التفاسير

< >
عرض

وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ
١
وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ
٢
وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
٤
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ
٥
وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٦
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ
٧
وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ
٨
وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٩
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ
١٠
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ
١١
-الليل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } جعل الله - تعالى - الليل والنهار آيتين عظيمتين ظاهرتين مكررتين على الخلائق ما يعرف [كل] كافر ومؤمن، وجميع أهل التنازع الذين ينازعون أهل الإيمان والتوحيد من الجبابرة والفراعنة.
والقسم بالليل والنهار، القسم بقوله:
{ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 1-2] واحد.
وقد ذكرنا أن القسم إنما ذكر في تأكيد ما يقع به القسم، ما لولا القسم كان ذلك يوجب دون القسم؛ وذلك لعظم ما فيهما؛ تى قهرا جميع الفراعنة والجبابرة، وغلبا عليهم في إتيانهما وذهابهما، حتى أن من أراد منهم دفع هذا ومجيء هذا، ما قدروا عليه.
وفيهما دلالة وحدانية الله - تعالى - وألوهيته، وقدرته، وسلطانه، وعلمه، وتدبيره، وحكمته:
أما دلالة وحدانيته وألوهيته: اتساقهما وجريانهما على حد واحد وسنن واحد مذ كانا وأنشئا من الظلمة والنور، والزيادة والنقصان؛ فدل جريانهما على ما ذكرنا أن منشئهما واحد؛ إذ لو كان فعل عدد، لكان إذا جاء هذا، وغلب الآخر، دامت غلبته عليه، وكذلك الآخر يكون مغلوبا أبدا، والآخر غالبا؛ فإذا لم يكن ذلك، دل أنه فعل واحد.
ويدل - أيضا - على أن ليس ذلك عمل النور والظلمة، على ما تقوله الثنوية.
ودل اتصال منافع أحدهما بمنافع الآخر على [أن] ذلك علم واحد لا عدد.
ودل اتساق ما ذكرنا، ودوامهما على حد واحد على الاستواء أن منشئهما مدبر عليهم، عن تدبير وعلم خرج ذلك لا على الجزاف بلا تدبير.
ودل مجيء كل واحد منهما بطرفة عين على أن منشئهما قادر لا يعجزه شيء من بعث ولا غيره.
ودل ما ذكرنا أن فاعل ذلك حكيم، على حكمة خرج فعله، لا يحتمل أن تركهم سدى لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بأمور.
وكذلك جعل فيما ذكر من الذكر والأنثى من الدلالات والآيات من الازدواج والتوالد والتناسل وغير ذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ }:
قال بعضهم: إن حرف (ما) متى قرن بالفعل الماضي، صار بمعنى المصدر؛ كأنه قال: وخلق الذكر والأنثى؛ فيكون قسما بجميع الخلائق، إذ لا يخلو شيء من أن يكون ذكرا وأنثى.
وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (والذكرِ والأنثى)، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك.
وقال بعضهم: (ما) هاهنا بمعنى "الذي"؛ كأنه قال: والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون على هذا الوجه القسم بالله تعالى، وعلى التأويل الأول بالذكر والأنثى.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ }:
قالوا: على هذا وقع القسم، فإن قيل: إن كلا يعلم من كافر ومؤمن أن سعيهم لمختلف؛ فما الحكمة والفائدة من ذكر القسم على ما يعلم كل ذلك؟
فالوجه فيه - والله أعلم -: [أن] ما يقع لهم بالسعي، وما يستوجبون به لمختلف في الآخرة، وهو جزاء السعي؛ كأنه قال: إن جزاء سعيكم وثوابه لمختلف، وذلكأ نهم كانوا يقولون: إن كانت دار أخرى على ما يقوله محمد - عليه الصلاة والسلام - فنحن أحق بها من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كقوله:
{ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36].
أو يكون قوله: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ }؛ لأن المعطي في الشاهد ينفع غيره، ويضر نفسه في الظاهر، والممسك ينفع نفسه، ثم المعطي محمود عند الناس؛ فلو لم يكن عاقبة ينتفع المعطي بما أعطى، ويضر البخيل المنع، لكان الناس بما حمدوا هذا وذموا الآخر سفهاء؛ فدل أن العاقبة هي التي تصير هذا محمودا.
