التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ
١١
وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ
١٢
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
١٣
وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ
١٤
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً
١٥
وَأَكِيدُ كَيْداً
١٦
فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
١٧
-الطارق

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } قال: أبو عبيدة: الرجع: هو الماء؛ أي: السماء ذات المطر.
وقال غيره: { ذَاتِ ٱلرَّجْعِ }، أي: تعود في كل عام إلى ما كانت عليه في العام الذي قبله بالمطر، والرجع: هو العود.
ويحتمل: { ذَاتِ ٱلرَّجْعِ }، أي: يتكرر إدرار بركتها على الخلق استوفوا منها.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } قيل: { ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } بالنبات.
أو { ذَاتِ ٱلصَّدْعِ }، أي: ذات أودية وأنهار يجتمع فيها الماء، فينتفع بها الخلق لسقي أراضيهم ودوابهم؛ فعظم أمر السماء والأرض؛ فأقسم بهما.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } يعني: القرآن، وليس بالهزل.
وفي إخراج النبات من الأرض حكمة عجيبة ولطف تدبير؛ وذلك أن النبات شيء لين ينثني بأدنى مس، ثم إن الله - تعالى - بلطفه صدع له الأرض اليابسة الصلبة، وأخرجه منها غير منثنٍ ولا منكسر؛ ليعلموا أن مدبره حكيم؛ فيلزمهم به التوحيد.
وجعل منافع الأرض بمنافع السماء متصلة؛ إذ الأرض إنما تتصدع للنبات إذا أصابها المطر من السماء؛ فيكمون في ذلك إنباء - أيضا - أن مدبرهما واحد، ولولا ذلك لم تتصل منفعة إحداهما بالأخرى.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أي: بَيِّن، بَيَّنَ فيه الحلال والحرام، وما يتقى عنه، وما يؤتى، وبيَّن فيه الصواب من الخطأ، وبيَّن فيه الوعد والوعيد.
أو يكون معنى الفصل: التفريق، وهو أن فرق الوعد من الوعيد، والحلال من الحرام، والحق من الباطل، فوضع كل شيء موضعه، ولم يخلط أحدهما بالآخر.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ }، أي: باللعب الباطل.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً }، فقوله: { وَأَكِيدُ كَيْداً } يحتمل وجهين:
أحدهما أي: أجزيهم جزاء كيدهم؛ فسمى الجزاء باسم ما له الجزاء وإن لم يكن ذلك كيداً، كما سمى الجزاء للسيئة: سيئة مثلها، وإن لم يكن الجزاء سيئة، وكما سمى جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الجزاء اعتداء بقوله:
{ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]، وقال: { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، أي: جزاهم جزاء النسيان، أو جعلهم كالشيء المنسي الذي [لا] يعبأ به، لا أن يكون منه في الحقيقة نسيان؛ فكذا سمى جزاء الكيد: كيدا، لا أن يكون الجزاء كيدا.
ووجه آخر: أن الكيد في الحقيقة والمكر هو أن يأخذه من وجه أمنه؛ فيلحق الكائد اسم الذم؛ لأنه أخذه من وجه لم يشعر به، وهذا المعنى في الكيد الذي أضيف إلى الله - تعالى - غير موجود؛ لأن الله - تعالى - قد بين له الطريق الذي إذا سلكه وقع له به الأمن من الطريق الذي إذا سلكه حل به البوار والهلاك، فإذا سلك هذا الطريق، كان سلوكه عن عناد منه، أو عن ترك الإنصاف من نفسه؛ فوجد ما يكره من الكيد [لا من الكائد]؛ فلم يلحقه بذلك الوصف المعنى المكروه.
ثم كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -:
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } [الأنفال: 30].
وقوله - عز وجل -: { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ } مهل وأمهل لغتان؛ فكأنه يقول: { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً }، ولا تجاوزهم بصنيعهم؛ فإن الله - تعالى - يجازيهم بصنيعهم عن قريب، وقد فعل ذلك بما سلط رسوله صلى الله عليه وسلم بقتلهم وسببهم؛ فيكون في هذا بشارة منه لرسوله صلى الله عليه وسلم النصر عليهم وبغلبته إياهم، وفي ذلك آية رسالته؛ لأنه قال لهم هذا عند قلة أعوانه وضعفه، ثم إن الله - تعالى - كثر أنصاره وأظهره عليهم كما قال لهم؛ ليعلموا أنه علم ذلك بالوحي؛ والله الموفق.