التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ
١٥
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ
١٦
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
٢٥
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
٢٦
يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ
٢٧
ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
٢٨
فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي
٢٩
وَٱدْخُلِي جَنَّتِي
٣٠
-الفجر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ * كَلاَّ } الإشكال أن يقول قائل: قول ذلك الإنسان: { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ }، { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } خرج موافقا لما قاله الرب تعالى؛ لأنه قال: { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ }؛ فخرج قوله: { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } على الموافقة لما قا ل، وكذا قول هذا الإنسان حيث ابتلي بنقيضه: { رَبِّيۤ أَهَانَنِ }، خرج موافقا لما قال: { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ }، فإذا كان الأول إكراما كان الذي يضاده إهانة؛ ألا ترى أن الله - تعالى - سمى المال: خيرا، والقر: شرا، وسمى المطيع: محسنا، والعاصي: مسيئا، فكذا إذا استقام القول بالإكرام عندما ينعم عليه ويكرم، استقام القول بالإهانة إذا ضيق عليه الرزق ولم يكرم، وإذا كان هذا فيكف رد عليه مقالته بقوله: { كَلاَّ }، وهو في ذلك صادق.
ولكن نحن نقول: إن الرد بقوله: { كَلاَّ } لم يفع على نفس القول، ولا انصرف إليه، وإنما انصرف إلى ما أراده بقوله، لأن القائل بهذا كافر بالله تعالى وباليوم الآخر، وكان يقول: لا بعث ولا جزاء، وإنما يجازون بأعمالهم في هذه الدنيا، فمن أحسن أحسن له، ومن أساء أهين؛ فيكون قوله: { كَلاَّ }، أي: ليس الأمر كما صوره في نفسه؛ بل الدنيا دار عمل، وللجزاء بالكفر والإيمان دار أخرى، وهذا كقوله:
{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1]، وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم، بل كانوا صادقين إنه رسول [الله]، وإن الله - تعالى - يعلم أنه رسوله، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم؛ فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم؛ فإلى ما أضمروا انصرف التكذيب، لا إلى نفس القول؛ كذا هذا.
ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا: فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه النعيم في الدنيا وأكرم فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله، وإذا ضيق عليه وابتلي بالشدة فإما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه.
ومنهم من كان يظن أنه من الله - تعالى - بمنزلة، وأنه مستوجب للإنعام، وأنه إذا بلي بضيق العيش وأصابته شدة، أصابه ذلك من عند محمد عليه الصلاة والسلام؛ فيتشاءمون به؛ ألا ترى إلى قوله:
{ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } [النساء: 78]؛ وعلى هذا كان ظن فروعن [وقومه]؛ قال الله - تعالى -: { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [الأعراف: 131].
فقوله: { فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ }، أي: أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه، أو جعله رئيس قومه، { وَنَعَّمَهُ }، أي: بسط الدنيا عليه: { فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ }؛ فكان ينظر بذلك.
وقوله: { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ } أي: إذا اختبره؛ فضيق عليه رزقه، فيقول: { رَبِّيۤ أَهَانَنِ }؛ فكان يظهر بذلك الجزع والله - تعالى - اختبره بالنعم؛ لستأدي منه الشكر بما أنعم، وابتلاه بضيق العيش؛ ليصبر، لا ليجزع؛ فلا شكر [هذه النعم] بل بطر، ولا صبر على الشدائد؛ بل جزع؛ فجائز أن يكون المراد بقوله: { كَلاَّ }، منصرفا إلى هذا لاعتقادهم وصنيعهم، وهو أنه لم يكرم ولم ينعم ليبطر به، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع، بل إنما أنعم ليشكر، وقدر عليه رزقه ليصبر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } جائز أنهم كانوا لا يكرمونه ويهينونه مع ذلك؛ لأن إكرام اليتيم ليس بواجب، أما إهانته فحرام.
