التفاسير

< >
عرض

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ
١
أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ
٢
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ
٣
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٤
أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ
٥
فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ
٦
وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ
٧
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ
٨
وَهُوَ يَخْشَىٰ
٩
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ
١٠
كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
١١
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
١٢
فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ
١٣
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ
١٤
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
١٥
كِرَامٍ بَرَرَةٍ
١٦
-عبس

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية؛ فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده من عظماء المشركين [قوم] يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام، فلما جاءه ابن أم مكتوم يسأله، أعرض عنه؛ لمكان أولئك القوم، وعبس وجهه؛ رجاء إسلامهمز
وذكر غيره من أهل التفسير: أنه عبسى وتولى؛ لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه؛ فعبس وجهه بقطعه الحديث عليه.
ثم هذا التعبس منه - عليه الصلاة والسلام - كان في أمر لو التأم، ثم وزن ذلك بخيرات أهل الأرض، لرج على خيراتهم ومحاسنهم؛ لأنه ذكر أنه كان مقبلا على رؤساء الكفرة يعظهم ويحرضهم على الإسلام؛ رجاء أن يسلموا؛ فيكون في إسلامهم رجاء إسلام كثير من القوم؛ لأنهم كانوا من عيلة القومو وعظمائهم؛ فكان في إسلامهم رجاء إسلام من يتبعهم من قومهم؛ فيستوجب بإسلامهم من جزيل الثواب وعظم المنزلة ما لا يبلغه آخر بجميع محاسنه؛ فكان في سؤاله إياه منع ما قصد إليه من إحراز جزيل الثواب وكريم الخصال، وإذا كان هكذا فعتبس الوجه في مثل هذال الحال أمر سهل لا يستبعد ولاستنكر.
والثاني: أن تعبس الوجه على الأعمى، والإعراض عنه لا يظهر للأعمى؛ لأنه لا يراه؛ فلا يعده جفاء، وكان في إقباله على أولئك القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم؛ إذا إقباله وحسن صحبته يظهر لهم، وفي الإعراض عنهم ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم، ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الشرك إلى الهدى وصلاح الدين الدنيا، فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهى.
ولأن إقباله على القوم إذ كان؛ لمكان دعائهم إلى الإسلام، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا، فلأن يسوغ الدعاء من وجه ليس فيه إلا تعبيس الوجه على واحد من المسلمين - أولى - ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وجد منه هذا النوع من الإيثار؛ اجتهادا ورأيا، والأنبياء - عليهم السلام - قد جاءهم العتاب من الله - تعالى - بتعاطيهم أمورا لم يسبق من الله - تعالى - لهم الإذن في ذلك، وإن كان الذ تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق؛ نحو ما عوتب يونس - عليه السلام - وعوقب بمفارقة قومه بغير إذن، وإن كان مثل تلك المفارقة لو وجدت من واحد من أهل الأرض، استوجب بها الحمد، وحسن الثناء؛ لأن تلك المفارقة لا تخلو من أحد أمور ثلاثة:
أحدها: أن قومه كانوا أهل كفر، وكانوا له أعداء في الدين؛ ففارقهم؛ لينجو منهم، ويسلم له دينه، وثمل هذا لو وجد من غير الأنبياء - عليهم السلام - عد ذلك من أفضل شمائله.
والثاني: أن في مفارقته من بين أظهرهم تخويفا لهم وتهويلاً؛ لأن القوم [من قبل] كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا وقتما يريد أن ينزل بهم العذاب؛ فكان في مفارقته إياهم تخويفهم وتهويلهم، فيدعوهم ذلك إلى الانقلاع عما هم عليه من الضلال، والفزع إلى الله - تعالى - ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى وردعه عن الضلال، فقد أبلغ في النصيحة، واستقام على الطريقة.
والثالث: أنه يفارقهم؛ ليستنصر بغيرهم [فينصرونه عليهم]، ويتقوى بهم؛ ليكون على دعائهم إلى الإسلام أمكن وأقدر، ومن كانت مفارقته من قومه على هذه النية، فلنعم المفارق هو، ثم عوتب مع هذا كله، وذكر الله - تعالى - في الكتاب قصته للوجه الذي ذكرنا؛ فكذلك الوجه في معانيه نبينا محمد [عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات].
