التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٧٥
فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ
٧٦
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
٧٧
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٧٨
-التوبة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ... }:
قال بعضهم: نزلت الآية في ثعلبة بن حاطب، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله ليرزقه مالاً، وقال: { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ }.
ومنهم من قال: إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، أنه كان له أموال في الشام، فقال: لئن آتاني تلك الأموال لأصدقن وأكن من الصالحين، فقد آتاه الله تلك الأموال، فبخل ومنع ما وعد.
ومنهم من قال: نزلت في المنافقين جملة، ولكن ليست في شأن واحد منصوص مشار إليه، ولكن في المنافقين جملة، وهكذا كانت عادتهم أنهم إذا وعدوا شيئاً أخلفوا ولم يوفوا الوعد.
ثم يحتمل قوله: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } أنه كان منافقاً وقت ما وعد الله، ووعد الله لئن أتاه من فضله ليصدقن، ويحتمل أنه لم يكن منافقاً في ذلك الوقت، لكنه صار بما بخل وكذب واعتقد الخلاف واستحل الخُلْف لما وعد - منافقاً، فإن كان إنما صار منافقاً بما بخل واستحل الخلاف له والمنع؛ فيكون قوله: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } أي: أعقبهم الدوام على النفاق إلى يوم القيامة ببخلهم ومنعهم ما وعدوا؛ فيكون هذا كقوله: { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ... } الآية.
وفي قوله: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } إلى قوله: { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } دلالة أن النذور يلزم أهلها الوفاء بها، ويؤاخذون بها إن تركوا الوفاء، ويكفرون إن استحلوا نقض ما عاهدوا.
وقوله: { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } قال بعضهم: من المؤمنين، فهو على تأويل من قال: إنه كان منافقاً وقتئذ. ويحتمل { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي: من الشاكرين. وكذلك ذكر في الخبر أن ثعلبة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله له مالاً فقال: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي حقه. أو كلام نحو هذا.
وقوله: { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }.
يحتمل: تولوا عن وفاء ما وعدوا، أو تولوا عن طاعة الله، { وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }: أيضاً عن طاعة الله، أو معرضون عما وعدوا وعاهدوا أن يوفوا.
وقوله: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ }:
قال بعضهم أثابهم نفاقاً بما بخلوا به إلى يوم القيامة.
وقال بعضهم: أعقبهم الدوام على النفاق { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [التوبة: 77].
ينبغي للمسلم أن يجتنب الكذب والخلف في الوعد؛ فإنه سبب النفاق أو نوع من النفاق، [و] على ذلك روي في الخبر:
"أن اجتنبوا الكذب؛ فإنه باب من النفاق، وعليكم بالصدق؛ فإنه باب من الإيمان" ، وفي بعضها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وفي بعضها: وإذا اؤتمن خان" .
فإن قيل: إن أولاد يعقوب اؤتمنوا فخانوا، وحدثوا فكذبوا بقولهم: { أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } [يوسف: 14]، ووعدوا فأخلفوا، فترى أنهم نافقوا؟
قيل: ما روي أن من إذا حدث كذب هو الكذب في أمر الدين، وأما الكذب في غير أمر الدين فإنه لا يوجب النفاق.
وفي الآية دلالة ألا ينص بالسؤال في شيء على غير الخبر في ذلك من الله؛ ألا ترى أن ثعلبة لما ألح على الرسول صلى الله عليه وسلم بالسؤال أن يسأل ربه ليرزقه مالاً ففعل، فأعقبه الله نفاقاً إلى يوم القيامة؟!
ولأن أولاد يعقوب قد قدموا التوبة والإصلاح قِبَلَ صنيعهم الذي صنعوا على خوف منهم بما فعلوا والمنافقين، وأصله: أن اعتقاد الكذب، واستحلال الخلاف لما عهد، والخلف في الوعد - هو الموجب للنفاق، فأما ترك الوفاء على غير استحلال منه فلا يوجب ما ذكر، والله أعلم.
وقوله: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ }:
يحتمل هذا وجهين:
أن قد علموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم؛ لكثرة ما يطلع رسوله على ما أسروا من الخلاف له وذكرهم السوء في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ألم يعلموا أي: الذين نافقوا أن يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم، فيطلع رسوله على سرهم ونجواهم فيتركوا الطعن في رسول الله، وذِكْرِ ذلك والخلاف له.
وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }.
أي: علام بالغيوب التي غاب عن الخلق، وإلا ليس شيء يغيب عنه، ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنده بمحل واحد. أو { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }، أي: علام بما يكون أبداً في جميع الأوقات التي تكون. [و] فيه دلالة أنه عالماً بما في الضمائر والسرائر وما كان غائباً عن الخلق والغيب: هو ما علم أنه يكون له أنه كان ولم يزل عالماً؛ لما ذكرنا.