التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ
١٨
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ
١٩
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ
٢٠
يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ
٢١
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
٢٢
عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ
٢٣
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ
٢٤
يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ
٢٥
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ
٢٦
وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ
٢٧
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ
٢٨
-المطففين

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ }: ذكر الأبرار هاهنا مقابل الفجار في الأول، ثم بين الفجار أنهم المكذبون بيوم الدين، وذلك أول منازل الكفر، فإن أريد بالفجار: الكفار، أريد بالأبرار: الذين آمنوا؛ فلذلك قيل بأن الأبرار هم المؤمنون.
والبر هو الذي يكثر منه تعاطي فعل البر، فسمي: بارا؛ إذا كثر منه [البر]، والفاجر: هو الذي ثكر منه فعل الفجور؛ فجائز أن يكون الوعيد في الذين بلغوا في الفجور غايته، ويكون حكم من دونهم متروكا ذكره؛ فيوصل إلى معرفة حكمه بالاستدلال، ويكون الوعد في الذين أكثروا أفعال البر، ويكون حكم من دونهم معروفا بغيره من الأدلة.
وقوله - عز وجل -: { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ }: ذكر شهود المقربين في ذكر الكتاب الأبرار، ولم يذكر شهودهم عند ذكر كتاب الفجار، فجائز أن يكون شهودهم على التعظيم لعمله، والدعاء له، وغير ذلك.
وقيل: المقربون: هم مقربو أهل كل سماء.
وقوله - تعالى -: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }: البَرُّ هو الذي يبذل ما سئل عنه، ويجيب إلى ما جعي إليه، فإذا أجاب الله - تعالى - فيما دعاه إليه من التوحيد، ووفى بأوامره، وانتهى عن مناهيه، فهو من الأبرار.
ثم ما ذكرنا يكون بوجهين:
أحدهما: بالاعتقاد، وبتحقيقه بالفعل والمعاملة، فهذا قد وفى بما طلب منه قولا وفعلا؛ فيكون هذا ممن يقطع في القول باستيجاب الوعد المذكور للأبرار.
والثاني: أن يقوم بوفاء ما طلب منه اعتقادا، ولم يف ما اعتقده بفعله، فالحكم في مثله الوقف، ولا يقطع فيه القول باستيجاب الموعود، بل لله - تعالى - أن يجازيه بما ضيع من حفظ حدوده بقدر ما وجد من التضييع ثم يلحقه بأهل كرامته، وله أن يعفوا عنه بفضله وسعة رحمته.
والفجور: هو الميل، والميل يكون بوجهين:
أحدهما: بترك الاعتقاد والفعل جميعا.
و[الثاني:] ميل في المعاملة، وهو أن يخالف فعله عقده.
فالذي وجد منه الميل على الوجهين جميعا، يحل به ما أوعد لا محالة، وأما الذي خالف فعله عقده فإنه يوقف فيه، ولا يشهد أنه من جملة من يلحقهم الوعيد لا محالة.
قد ذكرنا أن البر إذا ذكر على الانفراد أريد به ما يراد بالتقوى جهة، وبالبر جهة، وذلك أن التقوى إذا أفرد اقتضى معنى البر، وإذا قرنا جميعا أريد بالتقوى جهة، وبالبر جهة، وذلك أن التقوى: هي أن يتقي المهالك، وذلك يكون بالإجابة إلى ما دعي إليه قولا وفعلا، والانتهاء عما نهي عنه قولا وفعلا، وهذا هو معنى البر أيضا، فإذا ذُكرا معاً أريد بالتقوى الاجتناب عن المحارم، وأريد بالبر إتيان المحاسن، وكذلك الإيمان، وإذا [ذكر] بالانفراد أريد به ما يقتضي الإسلام من المعنى والإيمان جميعا، وكذك الإسلام يقتضي معنى الإيمان إذا ذكر بالانفراد؛ لأن الإسلام هو أن يرى الأشياء كلها سالمة لله تعالى، لا يجعل لأحد فيها شركا، والإيمان أن يصدق الله - تعالى - بأنه رب كل شيء، وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت [ما يقتضيه ظاهره من جعل] الأشياء كلها سالمة له؛ فهذا معنى قوله: إنه يراد بالإيمان إذا ذكر بالانفراد ما يراد بالإسلام، فإذا ذكرا معا أريد بالإسلام ما يقتضيه ظاهره من جعل الأشياء كلها سالمة [له]، وأريد بالإيمان ما يقتضيه ظاهره؛ كقوله:
{ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ... } الآية [الأحزاب: 35].
