التفاسير

< >
عرض

وَٱلْفَجْرِ
١
وَلَيالٍ عَشْرٍ
٢
وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ
٣
وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ
٤
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
٥
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
٦
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ
٧
ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ
٩
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ
١٠
ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١١
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ
١٢
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
١٣
إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ
١٤
-الفجر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ } كان العرب من عادتهم أنهم إذا استحسنوا شيئا عظموه، وإذا عظموه أقسموا به.
ثم - إن الله - تعالى - جعل في الحج وأوقاته لطائف من الحكمة وعجائب من التدبير، فمن لطيف حكمته وعجائب تدبيره أنه جعل المكان الذي يحج فيه مأمنا للخلق من وجه لا يعرف الخلائق المعنى الذي به وقع الأمن والإلف بين الخلق؛ حتى رغبوا جميعا في الاجتماع هنالك مع تباغضهم وتعاديهم فيما بينهم من وجه لا يدرك معناه، وجعل أهلها يتقلبون في البلاد آمنين؛ حتى قال - عز وجل - لنبيه - عليه السلام -:
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } [آل عمران: 196] [و]سخر أهل الآفاق في حمل ما يقع لأهل مكة إليه حاجة من الميرة وغيرها، وجعلهم بحيث يرغبون في الإتيان إليها مع عظم ما يلزمهم من المؤن في الإيتان إلى مكة للحج؛ فثبت أن فيها معاني ولطائف هي خارجة عن قواهم وتدبيرهم؛ فكان في ذكرها ما يوجب القول بالقدرة على البعث، ويزيل عنهم الشبهة في أمرهم؛ فأقسم لما عظم من شأنها لمكان أنها أوقات الحج، فعامة أركان الحج تؤدى فيها، وعادة العرب أنهم يقسمون بآبائهم وأجدادهم وأصنامههم؛ لما هي معظمة عندهم، وهذه الأشياء معظمة عندهم؛ فجربى القسم بها؛ جريا على عادتهم، ويدخل في أوقاتها الشفع والوتر والفجر، فقالوا: الشفع: يوم النحر؛ لأنه اليوم العاشر من الشهر، والوتر يوم عرفة؛ لأنه اليوم التاسع.
وجائز أن يكون أريد بالشفع والوتر والليل إذا يسر: العبادات جملة إذ ما من عبادة إلا وفيها شفع ووتر.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ }، أي: يُسرى بها، وفي ذلك كناية عن الجهاد والإغارة بالليل، كما يذكر في قوله:
{ وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } [العاديات: 1-3]؛ فيكون هذا كله إشارة إلى جملة العبادات.
ووجه القسم بالعبادات: أن الله - تعالى - عظم أمر العبادات في قلوب الخلائق؛ حتى تراهم جميعا يستحسنونها ويعظمون أمرها، وإنما يقع الاختلاف بينهم في ماهيتها - إلا أن يقع التمانع بينهم في أنفسها - فأقسم بها.
وجائز أن يكون أريد بالوتر هو الله تعالى، وأريد بالشفع الخلائق؛ إذ خلقهم أزواجا، والله تعالى هو الواحد بذاته؛ فيكون القسم بذاته وبجميع الخلق.
ويحتمل أنه أريد بالشفع والوتر [الخلائق جملة؛ إذ فيهم المعنيان جميعا: الشفع، والوتر؛ فيكون قسما بجميع الخلائق].
وقوله - عز وجل -: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } يحتمل أن يكون تأويله: أن وجه القسم بهذه الأشياء يعرفه ذوو الحجر، وهم ذوو الألباب والحجا، لا أن يعرفه الجهلة.
قالوا: وموضع القسم على قوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ }.
وجائز أن يكون وقع التنازع فيما بينهم، وكانوا يزعمون أن أوقات الحج، وهي الليالي العشر، والشفع والوتر، ليس يقسم بها؛ فقال: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ }، أي: للعاقل إذا تدبر فيها عرف أن هذه الأوقات بالتي تحتمل أن يقسم بها أو هذه الأوقات بالتي تدلهم على القول بالبعث.
وقيل: إنما أقسم بهذه الأيام؛ لعظم قدر هذه الأيام وخطرها عندهم؛ لما فيها من صلاح معايشهم، ويكن لهم فيها سعة العيش: أما الفقراء بالهدايا والبدن، وأما غيرهم بأنواع المكاسب والتجارات؛ فإنهم كانوا يستعدون الأشياء، ويهيئون من السنة إلى السنة للتجارة في هذه الأيام؛ فأقسم الله - تعالى - بهذه الأيام لكونها معظمة عندهم.
وقيل: إن موضع القسم غير مذكور في هذه السورة؛ لأنه كان على أثر حادثة عندهم معروفة، استغنى عن ذكرها؛ لشهرتها عندهم؛ فأقسم أنها لحق، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } في [ذكر نبأ] عاد وثمود وفرعون فوائد ثلاث:
إحداها: في موضع التخويف لأهل مكة الذين كذبوا رسوله - عليه السلام - و[هو] أن أولئك القوم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا، وأكثر من القوة من هؤلاء الذين كذبوا محمد [عليه أفضل الصلوات]، فلم يغنهم ذلك لكه من الله تعالى شيئا؛ بل الله تعالى انتقم منهم لرسله - عليهم السلام - بما كذبوهم، فما بال هؤلاء الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخافون مقته وحلول النقمة بهم بتكذيبهم رسوله، وليسوا بأكثر من أولئك في العدد والمال والقوة؟!