وجائز ألا يثبت الإهانة منهم مع نفي الإكرام؛ لأن الإيجاب إذا ذكر في مضادة الإيجاب اقتضى ذلك إثبات المقابلة وإذا ذكر الإيجاب في مضادة النفى، أمكن أن تثبت فيه المقابلة، وأمكن ألا تثبت؛ ألا ترى: أنه إذا قيل: فلان جائر، كان فيه إثبات المقابلة وهي نفي العدل؛ لأن [في] قوله: "جائر" إثبات الجور؛ فكان في ذكره نفي العدالة، وفيه إثبات المقابلة، وإذا قلت: ليس بعدل، لم يكن فيه تحقيق لإثبات المقابلة وهو الجور، بل يجوز أن يكون جائراً، ويجوز ألا يكون، وقد يراد بالنفي إثبات المقابلة أيضا؛ قال الله تعالى:
{ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [البقرة: 16]؛ فكان في نفى الربح إثبات المقابلة في أنها خسرت.
ثم إكرام اليتيم هاهنا يحتمل أوجها ثلاثة:
أحدها: أن يكرمه في أن يحفظ عليه ماله حتى لا يضيعه، ويكرمه في نفسه، وهو أن يتعاهد أحواله عن أن يدخل فيها خلل.
والوجه الثاني: أن يكرمه؛ فيعلمه آداب الشريعة، ويرشده إليها.
والوجه الثالث: أن يكرمه؛ فيبذل له من ماله قدر حاجته إليه، ويصطنع إليه المعروف؛ فيكون التغيير هاهنا في إهانة اليتيم أن يترك الإكرام الذي هو من باب حفظ ماله؛ فيكون تضييعا، والله أعلم.
وقوله - عزو جل -: { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ }، أي: لا يحثون غيرهم على إطعام المساكين.
وجائز أن يحضوا ولا يتولوا بأنفسهم الإطعام.
ويحتمل ألا يتولوا ذلك بأنفسهم، ويحضروا غيرهم.
ففي هذه الأية ترغيب للمسلمين بإكرام اليتيم وتعاهد ماله، وتبيين أن عليهم أن يطعموا بأنفسهم، وأن يحثوا الأغنياء بإطعام المساكين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } فاللم: الجمع؛ يقال: لم المال؛ إذا جمع؛ فكأنه يقول: يحمعنن ما لم يرثوه بأنفسهم - وذلك نصيب الأيتام - إلى ما يرثون من أنصبائهم، فيأكلونه جميعا.
وقال بعضهم: { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً }؛، أي: شديدا.
وقوله - عز وجل -: { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } قال أبو بكر: أي: تحبونه حبا وفيا وافرا ليس فيه قصور؛ فيكون فيه إخبار عن غاية حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها.
وجائز أن يكون على التقديم والتأخير، وهو أنهم بحبون المال الجم حبا؛ أي: المال الكثير.
وقوله: { كَلاَّ }؛ ردع وتنبيه:
فمنهم من رد هذا الردع إلى قوله: { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ }، و{ رَبِّيۤ أَهَانَنِ }، فكأنه يقول: كلا ليست هذه الدار دار جزاء؛ فيكون الإهانة والإكرام بحق الجزاء، وإنما هي دار محنة وابتلاء.
ومنهم من حمله على الابتداء، فقال: { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } بمعنى حقا، يخبر عن ندمه في [تركه الإكرام لليتيم]، وترك إطعام المسكين والحض عليه: { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ } أي: دقت وكسرت، وذلك يوم الحساب والبعث.
وقوله: { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } يحتمل أوجها:
أحدها: أن يكون معناه: وجاء ربك بالملك؛ إذ يجوز أن تستعمل الواو مكان الباء؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } [المائدة: 24]، ومعناه: برك، وإذا حصل على هذا ارتفعت الشبهة، واتضح الأمر؛ لأنه لو كان قال: وجاء ربك بالملك، وإذا حمل على هذا ارتفعت الشبهة، واتضح الأمر؛ لأ،ه لو كان قال: وجاء ربك بالملك، لكان لا ينصرف وهم أحد إلى الانتقال من مكان إلى مكان، وقال - تعالى -: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [البقرة: 210]، ومعناه - والله أعلم -: يظلل من الغمام؛ لأنه قال في موضع أخر: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ } [الفرقان: 25]؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا وإذا ثبت هذا ارتفع الريب والإشكال.
