التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ
١
وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ
٢
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
٣
قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ
٤
ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ
٥
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
٦
وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
٧
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٨
ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ
١٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ
١١
-البروج

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ }، فقوله: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } على القسم، وكذلك ما ذكر عقبيه.
ثم اختلف في موضع القسم في هذه السورة:
فمنهم من ذكر أن القسم لمكان قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ }.
ومنهم من يقول: القسم موضعه على قوله:
{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12]، وهو أشبه؛ لأنه في موضع الاحتجاج على الكفرة.
ولو حمل القسم على قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ }، كان ذلك منصرفا إلى المؤمنين، والمسلمون قد تيقنوا بصدق ما يأتي به الرسول من الأنباء، والقسم يذكر على تأكيد ما يقصد إليه؛ ليزال عنه الريب، فإذا كان المسلمون غير مرتابين من نبئه استغنوا عن تأكيده بالقسم؛ فلذلك قلنا: إن صرفه إلى قوله - تعالى -:
{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12] أليق؛ فيكون فيه تحذير لمن كذب رسوله صلى الله عليه وسلم أن بطشه لمن كذب رسوله لشديد، وقد علموا ذلك بما وصل إليهم من نبأ عاد، وثمود، وفرعون، و غيرهم.
وجائز أن يكون موضع القسم على قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ }، وذلك أن أهل مكة كانوا أهل تعذيب، وصبر أولئك المعذبين على دينهم، وضنهم به، وحسن ثناء الله - تعالى - عليهم تصبير لهم، وتهوين على ما يلقون من العذاب؛ لينالوا من حسن ثناء الله - تعالى - عليهم ما ناله من صبر تقدمهم من السلف.
وكذلك ذكر سحرة فرعون، وأحسن الثناء عليهم بصبرهم على تعذيب فرعون، فقالوا:
{ فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } [طه: 72]؛ ليكون ذلك عونا لهم على الصبر بما يلقون من الكفرة من التعذيب، ثم أكد الأمر بالقسم؛ لأنه لا كل مسلم يبتلى بتعذيبهم يبلغ يقينه مبلغا لا يعتريه الشك، ولا يتخالجه شبهة في ذلك؛ فأكد الأمر بالقسم؛ لرفع الريب والإشكال.
وقال - تعالى -:
{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [آل عمران: 146]، وفي بعض القراءات (قتل معه ربيون كثير)، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ } [آل عمران: 146]، فذكّر المؤمنين ما لقي السلف من الكفرة، وابتلوا بقتل الرسل وثباتهم على الدين؛ ليستعينوا به على ما يصيبهم في سبيل الله، ولا ينقلبوا على أعقابهم إذا أخبروا بقتل الرسول.
وفي ذكر هذه الأنباء دلالة أن قول الرسول - عليه السلام - لعمار رضي الله عنه:
"إن عادوا فعد" حين أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه، فأجرى وقلبه مطمئن بالإيمان - ليس لعى الأمر به والإيجاب عليه، والتحصيل بطريق العزم؛ بل معناه: إن عادوا فلك العود؛ على سبيل الرخصة؛ لأنه لو كان على الأمر، لم يكن في ذكر نبأ أصحاب الأخدود وسحرة فرعون فائدة، سوى أن يترك العمل بهما، ومعلوم أن تلك الأنباء إنما ذكرت؛ ليعلم به لا ليترك بها العمل؛ لذلك حمل قوله: "فعد" على الرخصة، لا على الأمر به، ويكون المراد من قوله - عليه السلام - أيضا: "من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا" ، أي: لم ير العمل به موسعا بل استنكره، وأبى قبوله، لا أن يكون فيه أمر بترك العزيمة وإيجاب العمل بالرخصة، والله أعلم.
ثم نرجع إلى قوله - تعالى -: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ }.
فقال بعضهم: هي البروج المعروفة وهي أطراف البناء، وإذا بني بناء اتخذ على طرفه برج؛ ليشدد بناؤه به.
ومنهم من قال: البروج: القصور.

ومنهم من قال: البروج: النجوم؛ لقوله:
{ { جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16]، وزينة السماء هي الكواكب بقوله: { بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [الصافات: 6-7].
ومنهم من قال: هي مجاري الشمس والقمر والكواكب، فمنازلها هي البروج.