ومنهم من ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى تعبس الوجه على ابن أم مكتوم، ولا تولى عنه عمدا لذلك، لكن لما قطع عليه حديثه، وكان فيه قطع رجاء إسلام أولئك القوم، شق ذلك عليه، واعتراه من ذلك هم شديد، أثر ذلك في وجهه، لا أن كان منه ذلك على القصد.
[ووجه آخر] أن يقال: إن الله - تعالى - جعل في قلبه صلى الله عليه وسلم من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته أن كادت نفسه تذهب على من أعرض عن دين الله - تعالى - والإيمان به حسرات عليه، وحتى قيل له:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]، وقال: { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل: 127]، وقال: { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8].
وتأويله: ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن؛ فيكون فيه تخفيف الأمر عليه، لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة؛ ولذلك قال:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } [التحريم: 1]، ومعناه - والله أعلم -: ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك الانتفاع به؛ طلبا لمرضاتهن، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن؛ بل قد ندب إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله: { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } الآية [الأحزاب: 51]، فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه إعراض أولئك القوم عن الإيمان، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه؛ فظهرت عبوسة وجهه؛ فنزل قوله - تعالى -: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة له.
ثم في هذه الآية فوائد أخر:
إحداها: جواز العمل بالاجتهاد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا النوع من العمل اجتهادا، لا نصا؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبس سائغا، لم يكن يعاتب بفعل قد أمر به.
فإن قيل: كيف لا تدل المعاتبة على النهي [عن إقدامه على] مثله؛ فيحرم عليه الاجتهاد؟
قيل له: لو كان هذا نهيا، لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك، وقد وجد منه - عليه السلام - العود؛ لقوله:
{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [التوبة: 43]، وبقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [التحريم: 1]، فثبت أنه ليس فيه نهي.
وفيه أن الكافر وإن كان مبجلا معظما في قومه، فليس على المؤمنين أن يعظموه ويبجلوه، بل يسترذل ويستخف به، وأن المسلم ينبغي أن يعظم ويكرم، وإن كان حقيرا في أعين الخلق.
وفيه آية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودلالة نبوته، وأنه لم يختلق هذا الكتاب من عند نفسه؛ لأن من يتعاطى فعلا حقه الستر، فهو يستره على نفسه، ولا يهتك عليها الستر؛ لئلا يذم عليه، فلو لم يكن مأموراً بتبليغ الرسالة لكان يجتهد في الستر على نفسه، ولا يبديه للخلائق، ولكنه كان رسولا لم يجد من تبليغه إلى الخلق بدّاً، فبلغه كما أ/ر.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ }، "لعل" من الله - تعالى - واجب.
وقوله: { يَزَّكَّىٰ }، أي: يتزكى بعمله ونيته وقوله.
وفي هذه الآية قضاء بإبطال قول من زعم أن جميع ما في القرآن: { وَمَا يُدْرِيكَ } فهو مما لم يدره؛ يروى ذلك عن سفيان بن عيينة - رضي الله عنه - وغيره؛ لأنه قد أدراه هاهنا بقوله: { لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } و"لعل" من الله تعالى واجب، وإذا جعلته واجبا فقد زكاه، وإذا زكاه فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عزو جل -: { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون يتذكر بتذكيرك إياه؛ فينتفع بتذكيرك.
والثاني: أن يتذكر فيما ذكرته من العواقب وما يحق عليه في حاله؛ فينتفع به؛ فتكون المنفعة في التأويل الأول بالتذكر بنفس تذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي التأويل الثاني بتذكيره فيما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ }، أي: بما اختار هو عما جئت به من الدين.
أو استغنى بالذي زين له الشيطان عما جئت به.
أو يكون على الغناء المعروف؛ لأن الذين أقبل عليهم بوجهه كانوا أهل ثروة وغناء، فأقبل عليهم؛ رجاء أن يسلموا فيتبعهم أتباعهم في الإسلام؛ إذ كانوا من رؤسائهم وأجلتهم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ }، أي: مقبل عليه بوجهك.
