر، ولكن على إرادة إيصال الألم إليهم بكل ضرب وبكل جهة؛ كقوله:
{ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر: 16]، ليس على إرادة التحت والفوق، ولكن على إرادة إحاطة العذاب بهم؛ فعلى ذلك الأول.
وقال بعضهم: يضربون وجوههم في [حال] إقبالهم [على] المؤمنين، وإدبارهم وانهزامهم منهم.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ }.
ذكر تقديم اليد، وإن كان الكفر من عمل القلب؛ لما باليد يقدم في العرف.
وقوله: { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }.
في الآية دلالة الرد على المجبرة؛ لأنهم لا يجعلون للعبيد في أفعالهم صنعاً، يجعلون حقيقة الأفعال لله، وذكر { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ }، فلو لم يكن لهم صنع، لم يكن لقوله: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } معنى، وكذلك قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }، فلو لم يكن لهم حقيقة الفعل، لكان التعذيب ظلماً، دل أن لهم فعلا، والله أعلم.
قوله: { لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }.
فيما شرع من القتال، والإهلاك، والتعذيب في الآخرة؛ لأنه مكن لهم ما يكسبون به النجاة والحياة الدائمة، فما لحقهم مما ذكر؛ إنما كان باكتسابهم واختيارهم.
وقوله - عز وجل -: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ }.
قال بعضهم: صنيع هؤلاء، أي: صنيع أهل مكة بمحمد كصنيع فرعون وقومه بموسى [يعني] في التكذيب والكفر بآياته.
وقال قائلون: صنع الله بأهل مكة من العقوبة كصنيعه بفرعون وآله ومن سبق من الأمم من الإهلاك والتعذيب، وقد فعل بأهل مكة يوم بدر بسوء معاملتهم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل ذلك بفرعون وآله بسوء معاملتهم موسى.
{ كَدَأْبِ }.
قيل: كصنيع.
وقيل: كفعل.
وقيل: كأشباه.
وقيل: كعمل؛ وهو واحد.
وقوله - عز وجل -: { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.
وقوله: { شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }، أي: لا يضعفه شيء يمنعه عما يريد.
وقوله: { ذٰلِكَ }.
أي: ذلك العذاب والعقاب الذي ذكره.
{ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.
قال قائلون: النعمة التي أنعمها عليهم هم الرسل الذين بعثهم إليهم والكتب التي أنزلها عليهم [لم يكن] مغيرا لتلك النعم { حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } بالتكذيب والرد وترك القبول، وهو كقوله:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا... } [القصص: 59] الآية.
وقال قائلون: قوله: { لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }، أي: [حتى] يصرفوا شكر نعمه إلى غير الله ويعبدون دونه، أي: لا يغير النعم التي أنعمها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، يعبدون غير الله، ويشكرون غير الذي أنعم عليهم، فعند ذلك غير الله ما بهم من النعمة، وكذلك قال ابن عباس: نعمة من النعم إن تولوا عن شكرها، غير الله عليهم وأخذها منهم.
والثاني: يحتمل النعمة الدينية، وهو تكذيبهم الرسل وردهم الكتب بعد ما أقسموا أنهم يكونون أهدى من إحدى الأمم، واختيارهم الشرك والكفر على الإسلام والتوحيد، فإذا اختاروا تغيير ذلك، غير عليهم.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.
يخرج على وجهين:
أحدهما: النعمة الدنيوية، لا تتغير تلك عليهم إلا بتغيير من قبلهم؛ إما بترك الشكر لها، وإما بصرفه إلى غير الذي أنعمها عليهم، ولو غيرت عليهم غيرت ببدل، فليس ذلك - في الحقيقة - تغيير { وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
قيل: أي: سميع لشكر من يشكره ويحمده، عليم بزيادة النعمة إذا شكر.
ويحتمل: { سَمِيعٌ } أي: مجيب، { عَلِيمٌ }: بمصالحهم.
ويحتمل أنه سميع لما أسروا من القول وجهروا به، عليم بما أضمروا من العمل والشرور.
وقوله - عز وجل -: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ }.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص ذكر آل فرعون من بينهم؟
وما الحكمة في تكرار قوله: { آلِ فِرْعَوْنَ }؟
قيل: لما كانوا أقرب إلى هؤلاء من غيرهم ممن كان قبلهم.
ألا ترى أنه قال:
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } [المزمل: 15].
أو أن يذكر أهل الكتاب منهم؛ لما كانوا ينكرون بعث الرسل من غيرهم؛ ويقولون: إن محمداً أمي بعث إلى الأميين مثله، فقال: إن موسى لم يكن من القبط، فبعث رسولا إليهم؛ فعلى ذلك محمد [وإن] كان أميّاً فبعث إلى الأميين وغيرهم، والله أعلم بذلك.
وأما فائد التكرار - والله أعلم -: فهو أنه ذكر في الآية الأولى الأخذ بالذنوب والتعذيب، ولم يبين ما كان ذلك العذاب، فبين في الآية الأخرى أن ذلك العذاب هو الإهلاك والاستئصال؛ حيث قال: { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ... } الآية.
ويحتمل قوله: { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } في الآخرة بكفرهم بآيات الله في الدنيا؛ ذكر في إحدى الآيتين العذاب في الآخرة، وفي الآية الأخرى [الإهلاك] في الدنيا؛ لأنه ذكر في الآية الأولى الكفر بآيات الله، ولم يبين ذلك، وذكر في الآية الأخرى التكذيب بآياته، فبين الله أن الكفر بآياته هو تكذيبها، والتكذيب إنما يكون في الأخبار، وكذلك التصديق.
وفيه دلالة أن الإيمان هو التصديق؛ لأنه جعل مقابله وضده التكذيب.
وفيه أن الإيمان ليس هو المعرفة؛ لأن مقابلها الجهل بالله، ليس هو التكذيب، لكن بالمعرفة يكون التصديق، وبالجهل يكون التكذيب.