ومنهم من ذكر أن معنى قوله: { وَجَآءَ رَبُّكَ }، وقوله:
{ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 210]، أي: أمر الله؛ دليله ما ذكر في سورة النحل قوله: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل: 33]، فذكر مكان قوله: { وَجَآءَ رَبُّكَ }: { أَمْرُ رَبَّكَ }.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَجَآءَ رَبُّكَ }، أي: جاء وعده ووعيده، فنسب المجيء إلى الله تعالى، وإن لم يكن ذلك وصفا له؛ لأنه يجوز أن تنسب آثار الأفعال إلى الله - تعالى - نسبة حقيقة الفعل وإن لم يوصف به، كما قال الله - تعالى -:
{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12] فأضيف النفخ إليه وإن لم يوصف بأنه نافخ، وقال: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المائدة: 45]، فأضيفت الكتابة إليه وإن لم يوصف بأنه كاتب؛ لما أن ما ظهر من آثار فعله، ويقال: المطر رحمة الله؛ أي: من آثار رحمته، لا أن يكون المطر صفة له، ويقال: الصلاة أمر الله، والزكاة أمر الله، أي: بأمر الله نصلي، وبأمره نزكي، لا أن يكونا وصفين له.
ووجه آخر: أن يكمن معنى قوله - تعالى -: { وَجَآءَ رَبُّكَ }، أي: جاء الوقت الذي به صار إنشاء هذا العالم حكمة؛ إذ لولا البعث للجزاء، لكان إنشاء هذال العالم ثم الإهلاك خارجا مخرج العبث؛ لما وصفناه من قبل؛ لقوله:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115]؛ فثبت أن خلقه إما صار حكمة بالبعث، وقال [الله] تعالى: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] وقد كان الملك له قبل ذلك اليوم، ولكن ملكه لكل أحد يتبين في ذلك الوقت، وقال: { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [إبراهيم: 21] وقد كان كل شيء له بارزاً، ولكن معناه: أنه أتى الوقت الذي برز الخلائق.
ثم الأصل في كل ما أضيف إلى الله - تعالى - أن ينظر إلى ما يليق أن يوصل بالمضاف إليه، فتصله به وتجعله مضمرا فيه، قال الله - تعالى -:
{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [المجادلة: 7]، ولم يفهم إثبات الحضور، وكان معناه: أن علمه محيط بهم، وهو مطلع عليهم.
وقال:
{ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [الحشر: 2] [و]لم يفهم به الانتقال؛ بل كان معناه: أنه جاءهم بأسه، وجاء لأوليائه نصره.
وقال:
{ قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [النحل: 26]، ولم يفهم بهذا الإتيان ما فهم من الإتيان الذي ضاف إلى الخلق.
وقال [الله] تعالى:
{ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [محمد: 7]، وكان معناه: إن تنصروا دين الله؛ لا أن الله - تعالى - يلحقه ضعف يحتاج إلى من يقويه.
وقال [الله] تعالى:
{ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران: 28]، وكان معناه: أنه يحذركم عذابه؛ لا أن أريد به تحقيق النفس.
ومثل هذا في القرآن أكثر من أن يحصى؛ فثبت أن محل الإضافات ما ذكرنا؛ فلذلك حمل على الوعد والوعيد، أو على الوقت الذي به صار خلق العالم حكمة، أو على ما صلح فيه من الإضمار.
ومما يدل على أنه لا يفهم بالمجيء معنى واحد، بل يقتضي معاني: أن المجيء إذا أضيف إلى الأعراض، فهم به غير الذي يفهم به إذا أضيف إلى الأجسام؛ فإنه إذا أضيف إلى الأعراض أريد به الظهور؛ قال الله تعالى:
{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } [النصر: 1] ومعناه: إذا ظهر نصره، ولم يرد به الانتقال، ولو كان مضافا إلى الجسم، فهم منه الانتقال من موضع إلى موضع.