وقوله: { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } أي: ليس عليك غير التذكير إذا أعرض عنك وعاداك لم يمكن منه إلحاق ضرر بك؛ [بل] الله يعصمك، ويدفع عنك شره.
وقوله - عز وجل -: { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ }، أي: يعمل لله - تعالى - ويخشاه، فجائز أن تكون الخشية علة للسعي؛ فيكون معناه: أن خشيته هي التي حملته إلى السعي.
وقد يجوز أن يخرج اللاكم مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر [ودليلا للسعي؛ فيكون معناه: أن خشيته هي التي حملته إلى السعي.
وقد يجوز أن يخرج الكلام مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر] ودليلا له، قال الله - تعالى -:
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة: 28]، فكان الإحياء الأول دليل للإحياء الثاني في موضع العطف والترتيب على الكلام الأول.
أو [أن] يكون ابتداء، فقوله: { جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ } لله تعالى، ويخاف التبعة وحلول النقمة.
وقوله - تعالى -: { كَلاَّ } قال الحسن: معناه: أن الذي فعلته من التولى عن المؤمنين والإقبال على الكفرة، ليس من حكمي.
وذكر أبو بكر الأصم: لما نزل قوله: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } إلى قوله: { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف زوال الرسالة، وأن يمحى اسمه منها، فلما نزل قوله: { كَلاَّ } علم أنه لم يودعه ربه؛ حيث نهاه عن العود إلى مثله.
وقال المفسرون: { كَلاَّ }، أي: لا تعد إلى مثل هذا.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ }:
جائز أن يكون هذا منصرفا إلى السور كلها.
وجائز أن يكون منصرفا إلى هذه السورة؛ لأن فيها إثبات التوحيد وإثبات الرسالة من الوجه الذي ذكرنا، ودلالة البعث وآياته أن خلق البشر ليس على العبث، [فهي تذكرة لمن يذكر بها].
أو جائز أن يكون منصرفا إلى الآيات التي قبل هذا في هذه السورة، وهو أن فيما تقدم في هذه السورة من الآيات تثبيت رسالته بما تقدم ذكرنا له.
وجائز أن يقال: إن هذه تذكرة؛ أي: هذه المعاتبة تذكرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع المؤمنين؛ ليعرفوا من يستوجب التعظيم والتبجيل، ومن يستوجب إهاته والاستخفاف.
وقوله - عز وجل -: { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ }، جائز أن يكون معناه: من شا ءالله أن يذكره، أو ما شاء ذكره؛ أي: قد مكن كل من التذكير، وأنه ليس أحد بممنوع ولا مجبور على الفعل، وفمن ترك التذكر، فهو الذي ضيع ذلك؛ حيث آثر واختار ضده، واشتغل بغيره، وأعرض عن ذكره.
وجائز أن يكون على تحقيق الفعل؛ أي: من تذكر به فهو ذكر له؛ فكنى بالمشيئة عن الفعل؛ لما ذكرنا أنها تقترن بالفعل و لاتزايله؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل.
أو يكون على إرادة الفعل قبل وجوده.
وقوله - عز وجل -: { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } قيل: هي الصفح المتقدمة؛ كقوله:
{ إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 18-19].
وقوله: { فَي صُحُفٍ }، أي: في أيدي الملائكة.
وقوله: { مُّكَرَّمَةٍ }، أي: مكرمة بما يكرمها أهل الكرامة، وهم السفرة البررة.
أو مكرمة على الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { مَّرْفُوعَةٍ }، أي: مرفوعة القدر، مطهرة من التناقض والاختلاف.
أو مطهرة من أن ينالها أيدي العصاة.
أو مطهرة من الأقذار والأدناس.
وقوله - عز وجل -: { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } السفرة: الكتبة.
وقوله - عز وجل -: { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } أي: كرام على الله تعالى، بررة في أعمالهم؛ كما وصفهم الله - تعالى - بقوله:
{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].