التفاسير

< >
عرض

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ
١
ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
٢
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
٣
أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
٤
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
٥
يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٦
كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ
٧
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
٨
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ
٩
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٠
ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
١١
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ
١٦
ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
١٧
-المطففين

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }: وجه تعييرهم بالتطفيف وإلحاق الوعيد بهم؛ لمكانه وإن كانوا مستوجبين للوعيد، وإن أفوا المكيال، ولم يطففوا فيه؛ إذ كانوا جاحدين بالله تعالى ومكذبين بالبعث -: وهوأن الكفرة لم يكونوا اعتقدوا الكفر بالله - تعالى - لتلذذ يقع لهم بنفس الكفر، ولا التزموه على التحسين لهم إياه، وإنما أعرضوا عن الإيمان لحبهم الرياسة، ولمأكلة كانت لهم خافوا زوالها عنهم بالإسلام.
أو زهدوا عنه؛ لما يلزمهم بالإيمان مؤن، واختاروا الكفر؛ لئلا يلزمهم [بالإيمان] تحملها؛ فكان يحملهم على الصد عن الإيمان وترك النظر في آيات الله - تعالى - وحججه ما ذكرنا؛ فعيروا بالأفعال الدنية التي كانوا يتعاطونها فيما بينهم من التطفيف والهمز واللمز وتركهم إيتاء الزكاة بقوله - عز وجل -:
{ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [فصلت: 7]؛ لينقلعوا عنها؛ فيحملهم على الإيمان؛ لأنهم كانوا يتزهدون عنه لحبهم الدنيا، فإذا قوتلوا ضاقت عليهم الدنيا؛ فبعثهم ذلك على الإيمان بالله - تعالى - وعلى النظر في آياته.
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية على أهل مكمة تركوا التطفيف؛ فلم يطففوا بعد ذلك.
قال أهل اللغة: التطفيف: النقصان، يقال: إناء طفان؛ إذا كان غير مملوء.
وقال الزجاج: يقال: شيء طفيف، أي: يسير، فسمي: مطففا؛ لما يسرق منه شيئا فشيئا في كل مكيال.
وفي هذه [الآية] دلالة أن حرمة الربا عامة على أهل الإديان.
وفيه دلالة أن حرمة الربا ليست لمكان العاقدين، وإنما هي حق على العاقدين لله - تعالى - وذلك أن الذي يكال له، كان يأخذ ما يكال له على علم منه بتطفيف البائع، ثم كان يرضى به، ويتجاوز عن ذلك، ومع ذلك لحقهم التعيير بالتطفيف؛ فدل أن حرمته ليست لمكان العاقدين، ولكنها من حق الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } منهم من ذكر أن هذا على التقديم والتأخير، ومعناه: ويل للمطففين على الناس إذا [اكتالوا أو وزنوا]، وإذا اكتالوا استوفوا.
ومنهم من قال بأن { عَلَى } هاهنا بمعنى "عن"؛ فكأنه يقول: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا عن الناس يستوفون.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } منهم من حمل قوله: هم بعد ذكر الكيل والوزن على التأكيد والمبالغ ة، فإن كان هذا على هذا، فحقه الوقف على قوله: (كالوا)، وعلى قوله: (وزنوا).
ومنهم من قال: معناه: وإذا كالوا لهم، أو وزنوا له؛ لأن الألف بينهما ليست بمثبتة في المصاحف، وهو مستعمل: كتله، وكلت له،؛ كقوله: وعدته، ووعدت له، فإن كان هذا معناه، لم يستقم الوقف على قوله: (كالوا) و (وزنوا)؛ لأن قوله: (لهم)، تفسير لقوله: (كالوا) أو (وزنوا)، لا يجوز قطع التفسير عما له التفسير.
وقوله - عز وجل -: { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ... } [الآية]:
قال أكثر أهل التفسير: { أَلا يَظُنُّ }: ألا يعلم، وألا يتيقن.
وقال أبو بكر الأصم: { أَلا يَظُنُّ }، معناه: ألا يشك أولئك في البعث، وهو محتمل لما ذكرنا؛ لأن الشك يوجب الرهبة، وارتفاعه يوجب الأمن؛ ألا ترى أن المرء إذا أراد أن يسافر إلى مكان، فأخبره إنسان أن في الطريق الذي يريد أن يسلك سراقا وقطاع الطريق، فإنه يترهب لذلك؛ فيستعد له بما يدفع عنه نفسه ضرر قطاع الطريق وضرر السراق، وإن لم يتيقن أن المخبر صادق في مقالته، ولا يتيقن أن السراق يتمكنون من الإضرار به، فكيف لا يشك هؤلاء بكون البعث بما يخبرهم النبي - عليه السلام - ويقيم عليه الحجج، وهذا أقل منازل الأخبار أن تورث شكا.