ثم ذكر السماء بالبروج؛ ليعرف حدثها ودخولها تحت تدبير الغير؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة فيها؛ ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع؛ فيعرفوا بها حدثها؛ إذ المسخر لمنافع الغير دخال تحت قدرة من سخره، والمقدور محدث، وهم لم يشهدوا بدأها؛ ليعرفوا به حثدها، ولا كل أحد يعرف حديثه الشيء؛ لكونه محدودا في نفسه إذا لم يشاهدوا بدأه، فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق؛ إذ ذلك أظهر وجوه الدلالة على الحديثة؛ ليعلموا بها حدثها؛ ألا ترى إن إبراهيم - عليه السلام - احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها؛ إذ ذلك أظهر وجوه الحديثة، ولم يحتج عليها بانتقالها من موضع إلى موضع، ولا بكونها محدودة في نفسها؛ بل احتج عليهم بما ذكرنا؛ ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير.
وقوله: { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } قيل: هو يوم القيامة؛ فسمي: موعودا؛ لما وعد من جميع الأولين والآخرين في ذلك اليوم، ثم أقسم بذلك اليوم وإن كانوا منكرين له؛ لما قرره عليهم بالحجج، وألزمهم القول به.
وقيل: اليوم الموعود، هو كل يوم يأتي، فيأتي بما عد فيه من الرزق وغيره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } اختلف في تأويله:
فمنهم من قال: الشاهد هو الله تعالى، والمشهود هوالخلق، واستدل على ذلك بقوله:
{ كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة: 117].
وقيل: الشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشهود أمته؛ قال الله - تعالى -:
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [النحل: 89].
ومنهم من يقول: الشاهد هو الكاتبان اللذان يكتبان على بني آدم أعمالهم، والمشهود هو الإنسان الذي يكتب عليه.
ومنهم من يقول: الشاهد والمشهود هو الإنسان نفسه؛ أي: جعل عليه من نفسه شهودا بقوله:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24].
ومنهم من يقول: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة؛ فسمي يوم الجمعة شاهدا؛ لأنه هو الذي يشهدهم ويأتيهم، وسمي يوم عرفة: مشهودا؛ لأن عرفة اسم مكان، والناس يأتونها ويشهدونها، ولا يأتيهم؛ فعظم شأن عرفة لما يعظمها أهل الأديان كلها، وعظم يوم الجمعة؛ لأنه يوم عيد المسلمين، ولكل أهل دين يوم يعظمونه، فأكرم الله - تعالى - المؤمنين بهذا اليوم؛ ليعظموه مكان اليوم الذي يعظمه غيرهم من أهل الأديان، فأقسم بهما.
وقوله - عز وجل -: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } ا ختلف في تأويله:
فمنهم من صرفه إلى المعَذَّبين.
ومنهم من صرفه إلى المعَذِّبين.
فمن صرف إلى المعذِّبين حمل قوله: { قُتِلَ } على اللعن؛ أي: لعنوا؛ كقوله تعالى:
{ قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } [الذاريات: 10]، أي: لعنوا.
ومن صرفه [إلى] الذين عذبوا، حمله على القتل المعروف.
ثم اختلف في قصة أولئك الذين عذبوا؛ فإن كان القسم في الكفرة، فما ينبغي أن يفسر على وجه من ذلك ما لم يتواتر فيه الخبر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، بل حقه أن يقتصر على ما جاء به الكتاب؛ لأن هذه الأناء حجة لرسالة نبيه - عليه السلام - لأنهم وجدوها موافقة للأنباء المذكورة في كتبهم، وقد علموا أنه لم يصل إلى تعرفها إلا بالله تعالى؛ إذ لم يروه يختلف إلى من عنده علم الأنباء؛ ليصل إلى معرفتها بهم، فإذا فسرت على وجه أمكن أن يقع فيها زيادة أو نقصان على ما ذكر في الكتاب؛ فيجدوا به موضع الطعن والقدح؛ لذلك لم يسع أن يزاد على القدر الذي جرى ذكره في الكتاب إلا من الوجه الذي ذكرنا.
