التفاسير

< >
عرض

إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا
١
وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا
٢
وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا
٣
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا
٤
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا
٥
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ
٦
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
٧
وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ
٨
-الزلزلة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا }:
قد ذكرنا أن حرف { إِذَا } إنما يذكر عن سؤال سبق منهم؛ كأنه سألوا عن الوقت الذي كانوا يوعدون فيه، وإنم لم يذكر عن السؤال؛ لأنه قد يكون في الجواب بيان السؤال، وفي السؤال بيان الجواب، وإن لم يذكر، فعند ذلك قال: { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَالا }، أخبرهم عن أحوال يوم القيامة والحساب، ولم يخبرهم عن وقتها، وقد ذكرناه في غير موضع.
ثم قوله - عز وجل -: { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا }، أي: حركت الأرض تحريكا شديداً؛ لهول ذلك اليوم، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: جائز أن تكون تتزلزل وتتحرك؛ حتى تلقي ما ارتفع منها من الجبال الرواسي في الأودية، حتى تستوى الأرض، لا يبقى فيها هبوط ولا صعود، كقوله - تعالى -:
{ لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [طه: 107].
وجائز أن يكون قوله: { زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ }، أي: تتزلزل، وتتحرك؛ لتغير الجبال الرواسي حتى تصير كما ذكر:
{ يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [القارعة: 4-5]. وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23] وإذا فنيت وتلاشت بقيت الأرض مستوية على ما ذكر.
ويحتمل أن تكون تتزلزل وتتحرك؛ حتى تصير غير تلك؛ كقوله - تعالى -:
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ... } [إبراهيم: 48].
ويحتمل أن يكون تبديلها وتحريكها ومدها هو تغير صفاتها؛ على ما ذكرنا في الوجهين الأولين.
قال الزجاج: لا تصح هذه القراءة؛ لأن الزلزال من المضاعف، والمضاعف إنما يكون بالخفض مصادرها، أما من الأسماء قد يكون نصبا؛ كقوله تعالى:
{ مِن صَلْصَالٍ } [الحجر: 26]، ونحوه، والزلزال، مصدر؛ فيكون الأصل المطرد فيه هو الكسر، والنصب يكون نادار، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا }.
أي: أحمالها؛ لهول ذلك اليوم، وقال في آية أخرى:
{ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [الانشقاق: 4]، ثم يحتمل { وَأَخْرَجَتِ } { وَأَلْقَتْ } ما فيها من الموتى من أول ما دفن فيها من كل شيء من الحيوان وغيرها، إلى آخر ما يجعل فيها من الكنوز وغيرها مما يحتمل الحساب، ومما لا يحتمل من البشر، وجميع الممتحنين وغيرهم.
ويحتمل: أخرجت أثقالها: الممتحنين خاصة: ممن يحاسبون، ويثابون، ويجزون.
وقوله - عز وجل -: { وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا }.
أي: قال الكافر: ما لها تتحرك؟ فقال بعضهم: أحمق في الدنيا، وأحمق في الآخرة؛ حيث يسأل الأرض ما لها تتزلزل وتتحرك؟ يظن أنها بنفسها تفعل ذلك لا لفزعة ما ترى من أهوال ذلك اليوم وتغيير أحوالها؛ على ما لم ينظر في الدنيا في الآيات والحجج حتى يقبلها، ويخضع لها.
وقال بعضهم: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه يقول: { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا }، و{ وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا }، تشهد وتخبر بما عمل على ظهرها.
ثم إخبارها يخرج على وجوه:
أحدها: ما قاله أهل التأويل: إنها تخبر وتحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، أو طاعة أو معصية.
لكن لا يحتمل إخبارها الخير؛ لأنها إنما تشهد عليهم؛ لإنكار أهل الكفر ما كان منهم من فعل الكفر، والمعصية، وأما أهل الجنة فإنهم يكونون مقرين بالخيرات، والله - تعالى - يصدقهم على ذلك، والله أعلم.
وكذلك ما ذكر من شهادة الجوارح إنما تشهد عليهم على ما ينكرون من الشرك والكفر وغير ذلك من المعاصي؛ فعلى ذلك التأويل يكون إخبارها على حقيقة النطق والكلام.
وقال بعضهم: إخبارها: ما ذكر من تزلزلها وتحركها، والأحوال التي تكون فيها هو تحديثها وأخبارها التي تكون منها.