وكذلك الحكم في الخوف والرجاء إذا ذكر كل واحد من الحرفين مفردا، اقتضى كل واحد منهما معنى الآخر، وإذا ذكرا معا، إريد بكل واحد منهما ما يقتضيه ظاهره، ولم يصرف إ لى ما يراد بالآخر.
وقوله - عز وجل -: { لَفِي نَعِيمٍ }: جائز أن يكون هذا في الآخرة، يصفهم أنهم أبدا في نعيم.
وجائز أن يكونوا في نعيم في الدنيا والآخرة معا؛ فيكونون في الدنيا في نعيم العقول دون نعيم الأبدان، وذلك أنهم يطعيون العقل فيما يدعوهم إليه؛ فيتنعمون بعقولهم، ولكن الذي تدعوهم إليه عقولهم ما تأبى أنفسهم الإجابة له، ويشتد عليها ذلك، فهم في نعيم العقول لا في نعيم الأبدان، ونعيم الآخرة نعيم البدن والعقل جميعا، فتتنعم أنفسهم وعقولهم، ولا يحلمون ما تأبى أنفسهم احتماله، قال الله - تعالى -:
{ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } [النحل: 41]، وقال - تعالى -: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً... } الآية [النحل: 97]؛ فثبت أنهم في الدنيا وفي الآخرة لقي نعيم.
وقوله - تعالى -: { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } قد ذكرنا أن كل ماتتوق إليها الأنفس وتشتهى في الدنيا فعلى مثله جرت البشارة لأهل الجنة في الدنيا.
وذكر أن أهل اليمن كان إذا شرف قدر أحدهم وعلت رتبته في الدنيا، اتخذ لنفسه أريكة نسبت إليه؛ فيقال: هذه أريكة فلان، فجرت البشارة لأهلها بالأرائك؛ لما يرغب إلى مثلها في الدنيا، لا أن أرائكها شبيهة بالأرائك التي [تتخذ] في الدنيا؛ لأن أرائد الجنة مطهرة من الآفات التي هي آثار الفناء، لكنها ذكرت بهذا الاسم؛ لما لا وجه للوصول إلى تعريفها بغير اسمها المعتاد يما بين الخلق.
والأريكة: هي السرير في الحجال.
وقوله - عز وجل -: { يَنظُرُونَ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقع النظر في الحجل، وذلك عند تلاقي الإخوان واجتماعهم على الشراب.
والنظر الثاني يكون إلى مملكته؛ فيكون ذلك خارجا من الحجال؛ على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه قال]:
"إن الرجل من أهل الجنة ليرى جميع ما له بنظرة واحدة، وأقل ما يعطى الرجل مثل سعة الدنيا وعرضها" فذلك النظر يجاوز عما في الحجال؛ فيقع خارجا منها.
وقوله - عز وجل -: { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ }، أي: تعرف لو نظرت في وجوههم نضرة النعيم، فجائز أن تكون النضرة منصرفة إلى نفس الخلقة، وهو أنهم أنشئوا على خلقة لا تتغير، ولا تفنى، بل بهجة نضرة.
أو تكون نضارتهم بما أنعموما من النعيم.
ثم خصت الوجوه؛ لأن النظر من بعض إلى بعض يكون إلى الوجوه، لا إلى غيرها من الأعضاء؛ فخصت الوجوه بالذكر لهذا، لا أن تكون النضرة لها خصاة؛ بل النضرة تشتمل بائر البدن.
والثاني: أن السرور إذا اشتد في القلب أثر في الوجوه، وكذلك الحزن يؤثر في الوجه إذا اعترى في القلب؛ فيكون في ذكره نضرة الوجه إخبار عن غاية ما هم عليه من السرور.
