التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ
٦
ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
٧
فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
٨
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ
٩
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
١٠
كِرَاماً كَاتِبِينَ
١١
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
١٢
-الانفطار

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } يحتمل: عن ربك؛ فيكون تأويله: أي شيء غرك عن ربك الكريم؛ حتى اغتررت به؟! واغتراره عن ربه الإعراض عن طاعته وعبادته، وقد تستعمل الباء في موضع "عن"؛ قال الله - تعالى -: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [الإنسان: 6]، ومعناها: يشرب عنها، لا أن يشربوا فيها كرعا، أو تجعل العين آنية لهم.
ثم وجه الجواب للمغتر بالله - تعالى - في قوله - عز وجل -: { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } هو أن كرمه دعا الإنسان إلى ركوب المعاصي؛ لأنه لم يأخذه بالعقوبة وقت جريرته فتجاوزه عنه أو تأخيره العقوبة، حَمَله على الاغترار؛ إذ ظن أنه يعفى عنه أبدا كذلك؛ فأقدم عليها، وإلا لو حلت به العقوبة وقت ارتكابه المعصية، لكان لا يتعاطى المعاصي، ولا يرتكبها، فعذره أن يقول: الذي حملني على الإغفال والاغترار كرمك أو حمقي، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين تلا هذه الآية: "الحمق يا رب".
أو يكون قوله: { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أي: أي شيء غرك حتى ادعيت على الله تعالى أنه أمرك باتباع آبائك؟! أو تشهد عليه إذا ارتكبت الفحشاء أن الله تعالى أمرك به؛ على ما قال:
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا } [الأعراف: 28]، ألم أبعث إليك السول؟! ألم أنزل إليك الكتاب فتبين لك ما أمرت به عما نهيت عنه؟!.
وقيل: نزلت الآية في شأن كلدة؛ حيث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعاقبه الله - تعالى - فأسم حمزة حمية لقومه؛ فَهَمَّ كلدة أن يضربه ثانية، فنزلت الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } حيث لم يهلكك عند تناولك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن لو كانت الآية فيه فكل الناس في معنى الخطاب على السواء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } ففي ذكر هذا تعريف المنة؛ ليستأذي منه الشكر.
وفيه ذكر قوته وسلطانه حيث قدر على تسويته في تلك الظلمات الثلاثة التي لا ينتهي إليها تدبير البشر، ولا يجري عليها سلطانهم؛ ليهابوه ويحذروا مخالفته.
وفيه ذكر قوته وسلطانه حيث قدر على تسويته ي تلك الظلمات الثلاث التي لا ينتهي إليها تدبير البشر، ولا يجري عليها سلطانهم؛ ليهابوه ويحذروا مخالفته.
وفيه ذكر حكمته وعلمه؛ ليعلموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى؛ لأن الذي بلغت حكمته ما ذكر من إنشائه في تلك الظلمات الثلاث من وجوه لا يعرفها الخلق، لا يجوز أن يخرج خلقه عبثا باطلا؛ بل خلقهم ليأمرهم وينهاهم، ويرسل إليهم الرسل، وينزل عليهم الكتب؛ فيلزمهم اتباعها، ويعاقبهم إذا أعرضوا عنها، وتركوا اتباعها، وسنذكر وجه التسوية في قوله:
{ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } [الأعالى: 2]: أنه سواه على ما توجبه الحكمة.
أو سواه بما به مصالحه.
أو سواه من وجه الدلالة على معرفة الصانع.
أو سواه فيما خلق له من اليدين، والرجلين، والسمع، والبصر.
وقوله: { فَعَدَلَكَ } أي: سواك.
ووجه التسوية: أن [جعل له يدين] مستويتين، ولم يجعل إحداما أطول من الأخرى، وكذلك سوى بين رجليه.
وقرئ بالتخفيف والتشديد.
قال أبو عبيد: معنى قوله: { فَعَدَلَكَ } بالتخفيف، أي: أمالك، وليس في ذكره كثير حكمة، واختار التشديد فيه.
وليس كما ذكر، بل في ذكرها هذا من الأعجوبة ما ذكر في الآخر؛ فقول: (عدلك)، أي: صرفك من حال إلىحال، ووجه صرفه - والله أعلم -: أنه كان في الأصل ماء مهينا في صلب الأب، فصرف ذلك عن الماء إلى رحم الأم، ثم أنشأه نطفة، ثم صرفها إلى العلقة، وإلى المضغة إلى أن أنشأه خلقا سويا.
أو صرفه على ما عليه من الحال من الصحة إلى السقم، من القسم إلى البرء؛ فيكون في ذكر هذا تعريف المنة والقدرة والحكمة، كما في الأول، ففيه أعظم الفوائد.
وقوله - عز وجل -: { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }:
منهم من جعل { مَّا } هاهنا صلة زائدة، ومعناه: ي أي صورة شاء ركبك.
ومنهم من ج عل { مَّا } هاهنا بمعنى الذي.
ثم قوله: { شَآءَ رَكَّبَكَ } يحتمل أن يكون هذا عبارة عما تقدم من الأوقات، هو أنه قد شاء تركيبك على الصورة التي أنت عليها، لا على صورة البهائم وغيرها؛ فيكون [في] ذكره تذكير المنن والنعم؛ ليستأدي منه الشكر.
