التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
١٣
وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
١٤
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ
١٥
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ
١٦
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٧
ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٨
يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
١٩
-الانفطار

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }: قد ذكرنا أن البر هو الذي ما طلب منه، والذي طلب منه ما ذكر في قوله: { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ... } إلى قوله: { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177]، وفي هذه الآية دلالة على ما ذكرنا أن البر إذا ذكر دون التقوى، اقتضى المعنى الذي يراد بالتقوى؛ لأنه أخبر أن البر هو الإيمان بالله - تعالى - واليوم الآخر، ثم ذكر أن الذي جمع بين هذه الأشياء، فهو المتقي.
ثم احتجت المعتزلة لقولهم بالتخليد في النار لمن ارتكب الكبيرة بقوله تعالى: { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } إلى قوله: { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ }؛ لأن مرتكب الكبيرة فاجر، وقد وصف الله - تعالى -: أن الفجار لفي جحيم، ولا يغيب عنها، وزعموا أنه [ما] لم يأت بالشرائط التي ذكر في قوله:
{ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 177] فهو غير داخل في قوله: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }.
والأصل عندنا ما ذكرنا: أن كل وعيد مذكور مقابل الوعد فهو في أهل التكذيب؛ لما ذكر من التكذيب عند التفسير بقوله:
{ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [المطففين: 7] إلى قوله: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المطففين: 10]، وقال: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } إلى قوله: { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [المؤمنون: 104-105]، وإذا كان كذلك، لم يجب قطع القول بالتخليد في [النار] لمن ارتكب الكبيرة، بل وجب القول بالوقف فيهم.
ثم [إن] الله - تعالى -: جعل لأهل النار يوم البعث أعلاما ثلاثة، بها يعرفون، وتبين أنهم من أهل النار، لم يجعل شيئا من تلك الأعلام في أهل السعادة:
أحدها: اسوداد الوجوه بقوله:
{ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106].
والثاني: بما يدفع إليهم كتابهم بشمائلهم، ومن وراء ظهورهم، ويدفع إلى أهل الجنة كتبهم بأيمانهم.
والثالث: في أن تخف موازينهم، وتثقل موازين أهل الحق.
فهذا أعلام أهل الشقاء، وفيما ذكر اسوداد الوجوه قرن به التكذيب بقوله:
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [آل عمران: 106]، وفما ذكر دفع الكتاب بالشمال ومن وراء الظهور، قال فيه: { فَاسْلُكُوهُ } [الحاقة: 32-33]، وقال: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } إلى قوله - عز وجل -: { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَىٰ... } [الإنشقاق: 10-15] وقال - تعالى - عندما ذكر خفة الميزان: { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [المؤمنون: 105]، ولم يذكر عند ذكر شيء من هذه الأعلام غير المكذبين، فثبت أن الوعيد في المكذبين لا في غيرهم؛ لذلك لم يسع لنا أن نشرك أهل الكبائر مع أهل التكذيب في استيجاب العقاب، وقطع القول بالتخليد، بل وجب الوقف في حالهم والإرجاء في أمرهم.
والثاني: ذكر في مواضع الإيمان بالله - تعالى - أدنى مراتب أهل الإيمان، ووعد عليه الجنة، فقال:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } [الحديد: 19]، وقال في موضع آخر: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } [الحديد: 21]، وقال: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ... } الآية [النساء: 152]، فذكر في هذه الآيات التي تلوناها أدنى منازل أهل الإيمان، وذكر في موضع آخر أعلى مراتب أهل الإيمان، ووعد عليها الجنة بقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ... } الآية [العصر: 3]، وقال: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ... } الآية [البقرة: 177]؛ فجائز أن يكون ذكر الجميع على المبالغة لا على جعله شرطا؛ فيجب القول باستيجاب الوعد بأدنى مراتبه، على ما ذكر في الآيات الأخر.
وجائز أن يكون الجميع فيما ذكر فيه الإيمان بالله ورسله مضمرا، ويكون ذكَر طرفاً منه على الإيجاز؛ ألا ترى أنه ذكر الكفر في بعض المواضع، وأوعد عليه النار، وذكر في بعض المواضع الكفر مع أسباب أخر، وأوعد عليه النار بعد ذلك بقوله:
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ... } الآية [البقرة: 61]، وقال في موضع آخر: { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ... } الآية [المدثر: 43-44]، ثم لم يصر جميع ما ذكر من السيئات مع الكفر شرطا، بل وجب القول بالتخليد لمن اقتصر على الكفر خاصة؛ فثبث أن ليس في ذكر المبالغة دلالة جعل المبالغة شرطا، بل جائز أن يستوجب الوعيد بدونه؛ فلذلك لم يقطع القول في أصحاب الكبائر بالتخليد في النار، ولا بأ،هم مستوجبون للوعد؛ بل قيل فيهم بالإرجاء.
