التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ }:
هذا يخرج على وجوه:
أحدهما: جائز أن يكون قوله: { عَلَيْنَا }، أي: لنا، وذلك جائز في اللغة جار؛ كقوله - تعالى -:
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3]، أي: للنصب، وكقوله - تعالى -: { وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } [الرعد: 40]، و { عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [الغاشية: 26]، أي: لنا محاسبتهم، وقوله - تعالى -: { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } [النحل: 9]، أي: لله قصد السبيل، وكقوله - تعالى -: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } [الأنعام: 30]، أي: لربهم، كما قال: { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [المطففين: 6]، ونحو ذلك كثير أن يكون "علينا" بمعنى "لنا"؛ فيصير كأنه قال: إن لنا للهدى؛ كقوله: { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر: 3]، وكقوله: { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } [النحل: 52]، ويكون فيه إخبار أن الهدى له والدين الخالص له، وأما سائر الأديان - فلما هي سبل الشيطان - ليست لله تعالى.
على هذا جائز أن يخرج تأويل الآية، والوجهان الآخران يخرجان على حقيقة "على"، لكن أحدهما يخرج ذكر الهدى على إرادة البيان وتبيين الطريق، والآخر على إرادة حقيقة الهدى، الذي هو ضد الكفر ومقابله.
فأما على إرادة البيان؛ فكأنه قال: إن علينا غاية البيان في حق الحكمة والعدل فيما يمتحنن، حتى إن كان التقصير والتفريط فإنما يكون من قبل أنفسهم، لا من قبل الله تعالى، أي: يبين لهم كل شيء غاية البيان ونهايته؛ لتزول الشبهة عنهم، والله أعلم.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن يقول: إن علينا هداية من استهدانا واجتهد ي طلبها؛ كقوله:
{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69].
ووجه آخر: إن علينا إنجاز ما وعدنا على الهدى لمن اهتدى واختاره يخرج تأويل الآية على إرادة البيان من الوجوه التي ذكرنا.
وأما على إرادة حقيقة الهدى الذي هو مقابل الكفر؛ فكأنه قال: إن علينا التوفيق والمعونة والعصمة في حق الإحسان والإفضال، لا على أن ذلك عليه لهم.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن علينا بيان ما للآخرة والأولى؛ كى لا يزول عن قصد الطريق؛ فيهلك نفسه في كل مضيق".
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ }:
فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول - والله أعلم: إنكم تعلمون أن لنا الآخرة والأولى، وليس لما تعبدون من الأصنام والأوثان [لا آخرة ولا أولى]، فكيف صرفتم عبادتكم عمن له الآخرة والأولى إلى من ليس له [الآخرة والأولى]، على علم منكم بذلك؟ يسفههم في اختيارهم عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى.
والثاني: يقول - والله أعلم -: إن لنا الآخرة والأولى؛ فما بالكم تبخلون بالإنفاق على أنفسكم، وما يرجع منفعته إليكم، بما ليس لكم في الحقيقة، وإنما هو الله تعالى؟! وهذا التأويل صلة قوله - تعالى -:
{ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ... } الاية [الليل: 8]، والأول يكون صلة قوله: { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ }؟
وقوله - عز وجل -: { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ }، أي: نارا تتوقد، وتتلهب، أو تتشعب، وعلى ما ذكر من صفتها.
ثم ذلك الإنذار يكون للفريقين: لأهل التوحيد، ولأهل الشرك جميعا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ }.
قالت المعتزلة: هذا ليس على حقيقة التكذيب؛ ولكن على التقصير والتفريط في أمر الله تعالى، والوقوع في مناهيه،؛ فيصرفون الآية إلى أصحاب الكبائر بارتكابهم الكبيرة يصيرون مكذبين ومتولين؛ لأنهم في ابتداء اعتقادهم التوحيد والإيمان اعتقدوا وفاء كل ما وقع به الأمر، ووفاء كل ما يليق به، والاتهاء عن جميع ما لا يليق به، فإذا ترك ذلك صار مكذبا لما اعتقد في الأصل وفاء ذلك.
