التفاسير

< >
عرض

سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ
٦
إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ
٧
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ
٨
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ
٩
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
١٠
وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى
١١
ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ
١٢
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
١٣
-الأعلى

تأويلات أهل السنة

قوله - عز جل -: { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ }، أي: سنحفظ عليك ما أوحينا إليك من القرآن فلا تنسى، وفي حفظه - عليه السلام - ما يوحى إليه دلالة رسالته؛ لأنه لم يكن يعرف الكتابة، ولا كان يتلو الكتب، ثم كان يقرأ جميع ما يلقى إليه بمرة واحدة، مع ما كان مأمورا ألا يحرك لسانه بشيء مما يوحى إ ليه إلى أن يقضى إليه الوحي، ومن كانت حالته ما ذكرنا، تعذر عليه حفظ ما يلقى إليه بمرات وإن كان ذلك لسانه، فكيف يضبطه بمرة واحدة؛ فكان حفظه بالمرة الواحدة نوعا من آيات نبوته.
وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } قال بعضهم: تأويله: إلا ما شاء الله من ذلك؛ فإنه ينسيك ما أراد أن ينسيكه.
ولكن ما رأى هذا التأويل صحيحا، وذلك أن الذي أوحي إليه آية نبوته؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ، ثم أنسي، فلمن طعن في رسالته أن يستقرئه تلك الآية، ولا يتهيأ له أن يقرأها إذا كان قد أنسي؛ فيجد في ذلك موضع الطعن عليه.
وقد روي في بعض الأخبار أنه أنسي، ولكنه من أخبار الآحاد؛ فلا يجحوز قطع الحكم بها؛ لأن خبر الآحاد يوجب علم العمل، ولا يوجب علم الشهادة، وهي في موضع الشهادة هاهنا، ولكن تأويله عندنا - والله أعلم - يخرج على أوجه ثلاثة:
أحدهما: أن الأنبياء - عليهم السلام - لم يكونوا آمنين على أنفسهم بالعصمة عن الزلات التي لديها يخاف زوال ما أنعموا به وإن ظهرت عصمتهم اليوم عندنا؛ ألا ترى إلى قصة إبراهيم - عليه السلام - عند محاجة قومه قال:
{ أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي } [الأنعام: 80]، وقال: { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]، فخاف زوال ما أكرم به، وخشي أن يبتلى بما أبتلي به أهل المعاصي حتى فزع إلى الدعاء، وقال في قصة شعيب - عليه السلام -: { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا } [الأعراف: 89]، وقال في قصة يوسف - عليه السلام -: { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [يوسف: 76]؛ فثبت أنه لم يتبين لهم حقيقة العصمة عن الوقوع في الزلات التي تزيل النعم، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن عما يعقب الإنساء؛ بل قيل له: { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ }؛ ألا ترى إلى قوله: { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65]؛ فثبت أنهم كانوا على خوف ووجل عن ارتكاب ما يسلب به الوحي وينسي.
او يكون الاستثناء راجعا إلى إنساء حكمه، وهو أن ينسخ حكمه حتى يترك فيصير كالمنسي؛ كقوله:
{ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، أي جعلهم كالشيء المنسي بما آيسهم من رحمته، لا أن يكون هناك حقيقة نسيان، فكذلك ما نسخ حكمه وترك، صار كالمنسي، وإن لم يكن فيه حقيقة نسيان؛ فيكون النسيان منصرفا إلى حكم التلاوة، لا إلى عينها.