ووجه التذكير أنه أنشأه على صورة يرضاها، ولا يتمنى أن يكون بغير هذه الصورة من الجواهر، وأنشأه على صورة يعرف المحاسن والمساوئ، ويعرف الحكمة والسفة، ويميز بينهما، ويميز بين المضار والمنافع، وأنشأه على صورة سخر له السماوات والأرضين والأنعام، كما قال الله تعالى:
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ... } الآية [الجاثية: 13]، وقال - عز وجل -: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ... } الآية [الإسراء: 70]، ولم يسخره لغيره؛ فثبت أن فيه تذكير النعم؛ ليشكروه، ويقوموا بحمده.
وجائز أن يكون هذا على الاستئناف في أن يركبه على ما هو عليه، [على] أي صورة شاء من الصور التي يستقذرها؛ ويمسخه قردا أو خنزيرا؛ لمكان ما يتعاطى من المعاصي؛ فيكون في ذكره تذكير القدرة والقوة؛ ليراقب الله - تعالى - ويهابه؛ فيترك معاصيه، ويتسارع إلى طاعته.
وقوله - عز وجل -: { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ } فإن حملت قوله: { كَلاَّ } على التنبيه والردع فممكن أن يعطف على ما قبله وعلى ما بعده، وكذلك إذا حملته على القسم بمعنى: حقا؛ فإنه يستقيم عطفه على الأمرين جميعا.
وقوله - عز وجل -: { بِٱلدِّينِ } يحتمل أن يكون أريد به دين الإسلام.
والأصل: أن الدين إذا أطلق أريد به الدين الحق، وهو الإسلام، وكذلك الكتاب المطلق كتاب الله تعالى.
ويجوز أن يكون أريد به: البعث والجزاء، وسمي: يوم الدين؛ لما ذكرنا أن الناس يدانون بأعمالهم.
والحكمة فيه - والله أعلم - أنهم قد أقروا بأن الله - تعالى - أحكم الحاكمين، وتكذيبهم بيوم الدين يوجب أن يكون أسفه السفهاء، لا أن يكون أحكم الحاكمين؛ لأن الدنيا عواقبها الفناء والهلاك، فهم إذا كذبوا بالبعث فقد زعموا: أنهم ما أنشئوا إلا للهلاك والفناء، ومن بنى بناء، ولم يقصد ببنائه سوى أن ينقصه ويهدمه، فهوسفيه، عابث في الفعل؛ فلم يحصلوا من تكذيبهم إلا على نفي الحكمة من الصانع، وتثبيت السفه لله تعالى، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهو قوله:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ص: 27]، وهم لم يكونوا يدعونهم أنهم خلقتا باطلا، ولا كانوا يظنون ذلك، ولكن الإنكار الذي وجد منهم بالبعث والجزاء يقتضي خلقهما باطلا؛ فعلى ذلك إنكارهم بالبعث يزيل عنه القول بأنه أحكم الحاكمين، ويثبت ما ذكرنا من السفه، سبحانه وتعالى عما يصفون.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }، وهم لم يكونوا يقبلون الأخبار، ولا كانوا يؤمنون بها، ثم أخرهم أن عليهم حفاظا؛ لأن الذي حملهم على الجهل تركهم الإنصاف من أنفسهم، وإلا لو أنصفوا من أنفسهم، لكان إعطاؤهم النصفة يوصلهم إلى تاردك الحق ومعرفة ما عليهم من الواجب.
ثم قد ذكرنا أن المرء إذا كان عليه حافظٌ، أداه ذلك [إلى] المراقبة؛ فيرتدع عن تعاطي ما يؤخذ عليه: فنبهنا أن علينا حفاظا؛ ليحتشم عنهم، ولا يأتي من الأمور ما يسؤهم، ووصف أنهم كرام؛ ليصحبهم صحبة الكرام، [ومن صحبه الكرام أن يحترمهم]، ويتقي مخالفتهم، ولا يتعاطى ما يسوءهم، وذلك قوله: { كِرَاماً كَاتِبِينَ }.
وفي ذكر الكرام فائدة أخرى، وذلك أن قوله: { كِرَاماً كَاتِبِينَ }، أي: كرام على الله تعالى، والكريم على الله - تعالى - هو المتقي؛ قال الله - تعالى -:
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]؛ فيكون فيه أمان له: أنهم لا يزيدون، ولا ينقصون في الكتابة، وإنما يكتبون [على] قدر أعمالهم، كما ذكرنا من الفائدة في وصف جبريل - عليه السلام - بالقوة والأمانة.
وقوله - عز وجل -: { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم يعلمون ما نفعله قبل أن نفعل بما عرفهم الله - تعالى - فيكون في تعريفه إياهم إلزام الحجة عليهم، ويكون الذي يكتبون امتحانا امتحنوا به؛ إذ قد فوض إلى بعضهم أمر كتابة الأعمال، وإلى البعض إرسال الأمطار، ونحو ذلك.
أو { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وقت فعلكم جهل الفعل من خير أو شر؛ فيكون لفعل الخير آثار بها يعرفون أن الفاعل قصد به جهة الخير، ويكون لفعل الشر آثار بها يعرفون ذلك أيضا.
ثم عُذْر المسلمين في ترك المراقبة أقل من عذر المكذبين بالدين؛ لأن المسلمين علموا أن عليهم حفاظا يحفظون عليهم أعمالهم، ويكتبونها عليه، ثم هم مع ذلك يغفلون، ولا يصحبونهم صحبة الكرام، ويتركون التقيظ والتبصر، والكفرة ينكرون أن يكون عليهم حفاظ، ومن كان هذا حاله فالإغفال من مثله غير مستبعد.