ثم الأصل أن حرف الشك يستعمل عند استواء طرفي الداعيين، والظن يستعمل عند اختلاف طرفي الداعيين، وهو أن تغلب إحدى الدلالتين على الأخرى؛ لذلك يستقيم الحكم والقول بأكثر الظن، ولا يستقيم بأكثر الشك.
ثم الظن يتولد من البحث عن الأمر والنظر فيه، وإذا تدبر فيه، فهو لا يزال يرتقي في الظن درجة فدرجة؛ حتى ينتهي نهايته بلوغ اليقين ودرك الصواب؛ فلذلك حمل أهل التفسير تأويل الظن هاهنا على اليقين والعلم؛ إذ ذلك نهاية الظن.
وحمله أبو بكر على الشك؛ لما لا ترتفع الشبهة كلها فيما كان طريق معرفته الاجتهاد.
ومثال الظن ممنا الخوف الذي ذكرنا أنه قد يستعمل في موضع العلم؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته صار علما؛ كالذي يهدد بالقتل، أو بقطع عضو؛ ليشرب الخمر [أنه يباح] له الشرب، ويجعل المتيقن أنه يفعل به لا محالة لو امتنع عن الشرب؛ لبلوغ الخوف نهايته وإن لم يكن في الحقيقة متيقنا؛ لما يجوز أن يحصل به ما يمنعه عن القتل؛ فعلى ذلك الحكم في الظن.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } للحساب الذي يحصل عليهم؛ فلا يجدون منه مخرجا؛ فيتخلصون من العذاب، ليس على ما يحصل عليه الحساب في الدنيا يجد لنفسه الخلاص ووجه المخرج عنه.
وقوله - عز وجل -: { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ }، سماه: عظيما؛ لما ذكرنا من دوام عذابه ودوام عقابه.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، أي: لحكمه.
أو لحسابه.
أو لوعده ووعيده.
أو يقومون له مستسلمين خاضعين بجملتهم، وإن كان البعض منهم وجد منه الامتناع عن الاستسلام في الدنيا، فإن الظلمة ينازعونه ويدعون لأنفسهم اشياء، وينكرونها له، فأما يوم القيامة فإنهم جميعا يقرون له وينقادون لحكمه وقضائه؛ لذلك خصه بقيام الناس له.
وقوله - عز وجل -: { كَلاَّ } قال الحسن وأبو بكر: حقا؛ أي: بعثهم حق، فيبعثون.
وقال الزجاج: { كَلاَّ }: كرف ردع وتنبيه، أي: ليس الأمر على ما ظنوا: أنهم لا يبعثون؛ بل يبعثون ويجازون بأعمالهم؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من طريق الاستدلال.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } اختلف في السجين:
فمنهم من جعله اسم موضع، وأشار إليه فقال: هو صخرة تحت الأرض السابعة يوضع كتاب الفجار تحته إلى يوم القيامة.
ولكن ليس بنا إلى معرفة ذلك الموضع حاجة؛ لأن الذين امتحنوا بجعله في ذلك الموضع قد عرفوه، وهم الملائكة.
ومنهم من زعم أنه حرف مذكور في كتب الأولين، فذكر ذلك في القرآن، فجائز أن يكون المقصود يتحقق بدون الإشارة إليه.
وجائز أن يكون السجين الموضع الذي أعد للكافر في الآخرة للعذاب، لكن أول ما يرد إليه عمله الذي أثبت في كتابه، ثم تلحق به الروح، ثم يتبعهما جسده في الآخرة على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن" ، فيرد كتابه إلى ذلك السجن، ويرد كتاب الأبرار إلى الجنة التي أعدت له، ثم تتبعه روحه، ثم جسده؛ فذلك قوله: { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [المطففين: 18].
ومنهم من قال: [هو] على التمثيل ليس على تحقيق المكان في العليين؛ وذلك لأن السجن هو مكان أهل الخبث في الدنيا، فمثلت أعمالهم بذلك؛ لخبثها وقبحها، ومثلت أعمال الأبرار بما ذكر من العليين، وذلك مكان أهل الشرف وأولوي القدر؛ فيكون ذلك كناية عن طيبب أعمالهم.
وقال الكسائي: السجن: مشتق من السجه؛ كقولك: رجل فسيق، وشريب، وسكيت.
ثم ذكر كتاب الفجار، والفحور يكون بالكفر وبغيره، فهذا اسم يقع به الاشتراك بين أهل الكفر وأهل الإسلام، لكنه ألحق عند التفسير بما يوجب صرف الوعيد إلى الكفار بقوله: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }، وكذلك نجد هذا الشرط ملحقا بالتفسير في جميع ما جرى به الوعيد بالاسم الذي يقع به الاشتراك؛ من نحو الفسق، وترك الصلاة، بقوله - تعالى -:
{ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } [المدثر: 43]، وفيما جرى من الوعيد في الذي لا يؤتي الزكاة؛ فكان في ذكر الاسم الذي يقع به الاشتراك إيجاب الخوف على المسلمين الذين شركوا في ذلك الاسم، فترك قطع الشهادة عليهم بالوعيد؛ لما لم يذكروا عند التفسير.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } فهو تعظيم ذلك اليوم، ووصفه بنهاية الشدة، أو على الامتنان على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يعلم ذلك حين أطلعه الله عليه، وهكذا تأويل قوله:
{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } [المطفيين: 19].
وقوله: { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ }، أي: الكتاب الذي في السجين مرقوم، والمرقوم، قالوا: مكتوب ومثبت.
والرقم عندنا: هو الإعلام، يقال: رقم الثوب؛ إذا أعلمه؛ فجائز أن يكون علمه هو أن يختم؛ فيكون فيه إخبار أنه لا يزاد على قدر ما عمل، ولا ينقص منها، وهو كما ذكرنا من الفائدة، فيما وصف جبريل - عليه السلام - بالقوة والأمنة بقوله:
{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير: 20-21]، فوصف بالأمانة؛ ليؤمن الخلق عن خيانته في الكتاب وتغييره، ووصفه بالقوة؛ ليعلم أن غيره لا يتهيأ له أن ينتزع منه ما أرسل على يده، فيغيره، فكذلك وصفه بالختم والأعلام؛ ليؤمن من الزيادة فيه والنقصان.
وقوله - عز وجل -: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }، أي: للمكذبين بجميع ما يحق عليهم تصديقه، وذلك يكون بالإيمان بالله تعالى، وبآياته، ورسله، وبالبعث.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ }: الدين اسم لشيئين: اسم للجزاء، واسم للاستسلام والخضوع؛ فمسي: يوم الدين؛ لما يدانون بأعمالهم، أو لما يستسلمون لله - تعالى - في ذلك اليوم ويخضعون له، وفي تكذيبهم بيوم الدين تكذيب لقدرة الله تعالى وتكذيب رسله؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم إلى الإيمان بيوم الدين؛ فكانوا يكذبونهم بتكذيبهم بذلك اليوم؛ فيكون تأويله منصرفا إلى ما ذكرنا من تكذيبهم بجميع ما يحق عليهم التصديق به.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ }: المعتدي هو الذي يتعدى حدود الله تعالى، والأثيم: الذي يتأثم بربه؛ فيكون مجاوزاً به عن الحدود، والتأثم بربه هو الذي يحمله على التكذيب، وإلا لو قام بحفظ حدوده، ولم يأثم بربه، لكان لا يكذب بيوم الدين.
أو يكون فيه إخبار أن المكذب به معتد أثيم.
وقوله - عز وجل -: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }: قال: { أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }: أباطيل الأولين.
وقال أبو عبيدة: الأساطير: هي التي لا أصل لها.
ومعناه عندنا: ما سطره الأولون، أي: كتبه، فالسطر: الكتابة؛ فيخبرون أنها ليست من عند الله تعالى، بل مما كتبها الأولون الذين لا نظام لهم، ولم يكن يقولون هذا في كل ما يتلو عليهم؛ ولكنهم كانوا يعارضونه بهذا عندما كان يتلو عليهم من نبأ الأولين، وكانوا ينسبونه إلى السحر إذا أتاهم بالآيات المعجزات.
وقوله - عز وجل -: { بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }، قيل: الرين: الستر والغطاء.
وقيل: الرين: الصدأ؛ فالله - تعالى - سمى الإيمان الذي هو في النهاية من الخيرات: نوراً، وسمى الكفر الذي هو في النهاية من الشرور: ظلمة، فإذا كان الإيمان منورا للقلب، والكفر مظلما، فإذا اشتغل بالأسباب الداعية إلى الكفر شيئا بعد شيء من الآثام، فكل سبب من ذكل يعمل في إظلام القلب حتى تتم الظلمة؛ على ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية، فقال: هو العبد يذنب الذنب، فتنكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صفا قلبه، وإن لم يتب، وعاد فأذنب، نكتت في قلبه نكتة سواداء، وإن عاد نكتت في قبله حتى يسود القلب أجمع؛ فذلك الرين" ، ومن يرد الله أن يهديه يشرح صدره شيئا فشيئا بأسباب تتقدم الإيمان حتى يحمله ذلك على الإيمان؛ فذلك تمام الانشراح.
وعلى هذا يخرج تأويل ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد عظما، ازداد ذلك البياض، فإذا تستكمل الإيمان ابيض القلب كله.
معنى قولخ: "يبدأ نقطة بيضاء" إلى قوله: "حتى يستكمل الإيمان"، عندنا بالأسباب الداعية إلى الإيمان، فلا يزال ينشرح منه شيء فشيء بكل مقدمه منه حتى يفضي به إلى الإيمان.
ثم إن الله - تعالى - سمى السواتر عن الإيمان بأسام، مرة قال:
{ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [النحل: 108]، ومرة قال: { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً... } الآية [الإسراء: 46]، ومرة: { أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [محمد: 24]، فكأن الذين وصفوا بالقفل على قلوبهم هم الذين انتهوا في الكفر غايته حتى لا يطمع منهم الإيمان، وهم المتمردون المعتقدون للتكذيب، وهم الرؤساء منهم والأئمة.
ومنهم من هو مطبوع على قلبه، وهم الذين اعتقدوا الكفر لا عن تمرد وعناد، ولكن لما لم تَلُحْ لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان.
وذكر الزجاج أن أول منازل الستر: الغبن، وهو الستر الرقيق كالسحاب الرقيق في السماء، يعمل في غشاء القلب غشاء السحاب الرقيق بلون السماء، ثم إذا ازداد سمي: ربنا ثم يرتقي إلى الطبع إلى أن يصير كالقفل على القلب، وفي هذا دليل على أن لله تعالى تدبيراً وصنعا في أفعال العباد؛ لأنه أنشأ للكفر ظلمة في القلب حتى تمنعه تلك الظلمة عن درك الخيرات ونور الإيمان؛ إذ كل من اعتقد الكفر فهو ليس يعتقده؛ ليمنعه عن درك الأنوار، وإذا لم يوجد منه هذا، ثبت أنه صار كذلك بتدبير الله - تعالى - وصنعه؛ إذ لا يجوز أن تحدث الظلمة في القلب إلا بمحدث لها، وإذا انتفى الصنع من الكافر ثبت أنه بتدبير الله - تعالى - ما صار كذلك، وأنه أنشأه مظلما، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }، اختلف في قوله: { يَوْمَئِذٍ }.
فذكر أبو بكر الأصم: أن هذا في الدنيا، يقول: إنهم حجبوا عن عبادة ربهم بما عبدوا غير الله تعالى؛ فصارت عبادتهم غير الله حجابا من عبادته.
وذكر أهل التفسير: أن هذا في الآخرة.
ثم منهم من يقول: إنهم حجبوا عن لقاء ربهم، وأوجبوا بهذا القول الرؤية للمؤمنين.
ومنهم من يقول: هم محجوبون، اي: عن كرامته التي أعدها لأوليائه، وعن رحمته، فعوقبوا بالحجب عن ذلك؛ جزاء لصنيعهم؛ لأنهم في الدنيا ضيعوا نعم الله - تعالى - فلم يقبلوها بالشكر، ولم يؤمنوا برسوله الذي بعثه رحمة للعالمين؛ فأبسلوا من رحمته وكرامته في الآخرة؛ عقوبة لهم ومجازاة، وهو كقوله تعالى:
{ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، أي: جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به؛ فعلى ما وجد منهم من المعاملة لآياته وحججه بتركهم الالتفات إليها عوملا بمثله في الآخرة.
وقال في آية أخرى:
{ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } [طه: 125].
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ }: من صرف الحجب إلى الدنيا، فهو يقول: ثم إ نهم يصلون الجحيم بعدما عبدوا غير الله تعالى، وحجبوا عن عبادته.
ومن صرف التأويل إلى أمر الآخرة، فهو يقول: إنهم يصلون الجحيم بعدما يظهر فيهم من أثر الحجاب من سواد الوجوخ وإعطاء الكتاب بشمالهم ومن وراء ظهورهم.
وقوله - عزو جل -: { ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } تأويله: أنهم يعرفون أنهم يصلونها بتكذيبهم بها، وحجبوا عن الله - تعالى - بتكذيبهم بذلك اليوم، وإلا لو آمنوا وأقروا أن النار حق والبعث حق، لم يكونوا يصلونها؛ فيعرفون حتى يقروا بذلك بقوله:
{ فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الملك: 11].