التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٠
لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩١
وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
٩٢
-التوبة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ }.
قال بعضهم من أهل التأويل: المعذرون هم الذين يستأذنون في القعود ولا عذر لهم في ذلك.
وقال الكلبي: المعذرون هم الذين لهم عذر وبهم علة.
وبعضهم قال: المعذرون: هم المعتدون.
[و] روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قرأ "المعذرون" بالتخفيف، وقال: لعن الله المعذِّرين؛ كأنه ذهب إلى أن المعذر هو الذي له عذر، والمعذِّر بالتشديد: الذي لا عذر له؛ لذلك لعن المعذِّر.
قال أبو معاذ: وأكثر كلام العرب المعذر الذي له عذر، وهو قولهم: قد أعذر من أنذر.
وقال أبو عوسجة: - المعذر بالتشديد -: الذي لا يناصح، إنما يريد أن يعذر، ويقال: عذرت في الأمر: إذا لم تبالغ فيه؛ وأعذرت في الأمر، أي: بالغت فيه.
وقال القتبي: المعذرون - بالتشديد -: هم الذين لا يجدون [ما ينفقون]، إنما يعرضون ما لا يريدون أن يفعلوه؛ يقال: عذرت في الأمر: إذا قصرت، وأعذرت: جددت.
ثم قال بعض أهل التأويل: دل هذا على أن أهل النفاق كانوا صنفين: صنف كانوا يستأذنون [في] القعود، وصنف لا يستأذنون، ولكن يقعدون بقوله: { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ }.
دلّ قوله: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } على أن من أهل النفاق من قد آمن، وأن من تاب يقبل ذلك منه؛ لأنه قال: { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ولم يقل: سيصيبهم عذاب أليم.
وقال بعضهم: المعذرون - بالتخفيف -: هم المؤمنون الذين لهم عذر في التخلف، أتوا رسول الله لينظر في أمرهم الأوفق: إن كان الخروج لهم أوفق يخرجون، وإن كان القعود أوفق يقعدون؛ يدل على ذلك الآية التي تتلو هذه وهي قوله - عز وجل -: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } الآية.
فإن قيل: كيف احتمل أن تكون آية واحدة في فريقين مختلفين، إذا قرئ بالتخفيف فهي في الذين لهم عذر، وإذا قرئ بالتشديد فهي في الذين لا عذر لهم؟
قيل: تصير على اختلاف القراءة كآيتين في حالتين ووقتين مختلفين، إن كان تأويل المعذر بالتشديد هو الذي يعتذر ولا عذر له، والمعذر - بالتخفيف - هو الذي له عذر.
أو كان تأويل إحدى القراءتين على ضد الأخرى كان لهم عذر في حال، ولا عذر لهم في حال أخرى، وإلا لا يحتمل أن تكون القراءتان جميعاً في وقت واحد، وتأويلهما على الاختلاف الذي ذكروا، وهو كقوله:
{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ: 19] و{ رَبَّنَا } بالرفع { بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ: 19] أحدهما: على الدعاء، والآخر: على الإيجاب، هما آيتان صارتا آية واحدة لاختلاف القراءة، والله أعلم.
وقوله: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ }.
لو لم يذكر المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون، لكان المفهوم من قوله: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ } المرضى والذي لا يجد ما ينفق.
وكذلك إذا ذكر المريض كان في ذكره ما يفهم منه كل ضعيف، وكل ما لا يجد ما ينفق.
وفي كل حرف من هذه الحروف ما يفهم منه معنى الآخر، فلما ذكر دل أن المراد من ذكر الضعفاء الزمنى؛ من نحو الأعمى والأعرج، فكان كقوله:
{ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ } [النور: 61]، فتكون الآيتان واحدة؛ أعني: معناهما واحد.
وفيه دلالة أن ليس في ذكر عدد من الأشياء حظر دخول غير المذكور في حكم المذكور إذا كان في معناه؛ ولهذا قال أصحابنا: إنه ليس فيما ذكر رسول الله عدد في الربا بقوله:
"والحنطة بالحنطة، والذهب بالذهب، والفضل ربا" على أنه لا لمعنى ورد،
ولا يدخل فيه ما لم يذكر؛ لما ذكرنا أنه لو ذكر الضعفاء لذكر المريض، والأعمى، والأعرج، وجميع من ضعف عن الخروج من أنواع الأعذار، ثم لم يدل ما ذكر من العدد وتخصيصه على أنه لا لمعنى ذكر؛ فعلى ذلك خبر الربا.
ثم جعل العمى والعرج والمرض وعدم النفقة ونحوه عذراً في ترك الخروج، ولم يجعل شدة الحر وبعد المسافة ونحوه عذراً بقوله:
{ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } [التوبة: 81].
وأصله - والله أعلم -: أن كل ما لم يعمل في المنع عن الخروج لشهوة، أو لطمع يرجو نيله من التجارة ونحوها - لم يكن ذلك عذراً في ترك الخروج؛ إذ شدة الحرّ وبعد السفر وخوف العدوّ مما لا يمنعهم عن الخروج للتجارة، فلم يصر ذلك عذراً في التخلف عن الخروج للجهاد، وأما حال المرض والزمانة وعدم النفقة فيمنعهم ويعجزهم عن الخروج في كل ما يهوون ويشتهون، فصار ذلك عذراً لهم بالتخلف عن الخروج للجهاد.
والثاني: أن كل ما يقدر على دفعه بحال لم يجعل ذلك عذراً في التخلف، وكل ما لا سبيل لهم إلى دفعه فهو عذر، والحر وبعد السفر وخوف العدو يجوز أن يدفع فيصير كأن ليس، وهو ما ذكر:
{ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } [التوبة: 81]، فإذا ذكر شدة حر جهنم وبعد سفر الآخرة وأهواله، هان عليه الخروج وسهل، فارتفع ذلك؛ فلذلك صار أحدهما عذراً والآخر لا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }.
قيل: لم يخدعوا أحداً في دينه، ولم يغشوه في دنياه.
وقيل: { إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }، أي: أطاعوا الله ورسوله في الحضرة، ولم يتركوا طاعته.
[وقوله: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } أي: ما على المحسنين من سبيل في تركهم الخروج إذا لم يقدروا على الخروج؛ لما ذكرنا من الزمانة وعدم ما ينفقون].
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
بتركهم الخروج وتخلفهم عن الجهاد مع أصحاب الأعذار.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ }.
ذكر في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لولا أن أشق على أمتي - أو قال: على المؤمنين - وإلا لخرجت في كل سرية بعثتها" ؛ لأنهم لا يجدون ما ينفقون فيخرجون ولا أجد ما أحملهم عليه، فيشق عليهم مفارقتهم إيانا، فلا حرج بتركهم الخروج إذا لم يجدوا ما ينفقون ولا [ما] يحمل عليه.