ولأن الخلق جميعا من مسلم وكافر، ومحسن ومسيء، قد استووا في نعم هذه الدنيا ولذاتها مما ذكرنا من ممر الليل والنهار [و] مما يخلق فيها من النبات والثممار والعيون والأشجار، فإذا وقع الاستواء في هذه الدار، وبه وردت الأخبار عن النبي المختار أن الناس شركاء في الماء والكلأ والنار - لا بد من دار أخرى للأشيقيا والأبرار؛ ليقع بها التفاوت [بين الأبرار] والأشرار، والنافع منهم نفسه والضار، وإذا ثبت أنهما استويا في منافع الليل والنهار، وجميع ما في الدنيا من الأنزال وغيرها، فإذا وقع الاستواء بينهم في الدنيا لا بد من دار أخرى [فيها] يقع التفاوت والتفاضل بينهم، وفيها يميز بين ما ذكرنا.
ثم بين أن السعي الذي يقع الجزاء له مختلف، ما ذكر بقوله: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ }، وهو يخرج على وجوه:
يحتمل { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ }، أي: أعطى ما أمره به، واتقى عصيانه وكفرانه نعمه، أو اتقى المنع، أو من أعطى التوحيد لله - تعالى - من نفسه، واتقى الشرك والكفران لنعمه، وصدق بموعود الله - تعالى -: { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ }: للأعمال والشرائع؛ إذ نشرح صدره للتوحيد والإسلام ونيسره عليه.
{ وَأَمَّا مَن بَخِلَ }، ولم يأت بالتوحيد، { وَٱسْتَغْنَىٰ } عن الله - تعالى - بما عنده، { وَكَذَّبَ } بموعود الله { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ }؛ لما بعده من الأعمال، والله أعلم.
والثاني: في حق القبول والعزم على وفاء ذلك بقوله: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ }، أي: قبل الإعطاء، وعز على وفاء ذلك، { وَٱتَّقَىٰ }، أي: عزم [على] اتقاء معاصي الله - تعالى - ومحارمه.
{ وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ }، أي: بموعوده؛ { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ }، أي: سنيسره لوفاء ما عزم [عليه]، { وَأَمَّا مَن بَخِلَ }، اي: عزم على البخل والمنع بذلك، { وَٱسْتَغْنَىٰ } بالذي له وعنده، { وَكَذَّبَ } بموعود الله تعالى { فَسَنُيَسِّرُهُ } لوفاء ما عزم [عليه] من الخلاف لله تعالى والمعصية له.
وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك؛ فقال:
"كل ميسر لما خلق له" ، أو قال: "كل ميسر لما عمل" .
والثالث: يخرج على حقيقة إعطاء ما وجب من الحق في المال وحقيقة المنع؛ يقول: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } ما وجب من حق الله - تعالى - في ماله، { وَٱتَّقَىٰ } نقمة الله ومقته وعذابه، { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ }، أي: بموعود الله تعالى، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } في الخيرات والطاعات. { وَأَمَّا مَن بَخِلَ }، أي: منع حق الله - تعالى - الذي في ماله، { وَكَذَّبَ } بالذي وعد على ذلك، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } ي الإفضاء إلى ما وعد.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ }:
قيل: إذا هلك ومات، أو تردى في النار.
وفي ظاهر قوله - تعالى -: { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ } دلالة على أن الآية في حقيقة الإعطاء من المال والمنع.
وقوله - عز وجل -: { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ }، قال بعضهم: بالجنة.
وقيل: بشهادة: أن لا إله إلا الله.
وقيل: بالخلف على ما أنفق.
وجائز أن تكون "اليسرى" اسم للجنة وكذلك "الحسنى". و"العسرى" و"السوءى": النار.
ويحتمل أن تكون "اليسرى" اسما لكل ما طاب وحسن من العمل، و"العسرى": ما خبث، وقبح من العمل.
ومنهم من قال: إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنه اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشرة أواقٍ، فأعتقه لله - تعالى - فأنزل الله تعالى: { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ... } إلى قوله: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ }، يعني: سعي أبي بكر وأمية وأبي.
وذكر إلى آخر السورة: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ }: أبو بكر، رضي الله عنه، { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ }: أمية بن خلف، وأبي بن خلف؛ يرويه عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.