وقال الله تعالى:
{ وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } [الإسراء: 81]، ومعناه: ظهر الحق، واضمحل الباطل، لا أن يكون الحق في مكان، فنقل عنه إلى غيره؛ فثبت أن المجيء إذا أضيف إلى شيء وجب أن يوصل به ما يليق به؛ لا أن يفهم به كله معنى واحد.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - حكاية عن الله تعالى -:
"من تقرب إلى شبرا تقرب إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، ومن أتاني ساعيا أتيته هرولة" ولم يفهم من هذا التقرب ما يفهم منه إذا أضيف إلى الخلق، وكان معناه: من تقرب إلى بالطاعة والعبادة تقرب إليه بالتوفيق والنصر أو بالإحسان والإنعام.
وقال موسى - عليه السلام -: "يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟!"، ولم يرد به المكان؛ وإنما أراد بقوله: أراض أنت عني فأناجيك، أو ساخط على فأناديك في أعن أعلن بالبكاء والتضرع؟!
ثم الأصل في المجيء المضاف إلى الله - تعالى - أن يتوقف فيه؛ ولا يقطع الحكم على شيء؛ لما ذكرنا أن المجيء ليس يراد به وجه واحد؛ لأنه إذا إضيف إلى الأعراض أريد غير الذي يراد به إذا أضيف إلى الأجسام والأشخاص، [والله أعلم].
والله تعالى لا يوصف بالجسمية حتى يفهم من مجيئه ما يفهم من مجيء الأجسام، ولا يوصف بالعرض؛ ليراد به ما يراد من مجيء الأعراض؛ فحقه الوقف في تفسيره مع اعتقاد ما ثبت بالتنزيل من غير تشبيه، والله أعلم.
وقوله - عزو جل -: { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }.
قيل فيه من أوجه:
أحدها: أنها ظهرت وبرزت لأهلها، على ما قال في آية أخرى:
{ وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [الشعراء: 91]، لا أنها كانت في مكان فنقلت عنه، وقد يراد بالمجيء الظهور، قال الله - تعالى -: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128]، ومعناه: ظهر لكم، لا أن كان في مكان آخر فجيء به إليهم.
وقال بعضهم: جيء بأهلها إليها - أي: إلى جهنم - فيكون حقيقة المجيء من الأهل، ثم نسب إليها؛ لأنهم إذا أتوها فقد أتتهم هي، وهو كقوله:
{ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [مريم: 61]؛ فنسب الإتيان إلى الذي يأتيه الوعد؛ فيكون الوعد هو الذي يأتي أهله.
وقال بعضهم: { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }، أي: يجيء زفرتها وشهيقها وتغيظها على أهلها، لا أن تغير عن مكانها.
ومنهم من حمله على حقيقة المجيء؛ فذكر أنه يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، على كل زمام سبعون ألف ملك، والله أعلم بذلك.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ } يحتمل أن يتذكر إشفاق الأنبياء - عليهم السلام - ونصحهم لهم؛ فيعلم أنه كان فيما توهم بهم من الظنون الفاسدة مبطلا؛ فيكون تذكره ذلك تصديقا منه للرسل، عليهم [السلام].
{ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ }، أي: لا ينفعه تصديقه إياههم، إذ لم يصدقهم في الدنيا.
أو يتذكر في أن يتلهف على ما فرط في جنب الله من التقصير في حقوقه، والتضييع الذي سبق منه حيث لم يشكر نعمه، ولم يوجه إليه العبادة؛ فيكون تلهفه ذلك إيمانا، ولكن لا ينفعه تلهفه في ذلك الوقت؛ لأن تلك الدار ليست بدار امتحان، بل هي دار جزاء، والذي يحمله على التصديق مشاهدته الجزاء والحساب، وعند المشاهدة ترتفع المحنة، ويكون إيمانه ذلك ضروريا لا حقيقة؛ فلذلك لا ينفعه، وإنما ينفعه الطاعة وقت ملكه نفسه، فأما إذا خرج ملك نفسه من يده، لم يقع له بالإيمان جدوى.
