التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً
٨٣
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً
٨٤
فَأَتْبَعَ سَبَباً
٨٥
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً
٨٦
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً
٨٧
-الكهف

حاشية الصاوي

قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ } أي المشركون بأمر اليهود، فاليهود سبب في السؤال، وإن لم تقع منهم المباشرة له، فصح قول المفسر لليهود. قوله: { عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ } لقب بذلك لما قيل: إن له قرنين صغيرين في رأسه، وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن، وقيل لأنه ملك فارس والروم. قوله: (اسمه الإسكندر) أي وهو الذي بنى الإسكندرية وسماها باسمه. قوله: (ولم يكن نبياً) أي على الصحيح، وإنما كان ولياً فقط، وما يأتي مما يوهم نبوته، فمؤول ومحمول على الإلهام والإلقاء في القلب، وذلك غير مخصوص بالأنبياء، واسكندر هذا من أولاد سام بن نوح، وكان ابن عجوز ليس لها غيره، وكان أسود اللون، وكان على شريعة إبراهيم الخليل، فإنه أسلم على يديه ودعا له، وأوصاه بوصايا، وكان يطوف معه، وكان الخضر وزيره وابن خالته، وكان يسير معه على مقدمة جيشه، وهذا بخلاف ذي القرنين الأصغر، فإنه من ولد العيص بن إسحاق، وكان كافراً، عاش ألفاً وستمائة سنة، وكان قبل المسيح بثلاثمائة سنة, وفي القرطبي قال وهب بن منبه: كان ذو القرنين رجلاً من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، كان اسمه إسكندر، فلما بلغ كان عبداً صالحاً، قال الله تعالى، أي على لسان نبي كان موجوداً أو بإلهام: يا ذا القرنين إني باعثك، أي سلطاناً إلى أمم الأرض، وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كلها، وأمتان بينهما عرض الأرض كلها، وأمم في وسط الأرض منهم: الجن الإنس ويأجوج ومأجوج، فأما اللتان بينهما عرض الأرض، فأمة في قطر الأرض تحت الجنوب ويقال لها هاويل، وأمة في قطر الأرض الأيسر ويقال لها تأويل، وأما اللتان بينهما طول الأرض، فأمة عند مطلع الشمس يقال لها منسك، وأمة عن مغرب الشمس يقال لها ناسك، فقال ذو القرنين: إلهي لقد ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم، بأي قوة أكاثرهم، وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ وكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس لي قوة؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك، أشرح لك صدراً فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهماً فتفقه كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة، فيكونان جنداً من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك، فلما قيل له ذلك، سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس، لأنها كانت أقرب الأمم منه، وهي ناسك، فوجد جنوداً لا يحصيها إلا الله، وقوة وبأساً لا يطيقه إلا الله تعالى، وألسنة مختلفة، وأهواء مشتتة، فكاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاث عساكر من جنود الظلمة، قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور، فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به، ومنهم من صدَّ عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة، فغشيتهم من كل مكان، فدخلت في أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم، وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وهاجروا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله بصوت واحد: إنا آمنا، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمماً عظيمة، فجعلهم جنداً واحداً، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه والنور أمامه يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض الأيمن، وهي هاويل، وسخر الله له يده وقلبه وعقله ونظره، فلا يخطئ إذا عمل عملاً، فإذا أتوا مخاضة أو بحراً، بنى سقفاً من ألواح صغار أمثال النعال، فيضمها في ساعة، ثم يحمل عليها من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار، فتقها ودفع إلى كل رجل لوحاً فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل، ففعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، فأخذ جيوشاً منهم، فانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى، حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنوداً، كفعله في الأولى، ثم كر مقبلاً، حتى أخذ بناحية الأرض اليسرى يريد تاويل، وهي الأرض التي تقابل هاويل، بينهما عرض الأرض ففعل فيها كفعله فيها قبلها، ثم عطف على الأمم التي وسط الأرض، من الإنس والجن ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق، مما يلي منقطع الترك نحو المشرق، قالت أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين، إن بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله كثيرين، ليس فيهم مشابهة للإنس، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون دواب الأرض كلها، من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض، وليس لله خلق تنمى نماءهم في العام الواحد، فإذا طالت المدة، سيملأون الأرض ويخرجون أهلها منها، فهل نجعل لك خرجاً، على أن تجعل بيننا وبينهم سداً، إلى آخر ما يأتي في الآية، وبالجملة فقد ملكه الله ومكنه ودانت له الملوك، فقد روي أن الذين ملكوا الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران: نمروذ، وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس وهو المهدي.
قوله: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ } أي بالتصرف فيها حيث شاء. قوله: (طريقاً) أي كآلات السير وكثرة الجنود. قوله: (إلى مراده) أي وهو جميع الأرض. قوله: { فَأَتْبَعَ سَبَباً } بالتشديد والتخفيف، قراءتان سبعيتان. قوله: (موضع غروبها) أي فالمراد أنه بلغ آخر العمارة من الأرض ووصل إلى ساحل البحر المحيط، فلما لم يبق قدامه شط بل مياه لا آخر لها، رأى الشمس كأنها تغرب فيه، وسماه الله عيناً، لأنه بالنسبة إلى ما هو أعظم منه في علم الله كالعين، وإن كان عظيماً في نفسه. قوله: { حَمِئَةٍ } بالهمز بدون ألف، وبألف بعدها ياء، قراءتان سبعيتان، فأما الأولى فهي من الحمأة، وهي الطين الأسود. وأما الثانية فهي اسم فاعل من حمى يحمي. والمعنى في عين حارة، ولا تنافي بين القراءتين، لأن العين جامعة بين الوصفين: الحرارة وكون أرضها من طين. قوله: (وغروبها في العين) الخ، جواب عما يقال: إن الشمس في السماء الرابعة، وهي قدر كرة الأرض مائة وستين مرة، فكيف تسعها عين في الأرض تغرب فيها، فأجاب: بأن هذا الوجدان باعتبار ما رأى لا حقيقة، كما يرى راكب البحر الشمس طالعة وغاربة فيه، قوله: (كافرين) أي وكانوا في مدينة لها اثنا عشر ألف باب، كانت على ساحل البحر المحيط، وقوتهم ما يلفظه البحر من السمك، وكان لباسهم جلود الوحوش.
قوله: { قُلْنَا } أي بألهام. قوله: (بالأسر) أي وسمي إحساناً بالنسبة للقتل. قوله: { أَمَّا مَن ظَلَمَ } أي استمر على ظلمه. قوله: { ثُمَّ يُرَدُّ } أي في الآخرة قوله: (بسكون الكاف وضمها) أي فهما سبعيتان. قوله: (أي لجهة النسبة) أي نسبة الخبر المقدم، وهو الجار المجرور، إلى المبتدأ المؤخر وهو الحسنى، والتقدير فالحسنى كائنة له من جهة الجزاء.