وإن كان القسم في المؤمنين، وسع القول بحمل التأويلات التي ذكرها أصحاب التفسير؛ لارتفاع المعنى الذي ذكرنا في الكفرة، والله أعلم.
[ثم في ذكر هذه الأنباء] تقرير رسالته ونبوته - عليه السلام - عند الكفرة؛ لما ذكرنا أنه لم يختلف، إلى من عنده علم هذه الأنباء؛ ليعلم بها، فإذا أنبأهم [بها] على وجهها، تيقنوا أنه بالله تعالى علم.
وفيه تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخفيف الأمر عليه؛ لأنه يخبره أن قومك ليسوا بأول من آذوك وعاندوك، بل لم يزل سلفهم تلك عادتهم بأهل الإسلام.
وفادئة أخرى: ما ذكرنا أن في ذكره بعض ما يستعين به من ابتلي بأذى الكفرة.
وفيه أن أولئك الكفرة بلغ من ضنهم بدينهم ما يقاتلون عليه من أظهر مخالفتهم في الدين؛ ليعلموا أن القتال لمكان الدين ليس بأمر شاق خارج من الطباع؛ بل الطباع جبلت على القتال مع من عاداهم في الدين؛ فيكون فيه ترغيب للمسلمين على القتال مع الكفرة إذا امتحنوا به، والله أعلم.
وقوله: { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } منه من جعل الوقود من ألقي فيها من المؤمنين.
ومنهم من جعل الوقود صفة تلك النار التي عذبوا بها.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ }، أي: عظماؤهم وكبراؤهم جلوس عند الأخدود؛ ففيه أتباعهم هم الذين كانوا يتولون إلقاء المؤمنين في النار، وكبراؤهم جلوس هنالك.
وقوله - عز وجل -: { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ }، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الشهود هم العظماء والفراعنة.
أو يكون منصرفا إلى الأتباع، وهو أن الأتباع كانوا يلقون المؤمنين في النار، ويشهدون أنهم على الضلال، وأنهم ورؤساؤهم على الهدى والحق، وهو كما قال في موضع آخر:
{ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [النساء: 51].
وقوله - عز وجل -: { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ }: ذكر { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } ليعلم أنه لا يلحقه ذل بما يحل من الذل بأوليائه وأهل طاعته، ولا في حمده قصور بقهر أوليائه، خلافا لما عليه ملوك الدنيا، وذلك أن ملوك الدنيا إذا حل بأولياء واحد منهم ذل، كان الذل حالا فيه أيضا، وإذا قهر بعض أتباعه فترك نصرهم وهو قادر على نصرهم واستنقاذهم لم يحمد ذلك مه، ولحقته المذمة؛ وذلك لأن الملك إنما استفاد العز بأتباعه وأنصاره، فإذا استذل أتباعه، زال ما به نال العز؛ فلحقه الذل، ونال الحمد - أيضا - بالإحسان إلى مملكته، فإذا ترك نصرهم وهو ممكن من ذلك، فقد ترك إحسانه إليهم؛ فصار به غير ممدوح و لامحمود، والله - تعالى - استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه؛ فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد، ولا ما يوجب قصورا في العز.
والثاني: [أن] الدنيا وما فيها أنشئت للأهلاك، ولعل الإهلاك بما ذكر أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنفهم، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء، وهي التي ذكرها الله - تعالى - في قوله:
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ... } [آل عمران: 169]، ولا ينال تلك الدرجة بموتهم حتف أنفهم، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم.
ثم للجزاء والعقاب دار أخرى فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء؛ فلم يكن [في] ترك النصر في الدنيا ما يوجب وها ولا ذلا، وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم، لم يتوقع منهم النصر بعد ذلك؛ إذ ليست في أيديهمه إلا المنافع الحاضرة؛ لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر، والله أعلم.
ثم ليس في إهلاك أولئك القوم الذين آمنوا واقتدارهم عليهم إيهام أنهم كانوا على الحق والصواب، وأن المؤمنين كانوا على الخطأ؛ لأن الإهلاك إنما يصير آية إذا كان على خلاف المعتاد، وإهلاكهم لم يكن كذلك؛ لأن عددهم كان كثيرا، وكان في المؤمنين قلة، وإهلاك الكثير للقليل غير مستبعد؛ بل هو أمر معتاد، وغلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة هي التي تخرج من حد الاعتياد؛ فيكون فيها آية: أن الفئة القليلة على الحق والأخرى على الباطل، وذلك نحو غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بمن معه من المسلمين مع قلة أعدادهم وضعفهم في أنفسهم، وكثرة أتباع الكفرة وقوتهم وجلادتهم في أنفسهم، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ }، أي: لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم لينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا بالله تعالى.