لكن عندنا لا يصير بترك الوفاء مكذبا؛ لكن يصير مخالفا لما وعد واعتقد.
واستدلت المرجئة الذين لا يرون العذاب إلا أهل الشرك والكفر بهذه الآية يقولون: إنه لا يصلاها إلا الذي كذب وتولى، والمسلم وإن ارتكب الكبيرة أو الصغيرة فهو ليس بمكذب ولا متولٍّ.
ولكن تأويل الآية عندنا في الكفرة، ليست في أهل التوحيد والإيمان.
ثم يحتمل قوله: { لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } في باب ودرك دون درك وباب، فإن لكل فريق دركا، قال الله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [النساء: 145]، وهذا كما قال: { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [الغاشية: 6]، وقال في آية أخرى: { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [الحاقة: 36]؛ فيكون الضريع الذي ذكر في باب ودرك منها، والغسلين في باب آخر، فجائز على هذا ألا يصلى ذلك الدرك إلا الأشقى، فأما يجوز أن يكون لصاحب الكبيرة درك خاص.
وأما ما ذكروا أن أصحاب الكبائر قد أوعدوا وخوفوا بمواعيد شديدة، فلسنا ننكر المواعيد لهم، وأنهم يعذبون، ولكن نقول: لا يكونون في الدركات التي فيها الكفار إن أدخلوا في النار.
وجائز - أيضا - أن يعذبوا بعذاب سوى العذاب الذي ذكر بالنار والتظلي.
وعندنا: هم في مشيئة الله - تعالى - إن شاء عذبهم وإن شاء تجاوز عنهم، وخلى عنهم سبيلهم، وأما النار التي ذكر بصفة التلظي فهي للكفار، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ }:
أخبر أنه يجنب النار عن الأتقى ويقيه عنها.
ثم فيه دلالة أنه إنما يجنبها ويقيها بالأعمال التي يعملها؛ فدل أن لله - تعالى - في أفعالهم صنعا، حيث أضاف الوقاية إليه والتجنب عنها، وهوة كقوله:
{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 201].
وقوله - عز وجل -: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ }.
أي: ما لأحد عند الله تعالى من نعمة يجزى بها ولا بد [أن] يستحق الثواب بها، لكن إذا أدى نعمة من نعم الله - تعالى - التي أعطاها إياه لغيره؛ ابتغاء وجهه، وطلب رضاه - يجزيه بفضله؛ كأنه كانت له عنده نعمة يجزى بها.
والثاني: يحتمل أن هذا صلة قوله: { يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ }، أي: يتصدق ويتزكى؛ لابتغاء وجه الله - تعالى - على من ليس عنده نعمة ويد يجازيه بها وينفق عليه جزاء لصنيع قد سبق منه في حقه؛ كأنه يقول: لا يعطي الزكاة أحداً عن مجازاة [لما] سبق منه إليه من نعمة؛ إنما أعطاها له لا مجازاة، ولكن لله تعالى خالصا.
وفيه دليل ألا يعطي الرجل زكاة ماله من عنده له نعمة أو منة؛ لأنه يخرج ذلك مخرج الإعطاء ببدل.
وقوله - عز وجل -: { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ }، أي: يرضى بالذي يجزى به، ويساق إليه من الثواب. وحرف الـ"سوف" والـ "عسى" من الله تعالى واجب؛ كأنه يقول: يعطيه حتى يرضى.
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية - وهي قوله عز وجل: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } - في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.
وقال بعضهم: هذه الآية نزلت في أبي الدحداح - رضي الله عنه - طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه نخلة - إلى آخر القصة.
وقال بعض أهل الأدب: تردى في النار، أي: سقط، ويقال: تردى: تفعل، من الردى، وهو الهلاك، [و]
{ إِذَا تَجَلَّىٰ } [الليل: 2]: إذا بدا، واليسرى من التيسير، والعسرى من التعسير، والله أعلم.