التفاسير

< >
عرض

شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

حاشية الصاوي

قوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ } خبر لمبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله تلك الأيام، واعلم أن اسماء الشهور أعلام أجناس ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون لأنه من الرمض وهو الأحراق لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها وسمي الشهر شهراً لاشتهاره لمنافع الناس في دينهم ودنياهم، وسيأتي ايضاحه في قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } [البقرة: 189]. قوله: { ٱلْقُرْآنُ } هو لغة من القرء وهو الجمع واصطلاحاً اللفظ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته للإعجاز بأقصر سورة منه. قوله: (في ليلة القدر منه) أي فقد حوى رمضان مزيتين: نزول القرآن فيه ووجود ليلة القدر به، وليلة القدر به هي المعنية بقوله تعالى: { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3]. والحاصل أن جبريل تلقاه من اللوح المحفوظ ونزل به إلى السماء الدنيا فأملاه للسفر فكتبته في الصحف على هذا الترتيب ومقرها بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به على النبي في ثلاث وعشرين سنة مفرقاً على حسب الوقائع، فجبريل أملى للسفرة ابتداء وتلقى عنها انتهاء، والحكمة في نزوله مفرقاً تثبيته في قلبه وتجديد الحجج على المعاندين وزيادة إيمان للمؤمنين، قال تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [الفرقان: 32-33] وقال تعالى: { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } [الأنفال: 2] وقال تعالى: { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [الإسراء: 106] وتلك الليلة التي نزل فيها القرآن ليلة أربع وعشرين. واعلم أن ليلة القدر تكون في رمضان وقد تنتقل عنه لغيره لكن الغالب كونها في العشر الأواخر منه، والغالب كونها في الأوتار هذا مذهب مالك، وذهب الشافعي إلى أنها لا تنتقل عن رمضان بل هي ملازمة له، والغالب كونها في العشر الأواخر منه، والغالب كونها في الأوتار خصوصاً إذا صادف الوتر ليلة جمعة قوله: (هاديا) يصح أن يبقى على مصدريته والوصف به مبالغ، ويصح أن يكون على حذف مضاف أي ذو هدى على حد: زيد عدل قوله: (من الضلالة) أي الكفر.
قوله: { وَبَيِّنَاتٍ } معطوف على هدى من عطف الخاص على العام، لأن الهدى بعضه ظاهر واضح كآية الكرسي والإخلاص وغير ذلك، وبعضه غير واضح، قال تعالى:
{ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران: 7] إلى أن قال: (كل من عند ربنا)، فالإيمان بكل آية هدى واضحة أو لا. قوله: (مما يفرق بين الحق والباطل) أي فيه آيات بينات مصحوبة بالأدلة القطعية التي تقنع الخصم كقوله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران: 190]. وقوله تعالى: { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] الآيات. وعطف الفرقان على الهدى من عطف الخاص على العام فكل أخص ما قبله الهدى صادق بالواضح وغيره كان معه دليل أم لا، والبينات من الهدى صادقة بوجود الحجج معها أم لا، والفرقان هو الآيات البينات التي معها حجج.
قوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ } إن كان المراد به الأيام فالمعنى شهد بعضه وإن كان المراد به الهلال، فالمعنى علمه إما أن يكون رآه أوثبت عنده، وقوله: { فَلْيَصُمْهُ } الشهر بمعنى الأيام، وعلى كل ففيه استخدام على كل حال لأنه ذكر الإسم الظاهر بمعنى وأعاد الضمير بمعنى آخر، والخطاب للمكلف القادر الغير المعذور. قوله: { مَرِيضاً } أي مرضاً شديداً يشق معه الصوم. قوله: { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } أي سفر قصر وتلبس به قبل الفجر، والمعنى فأفطروا فعليهم عدة. قوله: (بتعميم من شهد) إي فإن لفظ من يعم المسافر وغيره والمريض وغيره.
قوله: { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } عطف لازم على ملزوم. قوله: (في المرض والسفر) أي وما والاهما من الأعذار المبيحة للفطر التي نص عليها الفقهاء. قوله: (في معنى العلة أيضاً للأمر بالصوم) أي فهو علة لأمرين الأول جواز الفطر للمريض والمسافر، الثاني التوسعة في القضاء فلم يجب زمن معين ولا تتابع ومبادرة. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي عدة صوم رمضان) يحتمل أن المعنى من جهة قضائه أي أردت بكم اليسر لتكلموا قضاءه إذا فاتكم لعذر، فإذا فاتكم شهر رمضان مثلاً فاقضوا شهراً إن كاملاً فكاملاً وإن ناقصاً فناقصاً ويحتمل أن المعنى من جهة صوم رمضان الحاضر، أي أردت بكم اليسر لتكملوا عدة رمضان ولا تنقصوها إلا لعذر كمرض وسفر فلا بأس بالفطر لذلك، وهذا مرتب أيضاً على قوله يريد الله بكم اليسر، فالمعنى أبحت لكم الفطر في السفر والمرض لإرادة اليسر بكم وكلفتكم بالصوم مع اليسر وأبحت لكم الفطر في المرض والسفر لتكمل منكم العدة إما في رمضان أو أيام آخر.
قوله: { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ } أي يوم العيد وهو يوم إكمال العدة وبينت السنة كيفية التكبير. قوله: (على ذلك) أي على التكليف مع اليسر. قوله: (وسأل جماعة) هذا إشارة من المفسر لسبب نزول الآية. قوله: (فنناجيه) أي نسارره أي ندعوه سراً ولا نجهر بالدعاء. قوله: (فنناديه) أي ندعوه جهراً والفعلان يصح فيهما النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لوقوعهما في جواب الإستفهام والرفع على الإستئناف أي فنحن نناجيه ونحن نناديه والأظهر الثاني لقول بعض شراح الحديث إن الرواية، واعلم أن هذا السؤال الواقع من الصحابة لا يقتضي جهلهم بالتوحيد، لأن الله منزه عن القرب والبعد الحسيين لأنهما من صفات الحوادث والله منزه عنها فمن ذلك حارت عقولهم في ذلك، فمقتضى إحاطته بجميع خلقه وتصرفه فيهم كيف يشاء يوصف بالقرب، ومقتضى تنزه عن صفات الحوادث جميعها يوصف بالبعد لأن صفاته توفيقية فالمسؤول عنه القرب أو البعد المعنويان لا الحسيان، وإلا لذمهم الله على ذلك ولم يضفهم له. قوله: (فأخبرهم بذلك) أي بأني قريب وقدر ذلك المفسر لعدم صحة ترتيب قوله فإني قريب على الشرط الذي هو إذا فإن جوابها لا بد وأن يكون مستقبلاً، وكون الله قريباً وصف ذاتي له لا ينفك عنه أزلاً ولا أبداً وإنما المستقبل الأخبار بذلك، وقوله بعلمي أي وسمعي وبصري وقدرتي وإرادتي ولم يقل بذاته وإن كانت الصفات لا تفارق الذات لأنه ربما يتوهم للقاصر الحلول فيقع في الحيرة، وأما من فني عن وجوده فلم يشهد إلا الله فقد زال عنه الحجاب فلا حيرة عنده إذ لم يشهد غيره، وإنما خص المفسر العلم بذلك لأنه من صفات الإحاطة ومن غلبة رحمته تعالى أنه وصف نفسه بالقرب وإلا فمقتضى التوحيد وصفة بالبعد أيضاً بالإعتبار المتقدم، فلو قال فإني بعيد لحصل اليأس من رحمته.