وقال بعضهم يومئذ تبين وتقع أخبارها التي أخبروا في الدنيا فكذبوها، يومئذ يتبين لهم ذلك، ويقع لهم مشاهدة عيانا من الحساب والثواب والعقاب، وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها" .
وقوله - عز وجل -: { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا }:
من قال بأن أخبارها من شهادتها بما عملوا على ظهرها، ويكون تأويله قوله - تعالى -: { أَوْحَىٰ لَهَا }، أي: أذن لها ربها بالشهادة؛ فتشهد.
ومن قال: إخبارها هو تزلزلها وتحركها والأحوال التي تكون منها يقول على إسقاط { لَهَا } يقول: { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا }، أي: فعل ذلك بها، والوحي قد يكون الوحي والإلهام والأمر، ويستعمل فيما يليق به.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ }: يحتمل صدور الناس من وجهين: أحدهما: يصدرون من قبورهم إلى الحساب؛ ليروا كتابة أعمالهم، أي: ليروا ما كتب من أعمالهم التي عملوا في الدنيا، ويحتمل صدورهم على ما أعد لهم في الآخرة من الثواب العقاب؛ فعلى هذا التأويل؛ ليروا [جزاء أعمالهم] التي عملوا في الدنيا، كقوله - تعالى -:
{ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [الشورى: 7]، وقوله - تعالى -: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً... } [الزمر: 71] هذا تفسير قوله: { أَشْتَاتاً }.
وقوله - عز وجل -: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }:
قال بعضهم: يرى الكافر ما عمل من خير في الدنيا، وأما في الآخرة فلا يرى؛ لأنه لا يؤمن بها، ولا يعمل لها؛ كقوله - تعالى -:
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ... } [الإسراء: 18]، والمؤمن يرى ما عمل من شر في الدنيا، وما عمل في الآخرة؛ وعلى ذلك روي في الخبر "أن أبا بكر [الصديق] - رضي الله عنه - كان جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية؛ فقال أبو بكر [الصديق]: يا رسول الله: كل من عمل منا شر يراه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يرون في الدنيا مما يكرهون فهو من ذلك، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة" .
وجائز أن يكون قوله - تعالى -: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } و{ شَرّاً يَرَهُ }، على الإحصاء والحفظ؛ كقوله - تعالى -: { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا... } [الكهف: 49] أي: لا يذهب عنه شيء قليل ولا كثير حتى الذرة.
ويحتمل وحها آخر، وهو أن قوله - تعالى -: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ... } اي: من يعمل من المؤمنين مثقال ذرة خيرا يره في الآخرة، ومن يعلم من الكفار مثقال ذرة شرا يره في الآخرة؛ لأن الله - تعالى - قد أخبر في إير آي من القرآن أنه يتقبل حسنات المؤمنين، ويتجاوز عن سيئاتهم؛ كقوله - تعالى -:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 7]، ونحو ذلك من الآيات.
وقوله: { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ليس على إرادة حقيقة الذرة؛ولكن التمثيل.
ثم قبل من إخبار الأرض وما ذكر من شهادة الجوارح: أن كيف احتمل ذلك، وهي أموات، والموات لا علم لها؟ فجائز أن يكون الله - تعالى - يجعل لها علما، وينطقها بذلك، وأن لها بذلك علما على جعلها آية.
ثم في قوله - تعالى -: { لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ } دلالة أن قوله - تعالى -:
{ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [التوبة: 6]، وقوله: "لا تسافروا بالقرآن [إلى] أرض العدو"، وقول الن اس: "نقرأ كلام رب العالمين"، و"في المصاحف قرآن" ألا يراد به حقيقة كون كلام الله - تعالى - في المصاحف، ولا حقيقة كون القرآن فيها والسفر به، ولا حقيقة سماع كلامه، ويكون على ما أراد من سماع ما به يفهم كلامه، أو يسمع ما يعبر به عن كلامه، وكذلك يكون في المصاحف ما يفهم به كلامه، أو ما يعبر به عن كلامه؛ على ما ذكر من رؤية الأعمال، وأعين الأعمال لا ترى، ولكن يرى ما يدل عليها، وهو المكتوب من أعمالهم في الكتب التي فيها أعمالهم؛ فعلى ذلك هذا، [والله أعلم بالصواب].