التفاسير

< >
عرض

سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ
٢
وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ
٣
وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ
٤
فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ
٥
-الأعلى

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } قيل فيه من أوجه:
أحدها: أن سبح ربك.
وقيل: سبح اسمه.
وقيل: سبح ربك بأسمائه.
فمن قال: سبح ربك، فمعناه: أن نزهه عن جميع المعاني التي يحتملها غيره من الآفات والحاجات والأضداد والأنداد، فيكون القول به توحيدا.
وروي عن مقاتل بن سليمان أنه قال: وحد ربك، وتوحيده ما ذكرنا.
وقال بعض المفسرين: تأويله: أن صل لربك؛ وهذا محتمل؛ لأن الصلاة بنفسها تسبيح؛ لأنه بالافتتاح يقطع وجوه المعاملات بينه وبين الخلق، ويمنع نفسه عن حوائجها؛ فيجعلها لله تعالى، وهذاهو التوحيد والإيمان؛ لأنه بالإيمان يجعل الأشياء كلها لله تعالى سالمة؛ فصارت الصلاة تسبيحا لعينها، لا للتسبيح المجعول فيها.
ومن حمل التسبيح على الاسم، فقال: نزه اسمه، فذلك يرجع إلى الأسماء الذاتية، [و]هو ألا يشرك غيره فيسميه بها، والأسماء الذاتية قوله: الله الذي لا إله غيره الرحمن، وما أشبهه من الأسماء، وتنزيهه للأسماء الصفاتية: أن ينزهها عن المعاني التي استوجب الخلق الوصف به، كقولك: عالم، حكيم، رحيم، مجيد؛ فمن وصف بالعلم من الخلائق فإنما استوجب الوصف به بأغيار دخلن فيه، واستوجب الوصف بالحكمة والوصف بالمدح بالأغيار، والله - تعالى - استحق الوصف به بذاته، لا بأغيار، فينصرف التنزيه إلى الأغيار؛ إذ صفاته ليست بأغيار للذات؛ وهي لا تفارق الذات، فالامتداح الواقع بالصفات امتداح بالذات الموصوف بها، والله الموفق.
وقال بعضهم: معناه: سبح بالحمد والثناء؛ وهو يرجع إلى ما ذكرنا من التأويل الأول، وهو أن يحمده بالثناء الذي يتضمن التوحيد والتنزيه عن معاني الخلق.
من قال: سبح ربك بأسمائه؛ فهذا ظاهر، وهو أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأسماءه معروفة، لا نحتاج إلى إظهارها.
وقوله - عز وجل -: { ٱلأَعْلَىٰ } ظاهره يقتضي أن يكون هناك أدون وأسفل، وكذلك قول: "الله أكبر" ظاهره يقتضي الأصغر، ولكن معنى قوله: { ٱلأَعْلَىٰ } أي: هو أعلى من أن تمسه حاجة أو تلحقه آفة، وكذلك هذا في الأكبر، ويكون الأكبر والأعلى في النهاية عن تنزيه المعاني التي ذكرنا، وهو كقولك: هو أحسن وأجمل، فإذا قلت: أحسن وأجمل، أردت به النهاية في الحسن والجمال.
أو يكون { ٱلأَعْلَىٰ } بمعنى: العلي و"الأكبر" بمعنى: الكبير، وذلك جائز في اللغة.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } يحتمل أوجها:
أحدها: أن يكون سواه على ما قدره، خلافا لأفعال الخلق؛ لأن الفعل من الخلق يخرج مرة سويا على [ما] قدر، ومرة بخلافه.
أو يكون سوى الخلق كله في دلالة وحدانيته وشهادة ربوبيته، فما من خلق خلقه إلا إذا تفكر فيه العاقل، دلت خلقته على معرفة الصانع، ووحدانية الرب.
أو سواه على ما فيه مصلحته ومنفعته.
أو سواه على ما له خلق؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أمر بالركوع والسجود خلقه من وجه يتمكن من الركوع والسجود؛ فهذا معنى قولنا: إنه سواه على ما له خلق، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } يحتمل أوجها:
أحدها: هداه إلى ما أحوجه إليه، فهدى العبد [إلى] معيشته من أين يأخذها؟ وهدى كل دابة إلى رزقها وعيشها، فعرفت كل دابة رزقها.
أو يكون قوله: { فَهَدَىٰ }، أي: هدى به.
أو تكون الهداية منصرفة إلى أمر الدين، وذلك يرجع إلى الخصوص من الخلق الذين لهم عقول مميزة؛ فيكون معناه: هدى فيمن هدى.
وطعنت المعتزلة علينا بهذه الآية، فقالت: إن الله - تعالى - يقول: { قَدَّرَ فَهَدَىٰ }، وأنتم تقولون: قدر فأضل؛ ولكن هذا التحقيق يرجع إليهم؛ لأنهم يحملون تأويل الهداية على البيان، وإذا كان كذلك وقد بين الله تعالى سبيل الهدى وسبيل الضلال جميعا، فإذن قد أضله؛ حيث بين له سبيل الضلال على قولهم.
ثم ليس في قوله: { قَدَّرَ فَهَدَىٰ } نفي الإضلال؛ إذ التخصيص بالذكر لا يدل على نفى ذلك عما عداه؛ فلم يجب قطع الحكم على ما ذكروه، وقد ذكره في موضع آخر المكرمين بالهدى؛ فقال:
{ الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 1-2]؛ فثبت أن الهدى راجع إلى الخصوص؛ فقوله: { قَدَّرَ }، أي: قدر لخلقه معايشهم، وهداهم وجه أخذ المعيشة.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ * فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ }: في هذه الآية تعريف الرب الأعلى؛ كأنه يقول: الرب الأعلى: { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ * وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ }.
ثم ذكر هذه الأشياء التي يعرف انقضاؤها وبدؤها وإنشاؤها وإهلاكها من المرعى وغيره؛ لأن وجه الدلالة بمعرفة الصانع بالأشياء التي يعرف بدؤها وانقضاؤها وحدوثها. وفناؤها أقرب منه بالأشياء التي لم يشهد الخلق بدءها ولا انقضاءها، وهي السماوات والأرضون؛ إذ المرء يصل إلى وحدانية الرب ومعرفة الصانع بالأشياء التي تحدث وتتغير بأدنى نظر وتأمل، ولا يصل إلى ذلك فيما يدوم إلا بلطائف الفكر، وفضر بصر، وزيادة تأمل.
وجائز ا، يكون خص المرعى بالذكر؛ لما بالمراعي قوام هذا الخلق؛ لأنه لا بد للبشر من الدواب والأنعام؛ للتعيش، والدواب حياتها بالمراعي؛ فكان قوام الخلق في التحصيل بإخراج المراعي، فذكرهم هذا؛ ليستأدي منهم الشكر؛ إذا كانت الدواب لم تنشأ لأنفسها، وإنما أنشئت للخلق؛ ليتمتعوا بها، ثم الله - تعالى - بفضله أنشأ للدواب مراعي، وقدر لها أوقاتها، ولم يضيعها، فكيف يضيع هذا الخلق، وهم الذين قصد إليهم من خلق هذا العالم، فلا يرزقهم، ويخرجهم من تدبيره.
وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ } قيل: الغثاء: اليابس الذي تحمله السيول والأمطار { أَحْوَىٰ } أي: أسود من قدمهز
وقيل: الأحوى: هو الأخضر الذي يضرب إلى السواد، وهو على التقديم والتأخير؛ أي: جعله غثاء بعدما كان أحوى.