وقيل: ما عابوا عليهم، وما أنكروا منهم سوى أن آمنوا بالله تعالى، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم؛ لأنهم علموا أن مالهم من النعم كلها من الله تعالى، وكن الذي يحق عليهم أن يؤمنوا بالله - تعالى - ويشكروه بما خولهم من النعم، ويدعوا غيرهم إلى الإيمان به، لا أن يقتلوا ويعذبا من آمن به.
ثم قوله - عز وجل -: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } العزيز: هو الذي لا وجود له، أو هو عزيز لا يلحقه ذل؛ فيكون العز مقابل الذل.
وقال أهل التفسير: العزيز: المنيع، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء، وهو الحميد المستوجب للحمد من كل أحد بذاته.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... } [الآية].
ذكر هذا؛ ليعلم أنه لا يدخل في ملكه قصور بقتل أوليائه وأنصار دينه؛ لأن الخلق كلهم عبيد لله - تعالى - وإماؤه، والسيد إذا قتل بعض مماليكه بعضا، لم يلحق السيد بذلك ذل ولا نقص، وإما يدخل عليه الذل إذا قتلهم غير مماليكه، فإذا كان الخلق بأجمعهم عبيداً لله - تعالى - لم يكن في قتل بعض بعضا نقص يدخل في ملكه.
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }، أي: يحفظ عليهم أعمالهم؛ فيجازيهم بها، لا يعزب عنه شيء.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } القتنة: المحنة، وهي مأخوذة من فتن الذهب إذا أذابه؛ لأنه يذيبه؛ ليميز به بين ما خبث منه وبين ما صفا، وبين الذهب وبين ما ليس بذهب؛ فاستعملت في موضع المحنة؛ لأن المحنة هي الابتلاء؛ ليتبين بها الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، وذلك يكون بالأمر والنهي؛ فسمي الأمر والنهي من الله - تعالى - امتحانا لهذا، وإن كان الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء.
ثم وجه فتنتهم: أنهم اتخذوا الأخاديد وأوقدوا فيها النيران؛ ليلقوا فيها من ثبت على الإيمان ودام عليه، ويتركوا إلقاء من رجع عن دينه، فقيل: فتنوا؛ لهذا.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ }: فيه أنهم لو تابوا لكان يعفى عنهم، ولا يعاقبون مع عظم جرمهم بربهم في ذات الله - تعالى - فيكون فيه إظهار كرمه وعطفه على خلقه.
وقوله - عز وجل -: { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ }: منهم من صرف قوله: { وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } إلى الدنيا، فقال بأن تلك النار التي عذبوا بها المؤمنين سلطت عليم حتى أحرقتهم.
وجائز أن يكون ذلك في جهنم أيضا؛ فيكون فيه إخبار [بأن] نار جهنم تدوم عليهم بالإحراق، ولا تفتر عنهم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }: منهم من صرف هذا الخطاب إلى الذين عذبوا من المؤمنين.
ومنهم من صرفه إلى المعذبين، وهو أنهم لو آمنوا مع عظم جرمهم وإساءتهم بأولياء الله - تعالى - لكان يعفو عنهم، وتسعهم رحمته.
وقوله - عز وجل -: { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } فقوله: { مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } يحتمل وجهين:
أحدهما: من تحت أهلها.
والثاني: من تحت أشجارها.
والجنة: اسم للمكان الذي في الأشجار الملتفة؛ فيخبر أن الماء يجري من تحت ما به صار جنة هي الأشجار، وليس يراد بقوله: تحت الجنة، أي: تحت تربتها؛ لأن تحتها تكون قناة أو بئرا، وليس بهما كثير نزهة.
وقوله: { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } الفائد هو الذي يظفر بما يأمل، وينجو عما يخاف، ويحذر، ووصف أه كبير؛ لأنه ليس لما أنعم زوال ولا انقطاع.