أو يكون - عليه السلام - يذهب خاطره عن [بعض ما يوحى إليه؛ إذا اشتغل فكره في أشياء أخر؛ فيصير الذي ذهب عن] وهمه كأنه نسيه وإن كان يعود ذلك إليه عند إحضاره ذهنه، كما ترى المرء في الشاهد يذهب عن وهمه جميع ما في قاتحة الكتاب من الحروف إذا أعمل رؤيته في أشياء أخر؛ حتى يصير كالناسي لها وإن كان يعود إلى تذكرها إذا رام أن يقرأها.
فعلى هذه التأويلات يستقيم أن يوجه إليه الاستثناء، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ }، أي: ما يجهر بعض لبعض من الخلائق، أو ما يسر بعض عن بعض.
أو يعلم ما تطلع عليه الملائكة من أعمالهم، ويعلم ما يعزب عنهم، فعلمه فيما أسر العبد كعلمه فيما اظهر وجهر به؛ فذكرهم هذا؛ ليكونوا متيقظين؛ فلا يخافون، ولا يجهرون إلا بالذي يحق عليهم؛ إذا الله - تعالى - حفيظ عليهم.
وقوله - أعمال الخير: يسرى؛ لأنها تعقب ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ } قالوا: ونسيرك للخير ولعمل أهل الجنة، فسميت أعمال الخير: يسرى؛ لأنها تعقب ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ }: ظاهر هذا يقتضي ألا يذكر إلا من نفعته الذكرى، ولكن تخصيص الحكم في حال بوصف لا يوجب قطع ذلك الحكم فيما كان الحال بخلاف ذلك الوصف؛ بل يلزمه أن يذكر من نفعه ومن لا ينفعه؛ قال الله - تعالى -:
{ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [الغاشية: 21]، أمر بالتذكير على الإطلاق.
ثم قوله - تعالى -: { إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أن ذكر فقد نفعت الذكرى، وهو كقوله تعالى:
{ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [الإسراء: 108]، ومعناه: قد كان وعد ربنا مفعولا.
وقد نفعت الذكرى؛ لأنه بتذكيره أسلم من أسلم منهم، وبه فازوا، وبه نالوا الدرجات العلا، وقال تعالى:
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55].
أو يكون قوله - عز وجل -: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } فسيأتي على أقوام [حالة] لا تنفعهم الذكرى لديها، وتلك حالة المعاينة لبأس الله وعذابه.
وقوله - عز وجل -: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ }، أي: يتعظ بها من يخشى الله تعالى أو المعاد، قال الله - تعالى -:
{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الأنعام: 92]، أي: بالقرآن، وذلك أن الذي يحملهم على الإيمان بالآخرة إيمانهم بهذا الكتاب؛ لأن في القرآن تذكيراً للآخرة، وأمرا بالاستعداد لها؛ فلذلك خشيته تحمله على الاتعاظ بالذكرى والانتفاع بها، والخشية هي الخوف اللازم في القلوب.
وقوله - عز وجل -: { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ }: أضاف التجنب هاهنا إلى الأشقى، وهو الشقي، وفيما ذكر الأتقى أضاف التجنب إلى نفسه بقوله:
{ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } [الليل: 17-18]؛ فيكون في هذا دلالة الإذن بإضافة الخيرات إلى الله - تعالى - وفي الأول دلالة منع إضافة الشرور إليها؛ وهذا لأن إضافة الخيرات إلى الله تعالى تخرج مجرج الشكر له، وهو حقيق بأن تشكر نعمه، وليس في إضافة الشرور إلى آخر شكر له؛ فلم يصح أن تضاف إليه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا }، أي: لا تنقضي عنه أفعال الموت، وهي آلامها وأوجاعها، [بل] يبقى في آلامها أبداً؛ قال الله - تعالى -:
{ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [إبراهيم: 17]، أي: لا يقضى عليه حتى يتخلص من أوجاعها.
{ وَلاَ يَحْيَا }، فالحياة التي ينتفع بها في الدنيا هي التي ترتفع عنها آلام الموت، وأوجاعه، فقوله: { وَلاَ يَحْيَا }، أي: لا يرتفع عنه ألم الموت.
أو يكون قوله: { لاَ يَمُوتُ } فيستريح { وَلاَ يَحْيَا } حياة يتلذذ بها.