وقال بعضهم: { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ }، أي: يتعظ، { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ }، أي: أنى له الانتفاع بالموعظة.
ثم في هذا التذكير بيان لطف منا لله تعالى بعظته حتى يتذكر، وإلا فالإنسان يذهب عليه ما قد كتبه في وقت إذا أتى عليه حين، حتى لو أراد أن يتذكر وقت كتابته لم يقدر عليه، ثم الله - تعالى - يذكره في الآخرة جميع ما سبق منه في الدنيا فيتذكر ذلك؛ فيقول: { يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }، أي: يا ليتني قدمت لنفسي حياة تسلم لي، أو حياة تبقى لي لذتها، فهذا هو تلهفه وتذكره في ذلك اليوم، يتلهف على ما فاته من الخيرات، ويندم على ارتكابه المعاصي وكفرانه نعم الله تعالى.
ومعنى قولنا: حياة تسلم لي؛ فأتلذذ بها: هو أن الكافر، وإن كانت له حياة في الظاهر، فإنما حياته للتعذيب، فتلك له في الحقيقة ليست بحياة، بل هي إ هلاك؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أخذ في النزع فهو في ذلك الوقت حي بعد، لكن حياته للأهلاك، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها إهلاك فعلى ذلك الوقت حي بعد، لكن حياته للإهلاك، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها أهلاك فعلى ذلك حياة المخلد في النار.
وقوله - عزو جل -: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ }:
قرئت هذه الآية على نصب الذال والثاء، وعلى الخفض فيهما:
فمن قرأهما على الخفض فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن العذاب في الدنيا وإن اشتد من الملوك على الإنسان، فهو لا يبلغ عذاب الله تعالى لأعدائه في الآخرة وإن خف.
أو { لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ }، أي: لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يعذب أحدا بعذاب الله - تعالى - وهو النار، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يعذب أحد بعذا الله تعالى" وإن كان على النصب، فهو يحتمل وجهين أيضا:
أحدهما: أن يكون التأويل منصرفا إلى صنف من الكفرة، وهم الذي بلغوا في الكفر أعلى مراتبه؛ فلا يعذب من دونهم بعذابهم.
والثاني: ألا يعذب أحد مكان أحد كما يفعله ملوك الدنيا في أنهم يعذبون الوالد مكان الولد، ويعذبون من يتصل بالذين استوجبوا العذاب.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ }:
فالمطمئنة: هي الساكنة التي لا ترتاب، ولا تضطرب؛ فتكون طمأنينتها بوعد الله ووعيده، وأمره ونهيه، وتوحيده.
ثم يجوز أن يكون هذا في أمر الدنيا؛ فيكون قوله - عز وجل -: { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ }، أي: ارجعي إلى ما أمرك ربك { رَاضِيَةً } بوعد الله ووعيده؛ فتكون راضية بالذي وعد لها في الآخرة جزاء لكدحها وسعيها في الدنيا، { مَّرْضِيَّةً } عند الله تعالى.
{ فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي }، اي: مع عبادي الصالحين.
{ وَٱدْخُلِي جَنَّتِي }، أي: ادخلي فيما يستوجب به الجنة.
وجائز أن يكون هذا في الآخرة، وهو: أن يقال للنفس التي اطمأنت في الدنيا بوعد الله ووعيده، وعملت بطاعته: { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي * وَٱدْخُلِي جَنَّتِي }.
وقيل: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } بالدنيا { ٱرْجِعِي } إلى طلب الآخرة، وما أعد الله تعالى لأوليائه فيها.
وقيل: { ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } على عباده، { ٱرْجِعِي } إلى طاعة الله تعالى؛ فإنك إذا فعلت ذلك، رضي الله تعالى عنك، ورضيت بعطاء الله تعالى وثوابه إياك في الآخرة، والله أعلم [بالصواب، وإليه المرجع و المآب].