وقوله - عز وجل -: { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ }، قال بعضهم: تأويله منصرف إلى أهل النار وأهل الجنة؛ فأهل الجنة لا يغيبون عن الجنة، ولا أهل النار عن النار.
وقال بعضهم: أريد بها أهل النار خاصة: أنهم لا يغيبون عنها.
وأنكر بعض الناس الخلود لأهل النار في النار، ولأهل الجنة في الجنة، وقالوا: لو لم يكن لنعيم الجنة انقضاء، ولا لعذاب الآخرة انتهاء، لكان يرتفع عن الله - تعالى - الوصف بأنه أول وآخر؛ لأ،هما يبقيان أبدا؛ فلا يكون هو آخر، وقد قال:
{ هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ } [الحديد: 3]؛ فلا بد من أن يكون لهما انتهاء حتى يستقيم الوصف بأنه آخر.
ولأنهما لو لم يوصفا الانتهاء لكان علم الله - تعالى - غير محيط بنهايتهما، فتكون النهاية جاوزة لعلمه، والله - سبحانه وتعالى - محيط بالأشياء وعالم بمبادئها ومناهيها؛ فلا بد من القول بفنائهما حتى يكون علمه محطيا بهما.
ولأنهم إنما استوجبوا الجزاء بأعمالهم، وأهل النار استوجبوا العقاب بسيئاتهم، فإذا كانت لسيئاتهم نهاية، ولخيرات أولئك نهاية، فكذلك يجب أن يكون للجزاء نهاية أيضا.
والأصل عندنا: أن كل من اعتقد مذهبا فهو يعتقد التدين به أبدا ما بقي، ولا يتركه.
ثم العقاب جعل جزاء للكفر، والثواب جعل جزاء للاتقاء عن المهالك بقوله:
{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران: 131]، وقال: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133]، فإذا ثبت أن كل واحد منهما جزاء للمذهب، وكان الاعتقاد للأبد؛ فكذللك جزاؤه يقع للأبد والدوام، لا للزوال والانتقطاع.
والثاني: أن العلم بزوال النعيم مما ينغص النعمة على أربابها، ويمرر عليهم لذاتها، ويكدر عليه ما صفا منها، فإذا كان كذلك لم يتم لهم النعيم، وأهل النار إذا تذكروا الخلاص من العذاب تلذذوا بها، وهان عليهم العذاب؛ فوجب القول بالخلود؛ ليتم النعيم على أهله والعذاب على أهله.
والجواب عن قوله: إنه يرتفع عنه الوصف؛ لأنه أخبر: أن الله - تعالى - استوجب الوصف بأنه أول وآخر بذاته لا بغيره، وغيره يصير أولاً وآخراً بغيره، ثم ما من شيء إلا وله أول وآخر، ثم لا يوجب ذلك إسقاط الأولية والآخرية عنه.
وقوله بأن الله - عز وجل - لا يوصف بالإحاطة بالأشياء لو وجب القول بالخلود فنقول بأن العلم بما لا نهاية له هو أن يعلمه غير متناهٍ، والعلم بالتناهي بما لا نهاية له يوجب الجهل لا العلم.
والجواب عن الفصل الثالث: ما ذكرنا أنه يعتقد المذهب للأبد، فكذلك الجزاء بتأبد، ولا ينقطع.
وقوله - عزو جل -: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ }، قال بعضهم: إنك لم تكن تدري، فدراك الله تعالى.
وقال بعضهم: هذا على التعظيم لذلك اليوم، والتهويل عنه.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً }، وذلك اليوم يوم تُجرى فيه الشفاعات، فيشفع الأنبياء لكثير من الخلق فَيُشْفَع لهم، وإذا كان كذلك فقد ملكت نفس لنفس شيئا، ولكن تأويله يخرج على أوجه ثلاثة:
أحدها: أن الكفرة كانوا يتوادون فيما بينهم؛ فيتناصر بعضهم بعضا في النوائب، فقال: { لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً }؛ قال الله - تعالى -:
{ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [العنكبوت: 25].
أو لا تملك نفس لنفس شيئا إلا بعد أن يؤذن لها؛ كما قال - عز وجل -:
{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ: 38]، وقد يُجرى التشفع في الدنيا لا بالاستئذان من أحد.
أو يكون معناه: أن كل نفس سيتبين لها في ذلك اليوم أنها لم تكن تملك شيئا إلا بالتمليك.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }، أي: لا ينازع فيه، وهو في كل وقت الله - تعالى - لكن الظلمة ينازعونه في هذه الدنيا.
أو { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }، أي: يتبين لكل أحد في ذلك اليوم بأن الأمر لله - عز وجل - في ذكل اليوم وقبل ذلك اليوم، والله المستعان، [ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم].