التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ
١
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
٢
وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ
٣
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ
٤
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
٥
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ
٦
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ
٧
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
٨
وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
٩
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ
١٠
فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً
١١
وَيَصْلَىٰ سَعِيراً
١٢
إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
١٣
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
١٤
بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
١٥
-الانشقاق

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } هو جواب سؤال تقدم؛ لما ذكرنا أن حرف (إذا) حرف جواب، وليس بحرف ابتداء؛ فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ملاقاة الأعمال متى وقتها؛ فقال - تعالى -: { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } فذلك وقت ملاقاة الأعمال.
وقيل: ذكر في الخبر أن أخوين أحدهما مسلم، والآخر كافر، قال للمسلم: أترانا بعد الموت مبعوثين؟ فقال له: بلى، والذي خلقك والجبلة الأولين؛ فنزلت هذه السورة تبين لهم وقت بعثهم: أنه عند انشقاق السماء ومد الأرض ونحوه.
ثم ذكر الجواب في ابتداء السورة؛ ليكون المرء أذكر لها؛ لأنه [يكون] أوعى لها وإذا ذكر في وسط السورة، لم يتحفظ إلا بالتلاوة؛ ولهذا المعنى - والله أعلم - جعلت "الۤـمۤ"، و"الۤمۤر" و" كۤهيعۤصۤ" و"طه" رءوس السور؛ لأن الكفرة كانت من عادتهم الإعراض عن القرآن وترك الاستماع إليه ليفهموه، فابتئدت السور بما ذكرت من الرموز والإشارات؛ ليحملهم ذلك على التفكر فيه والنظر؛ إذ ليم يكن سبق منهم العلم بمعرفة ما يراد من قوله: "الۤـمۤ" و"الۤمۤر" ثم ذكر انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها لما جعل فيها؛ ليعرفوا شدة ذلك اليوم؛ فيخافوه، ويستعدوا له.
وقوله - عز وجل -: { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }، قيل: سمعت لربها، وأطاعت [وأجابت] إلى ما عديت إليه.
ثم المراد من الإذن مختلف؛ فحقه أن يصرف كل شيء إلى ما هو الأولى به؛ ألا ترى أنك إذا قلت: "أذن الرجل لعبده في التجارة"، فلست بقولك: "أذن"، ما تريد به إذا أذنت لغيرك أن يتناول من طعامك، بل تريد بالإذن للعبد بالأمر بأن يتخجر، حتى لو لم يفعل، تلومه على ذلك، وتريد بالآخرة إباحة التناول، ققال الله - تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ } [آل عمران: 145]، وقال في موضع أخر: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [يونس: 100]، فكان المراد من الإذنين مخلتفا؛ فثبت أن حقه أن نحمله إلى ما إليه أوجَهُ، وهو إلى الطاعة والإجابة هاهنا أوجه؛ لذلك حملوه عليه.
وقوله - عز وجل -: { وَحُقَّتْ }، أي: حق لها أن تسمع وتطيع.
وجائز أن تكون الإجابة منصرفة إلى أهلها، ثم نسب إليها ذلك وإن كان المراد منه الأهل؛ كقوله تعالى:
{ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } [الطلاق: 8]، ولا يوجد من القرية عتو، وإنما يوجد من أهلها، فإن كان كذلك، ففيه أنه لا يتخلف أحد من الإجابة إلى ما دعاه إليه الرب - تعالى - خلافا على ماكنوا عليه من الدنيا، فإن كثير من أهل الدنيا، أعرضوا عن طاعته، واشتغلوا بمعصيته.
ثم الإجابة والطاعة والطوع والكره، ومثل هذه الأوصاف إذا أضيفت إلى من هو من أهل الاختيار، فهي على الطوع المعروف والإجابة المعروفة، وإذا أضيفت إلى من ليس هو من أهل الاختيار فهو على تغيير الهيئة؛ على ما عليها، وصارت متهشمة؛ فيراد بها: أنها صارت بهيئة لو وجدت تلك الهيئة في الروحانيين لصار أحدهما علما لحايته، والآخر علما لوفاته، وقال - تعالى -:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } [البقرة: 29]، وقوله - تعالى -: { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]، وهما لا يوصفان بطوع ولا إكراه، ولكن خلقتا على هيئة لو وجدت تلك الهيئة فيمن وصف بالطوع والإكراه، كان ذلك منه طوعا.
وقال إبراهيم - عليه السلام -:
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [إبراهيم: 36]، وهي في الحقيقة لا تضل، ولكنها أنشئت على هيئة لو كانت تملك الإضلال، لعد ذلك منها إضلالا.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ } قيل: بسطت، وسويت بكسر الشعاب والأودية بالجبال، أو بما شاء؛ فصارت:
{ قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [طه: 106-107].
وقوله - عز وجل -: { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ }، [أي]: ألقت ما وضع فيها من الموتى والكنوز؛ فتخلت عنها؛ فنسب التخلي إليها، وإن كان فيها من هو الذي خلا عنها، وكانت هي الحابسة؛ لأنه إذا خلا عنها خلت هي عنه.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ } الكاحد: هو الساعة، وهي الذي اعتاد ذلك، وهذا في كل الإنسان، تراه أبدا ساعيا إما في عمل الخير أو عمل الشر، أو فيما ينفعه أو فيما يضره، حتى لو هم بترك السعي لم يقدر؛ لأن تركه السعي نوع ن السعي.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين تلا هذه الآية:
"أنا ذلك الإنسان" فهذا ليس [أنه] هو المخصوص بالخطاب؛ لأنه بين الإنسان، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ }، { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ }، ولا يجوز أن يكون هو المراد بهذا كله، فكل أحد على الإشارة إليه مراد بقوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ }، فلذلك قال [النبي] - عليه السلام -: "أنا ذلك الإنسان" .
وقوله - عز جل -: { إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً } جائز أن يكون معناه: أن اجعل كدحك إلى ربك في أن تسعى في طاعته وطلب مرضاته؛ فإنك ملاقيه لا محالة؛ أي: تلاقي جزاء عملك: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وجائز أن تكون الملاقاة كناية عن البعث؛ إذ البعث قد يكنى عنه بلقاء الرب، قال الله - تعالى -:
{ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } [الكهف: 110] وسمي ذلك اليوم: يوم المصير إلى الله - تعالى - يوم البروز بقوله - تعالى -: { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [إبراهيم: 21].
ووجه التسمية بهذه الأسامي ما ذكرنا: أن المقصود من خلق العالم العاقبة؛ فسمي: بروزا؛ لما للبروز أنشئ، وسمى: مصيرا إلى الله تعالى؛ لمصيرهم إلى ما له خلقوا، وإن كان الخلق كلهم بارزين له قبل ذلك، ولم يكونوا عنه غائبين؛ فيصيرون إليه خصوصا لذلك اليوم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً }، فسماه: [حسابا] يسيرا؛ لوجوه:
أحدها: أن المؤمن اعتقد تصديق الرب في كل ما دعاه إليه، وإذا كان على التصديق سهل عليه تذكير ما قد عمله بتفكر الجملة.
ووجه آخر: أنه إذا نظر في كتابه رأى حسناته مقبولة وسيائته مغفورة له، فسمي ذلك اليوم: يسيرا له؛ لما أثبت فيه من الخيرات، ومُحي عنه من السيئات، كما سميت الخيرات: يسرى، وسمي ما يجري عليها: يسرى أيضا، فكذلك من أوتي كتابه بيمينه يجري عليه الخير؛ فسمي: حسابا يسيرا.
وجائز أن يكون المسلم يحاسب في أن يذكر ما أنعم الله عليه في الدنيا، ولا يحاسب حساب توبيخ وتهويل؛ بأن يقال له: لم فعلت كذا؟ والكافر يسأل سؤال توبيخ، فيقال له: لم فعلت كذا؟! على [الإنكار منه لما فعل]، وفي ذلك تعسير عليه.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من نوقش الحساب فهو معذب" ، وفي بعضها: "من حوسب عذب قالت: قلت: يا رسول الله، ألم يقل الله تعالى: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }؟ قال: يا عائش، ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك" .
قال الفقيه -رحمه الله -: في الظاهر قوله - عليه السلام -: "من نوقش الحساب عذب" دفع لما قالته عائشة - رضي الله عنها - لأن الفهم من قوله - عليه السلام -: "من نوقش الحساب" غير الفهم من قوله - تعالى -: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً }؛ فليس في ظاهر قوله جواب لها؛ فكان الظاهر من الكلام الأول على ما فهمته عائشة رضي الله عنه.
ولكن وجه الجواب فيه: أن قوله - عليه السلام -:
"من حوسب عذب" ، وقوله - عز وجل -: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ } ليس على كل حساب، وإنما هو على الحساب الذي لا يناقش فيه، فأما الذي هو عرض فليس مما يعذب عليه؛ فيكون فيه إبانة أنه لا يفهم بالخطاب العام عموم المراد كما فهمته عائشة - رضي الله عنها - بل يجوز أن يكون الخطاب عاما، والمراد منه خاصا.
وقوله - عز وجل -: { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }، وقال في شأن الذي أوتي كتابه وراء ظهره { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }؛ فهذا لأن المسلم إنما تأهل على قصد تحصيل النفع لنفسه من العاقبة، ووتكون معنية له على أمور الآخرة؛ فحصل له ذلك النفع بإحرازه السرور الدائم بذلك، والكافر تأهل للمنافع الحاضرة وسر بها سرورا، وأنساه السرور أمر العاقبة؛ فحق عليه العذاب؛ لتركه السعي للآخرة، لا لسروره بأهله، وهو كقوله تعالى:
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ... } [الإسراء: 18]، والكل منا يريد العاجلة ولا بد له منها، لكن الذي يصلى جهنم هو الذي ابتغى العاجلة ابتغاء أنساه ذلك عن الآخرة، فكذلك المسرور بأهله إنما حلت به النقمة؛ لما منعه السرور عن النظر للعاقبة، لا لنفس السرور؛ إذ كل متأهل لا يخلو عن السرور بأهله، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ }، فالإيتاء من وراء الظهر يحتمل وجهين:
أحدهما: أن استقذر منه؛ لخبث منظره؛ فأوتي من وراء ظهره؛ مجازاة له بما سبق من صنعه، وصنعه أنه نبذ كتاب الله وراء ظهره، وترك أوامره ونواهيه كذلك وراء ظهره؛ فجوزي - أيضا - بدفع كتابه وراء ظهره، ودفع إلى المؤمن كتابه بيمينه؛ لما في كتابه من المحاسن والبركات، واليمين أنشئت؛ لتستعمل في البركات وأنواع الخير، وسميت - أيضا - باسم مشتق من اليمن والبركة، والشمال جعلت لتستعمل في الأقذار والأنجاس، فدفع كتابه من خبث عمله إليه بشماله أيضا أو من وراء ظهره.
ولأن أهل الإيمان قبلوا أمر الله - تعالى - ونواهيه واستقبلوها بالتعظيم والتجبيل، ومن أراد تعظيم الآخر في الشاهد وتبجيله، أخذ بيمينه، فجوزوا في الآخرة بالتعظيم لهم بأن أوتوا كتبهم بأيمانهم، وأما الكافر فإنه استخف بأمر الله - تعالى - وطاعته، فجوزي في الآخرة بأن أوتي كتابه بشماله التي تستعمل في الأقذار؛ إهانة له وتحقيرا.
وقوله - عزو جل -: { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً }: الثبور والويل حرفان يتكلم بهما عند الوقوع في المهالك؛ فيكون في ذكر [الثبور ذكر] وقوعه في المهلكة التي يحق له دعاء الثبور والويل على نفسه، دعا به أو لم يدع؛ على سبيل الكناية عن الوقوع في الهلاك، وهو كقوله - تعالى -:
{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } [التوبة: 82] ، فالضحك كناية عن السرور، والبكاء كناية عن الحزن؛ فمعناه: أنه يستقبله ما يحزن له طويلا، كان هناك بكاء أو لم يكن.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَىٰ } فيه دلالة أنه إنما حل به ما ذكر من العذاب؛ لأنه كان للبعث ظانا، ولم يكن به متيقينا؛ وكذلك الله - سبحانه وتعالى - حيث قسم الوعد والوعيد بين الفريقين ذكر في آخره ما يبين أن الذي أوعد بالعذاب هو المكذب، وذكر الوعيد هاهنا وبين أن الذي يحل به هذا الوعيد هو الذي كان ظانا بالميعاد ولم يكن متحققا، وقال الله - عز وجل -:
{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ... } [السجدة: 20] إلى قوله: { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [السجدة: 20] فبين أن الوعيد في المكذبين، وقال - تعالى -: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ... } إلى قوله: { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [المؤمنون: 104-105]؛ ليعلم أن الوعيد الدائم في المكذبين خاصة؛ فيكن فيه دفع قول المعتزلة: إن أهل الكبائر يخلدون في النار.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً }، أي: كان بصيرا بما سبق من أعماله الخبيثة؛ فيحاسبه على علم منه بما كسبت يداه، ويعذبه على علم من باكتساب ما استوجب من العذاب، خلافا لأمر ملوك الدنيا: أ،هم يحاسبون على تذكير لهم ما عليه من الحساب، ويعذبون على تعريف الغير لهم ما استوجب به التعذيب، لا على علم منهم بذلك.
أو يكون معناه: أنه كان به بصيرا في الازل: أنه ماذا يعمل إذا أنشأه؟ وإلى ماذا ينقلب أمره: إلى النار أو إلى الجنة؟ فخلقه على علم منه أنه يعادي أولياءه، ويعمل بمعاصيه.
ولقائل أن يقول بأن المرء في الشاهد لا يشرع في الأمر الذي يعلم أنه في العاقبة يضره ولا ينفعه، ولو شرع فيه، وأتمه كان مذموما عند الناس، ولم يكن محمودا، فأي حكمة في إنشاء عدوه وهو عالم أنه يسعى في معاداته؟!.
فجوابه - والله أعلم -: أن الذي يشرع في الأمر الذي علم أن إتمامه يضره ولا ينفعه، إنما لحقته المذمة؛ لما سعى في إضرار نفسه، فأما الذي أعرض عن إطاعة الله - تعالى - وكفر به فإنما اكتسب الضرر على نفسه خاصة بأن أوقعها في المهالك، ولم يضر غيره؛ لذلك لم تلحقه المذمة في خلقه وإنشائه، وفي هذا دلالة أن الله - تعالى - حيث خلق الخلق لم يخلقهم لمنفعة له ولا لمضرة تلحقه من جهتهم؛ بل منافعهم ومضارهم راجعة إلى أنفسهم، والله أعلم.