وقوله: { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } قال بعضهم: الرحيق: هو الخمر الذي لا عشق فيه، وهو أن يكون مطهرا من الآفات.
وقال بعضهم: هو شيء أعده الله - تعالى - لأوليائه، لم يطلعهم على ما يتهيأ في الدنيا على ما قال:
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17]، فهوشراب تقر به أعينهم مما أخفي لهم إلى الوقت الذي يشربونه.
وقوله - عز وجل -: { مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ } جائز أن يكون راجعا إلى حال الإناء الذي فيه الرحيق، وهو أنه مختوم لم تتناوله الأيدي، وكذلك ترى المرء في الدنيا يختم نفيس شرابه الذي في الإناء بالفدام في الدنيا، فيخبر أن ذلك الشراب في الإناء على الوجه الذي كانوا يؤثرونه في الدنيا، وأخبر أن ختامه بأنفس شيء عرفوه في الدنيا، وهو المسك، ليس كالختام في الدنيا؛ لأنهم يختمون أوانيهم في الدنيا بالشيء الرذل، وبما لا قدر له عندهم.
وجائز أن يكون منصرفا إلى الشاربين: أنهم لا يشربون أبداً، بل يكون له ختم ولكن لا تنقطع لذة الشراب عنهم؛ بل أبدا يجدون من ذلك ريح المسك.
وقوله - عز وجل -: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } جائز أن يكون أراد به الشراب الذي وصفه في قوله: { رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ... } الآية.
والتنافس حرف يستعمل في الخيرات؛ كأنه يقول: فليرغبوا في الشراب الذي هذا وصفه، الذي [لا] غول فيه ولا هم ينزفون، لا في الشراب الذي يذهب بالعقول، ويضعف الأبدان، ويتلف الأموال.
أو فليتنافسوا في النعيم الذي وصف هاهنا، لا في النعيم الذي ينقطع ولا يدوم؛ فكأنه يقول: فليرغبوا فيما يعقب لهم النعيم الدائم والشراب الذي لا تنقطع لذته.
وقيل: { خِتَامُهُ مِسْكٌ }: ما بقي في الكأس من البقية يكون ذلك مسكا.
والتنافس إنما يكون في المسارعة في الخيرات، وترك الاتباع للشهوات، والانتهاء عن المعاصي، وهو كقوله:
{ لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ } [الصافات: 61]، اي: فليكن عملهم بما يثمر لهم ما ذكر من النعيم، لا في الذي ينقطع، وتكون عقباه النار.
وقوله - عز وجل -: { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ }، قيل: التسنيم: شيء أعده الله - تعالى - لأوليائه، لم يطلعهم عليه في الدنيا، وهو من قرة الأعين التي لا تعلمها الأنفس، فوصف مرة المزاج بالمسك، ومرة بالكافور بقوله:
{ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } [الإنسان: 5]، ومرة أخبر أنه ممزوج بالتسنيم، ولم يبين ما التسنيم، والسنام: اسم ما ارتفع من الشيء؛ فيجوز أن يكون سمي: تسنيما؛ لأنه ينحدر إليهم من الأعلى، وأخبر أنه ممزوج بما إلى مثله ترغب الأنفس في الدنيا وتشتاق إليه؛ ألا ترى أن الشراب في الدنيا إذا كان ممزوجا فهو في القلوب أوقع، وتكون الأنفس إليه أرغب منه إذا كان غير ممزوج، فرغبوا بمثله في الآخرة.
وذكر بعض أهل التفسير أن المقربين يسقون من ذلك الشراب صرفا، ويمزج لغيرهم.
وقال الحسن: المزاج يكون للمقربين وغيرهم، وجعل الممزوج منه أشرف، على ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ }.
المقربون هم الذين يسارعون في الخيرات في الدنيا، فتركوا منى الأنفس، واتقوا المهالك والزلات، فهم المقربون، وأضاف التقريب إلى الغير؛ لأنهم بغيرهم ما وقفوا لاكتساب الخيرات، وعصموا عن ارتكاب المهالك والزلات، لا بأنفسهم؛ فنالوا فضل التقرب بما أجهدوا أنفسهم في الدنيا؛ للأمور التي ذكرنا.