وفائدة أخرى: أن أولئك كانوا يزعمون أنهم بالله - تعالى - أولى من محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه؛ لما بسط لهم من النعيم، وضيق على الرسول وأتباعه؛ فبين أن الذين تقدمهم من مكذبي الرسل كانوا أرفع منهم في القوى والأموال والأولاد والأعداد، وكانت رسلهم في ضيق من العيش، ثم كانوا هم أولى بالله تعالى من المكذبين المفتخرين بكثرة الأعداد والقوى؛ فبين لهم هذا ليلعموا أن ليس الأمر على ما ظنوا وحسبوا.
والثالثة: أنهم كانوا يمتنعون عن الإيمان بالله تعالى وبرسوله، وكانوا يقولون:
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23]؛ فيكن في ذكر هذا نفي التقليد لأولئك؛ لأنه كان في آبائهم من أهلك بتكذيبهم الرسل، وهم الفراعنة وأتباعهم، وفيهم من نجا، وهم الرسل وأتباعهم المصدقون لهم، فما بالهم قلدوا المهلكين منهم دون الذين نجوا؟!.
ثم الآية لم تسق؛ لتعرف نسب عاد وثمود وفرعون حتى نشتغل بتعرفة، وإنما سيقت للأوجه التي ذكرنا؛ فالاشتغال بتعرف أنسابهم وأحوالهم نوع من التكلف.
وقوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } فقوله: { أَلَمْ تَرَ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: قد رأيت؛ أي: علمت؛ كما يقال في الشاهد: ألم تر إلى ما فعل فلان؛ أي: قد رأيت وعلمت، فتخبره بصنيعه على جهة التشكي منه.
ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إعلام منه، فيقول له: اعلم أن ربك فعل بعاد كذا.
واختلفوا في قوله: { إِرَمَ }:
فقال بعضههم: هو أبو عاد.
وقال بعضهم: أبو القبيلة؛ فنسبت إليه عاد؛ كما يقال: هو من بكر بن وائل، وإن لم يكن ابنه.
وقال بعضهم: الإرم مساكن عاد.
وقيل: هو اسم الذي بنى تلك الأماكن.
وقوله - عز وجل -: { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ }: قال بعضهم: ذات الأجساد الطوال، أي: عاد ذات الأجساد الطوال، كما ذكر في القصة.
وقال بعضهم: ذات البناء المشيد المرفوع في السماء كالعمد الطوال؛ فيرجع إلى الإرم على تأويل من جعله عبارة عن المساكن.
وقال بعضهم: ذات العماد هي الخيام لها أطناب وعمد، وكانوا أصحاب خيام وقباب، وكانت مساكنهم مرفوعة بالعماد.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ }:
قال بعضهم: هذا وصف القوم بالشدة والقوة وعظم الخلقة، وفضل البصر في الأمور؛ كقوله - تعالى -:
{ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً } [الأعراف: 69]، وقال حكاية عنهم: { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت: 15] وقال - تعالى -: { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [العنكبوت: 38] فوصفهم بفضل البصر.
وجائز أن يكون أريد بها المساكن التي بنوها أن ليس مثلها في البلاد.
وقوله - عز وجل -: { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ }:
قال بعضهم: اتخذوا من الصخور جوابي - أي: قصاعا - كما قال تعالى:
{ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ } [سبأ: 13].
وقال بعضهم: قطعوا في الصخور بيوتا؛ كقوله:
{ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } [الحجر: 82]؛ فيكون في هذا إخبار عن قواهم وشدتهم.
وقوله - عز وجل -: { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ }:
قال بعضهم: سماه: ذات الأوتاد، والوتد: الحبل.
وقال بعضهم: سمي: ذات الأوتاد؛ لأنه كانت له أوتاد نصبها لتعذيب من غضب عليه.
وقال بعضهم: إنه كان نصب على الطرق أناسا، على كل طريق إنسانا راصدا وحافظا.
وقيل: أي: ذو قصور وبنيان مشيدة مرفوعة تشبه الجبال؛ إذ هي أوتاد الأرض.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ }: طغيانهم في البلاد: تمردهم وعتوهم فيها.
وقوله: { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ }:
قال بعضهم: عذبهم بسوطهم الذي كانوا به يعذبون الخلق، ويضربونهم.
وقال أبو بكر الأصم: إن السوط لون من العذاب؛ فعذب عاداً بلون منه، وعذب ثمود بلون منه، وفرعون وأتباعه بلون منه.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ }:
قال أبو بكر الأصم: يرصد عذابه بأعدائه ينتظر به آجالهم، ثم يوقع بهم العذاب إذا أتى الأجل.
وعندنا: أنه يرصد عليهم [ما عملوا]، فلا يشتد عليه، ولا يعزب عنه شيء من علمهم؛ بل يحفظ عليهم ما استتر منه وما ظهر.
وقيل: أي: لا يجاوزه ظلم ظالم، ولا يفوته هارب.
ثم لم ينصرف وهم أحد في قوله - تعالى -: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } إلى إتيان مكان، فما بال بعض الناس انصرف وهمهم في قوله:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه: 5] على جعل العرش مكانا له.