التفاسير

< >
عرض

مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
٤٦
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٤٧
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً
٤٨
-النساء

حاشية الصاوي

قوله: { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } خبر مقدم لمبتدأ محذوف، قدره المفسر بقوله قوم، وقوله: { يُحَرِّفُونَ } نعت لذلك المحذوف، وحذف المنعوت كثير إن تقدمه من التبعيضية على حد: منا ظعن ومنا أقام، أي فريق ظعن، وفريق أقام، وهذا الكلام تفصيل لبعض قبائحهم. قوله: { ٱلْكَلِمَ } أي الكلام. قوله: (من نعت محمد) أي من كونه أبيض مشرباً بحمرة، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير مثلاً، فقد حرفوه وقالوا أسود اللون، طويل جداً، حرصاً على الرياسة، وعلى ما يأخذونه من سفلتهم، ومن جملة ما غيروه آية الرجم بالجلد. ومن ذلك أنه في كتبهم من خالف محمداً خلد في النار، فغيروه وقالوا لن تمسنا النار إلا أربعين يوماً، مدة عبادة العجل.
قوله: { وَعَصَيْنَا } (أمرك) هذا بحسب باطنهم، وأما بحسب ظاهرهم فمعناه عصينا قول غيرك، وكذا قوله: { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي اسمع الخير منا غير سامع ما يؤذيك، وكذا قوله: { وَرَٰعِنَا } أي اشملنا بنظرك، فهذا من الكلام الموجه الذي يحتمل معنيين مختلفين في المدح والذم. قوله: (أي لا سمعت) يحتمل أن المعنى لا سمعت خيراً ولا سمعت شيئاً أصلاً بأن تبتلى بالصمم أو الموت. قوله: (وقد نهى عن خطابه بها) أي في قوله تعالى:
{ { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا } [البقرة: 104] قوله: (وهي كلمة سب بلغتهم) يحتمل أنها موضوعة للسب في لغتهم، ويحتمل أنهم قصدوا بها السب، وإن كانت تحتمل الدعاء بخير من الرعاية وهي الحفظ وبشر ومعناها الرعونة وهي الطيش في العقل، كأنهم يقولون اشملنا برعونتك. قوله: { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي صرفاً للكلام عن ظاهره، وأصله لويا، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء أدغمت في الياء، وهو في الأصل فتل الحبل، فشبه به الكلام الذي قصد منه غير ظاهره وطوي، ذكر المشبه به وهو الحبل المفتول، ورمز له بشيء من لوازمه وهو اللي، فإثباته تخييل.
قوله: { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } هذا جواب لو، واسم التفضيل ليس على بابه، ويحتمل أنه على بابه على حسب ما زعموا من أن حرصهم على الكفر يبقي لهم حظ الرياسة والدنيا التي يأخذونها من عوامهم وهو خير دنيوي. قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } صفة الموصوف محذوف، أي إلا فرياً قليلاً. قوله: (نمحو) أي نزيل ما فيها. قوله: (فقيل كان وعيداً بشرط) أي لأن رحمة الله تسبق غضبه، والحاصل أنه اختلف في ذلك الوعيد، هل كان معلقاً ثم ارتفع، وقيل إنه واقع لكن في آخر الزمان، وقيل إنه واقع في الآخرة، فيقومون من قبورهم ممسوخة صورهم، وما مانع من إرادتها كلها، وليس في القرآن وعيد لأمة محمد بتعجيل العقوبة مثل هذا، لأنهم بالغوا في الكفر وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (بشرط) أي وهو عدم إيمان أحد منهم، ويؤيده ما روي أن عبد الله وما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي، وكذا ما روي أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية على كعب الأحبار، فقال كعب الأحبار: يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها. قوله: (وقيل يكون) أي يحصل، وقوله: (قبل قيام الساعة) أي زمن عيسى. قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } إن وما دخلت عليه في تأويل مصدر أشاء له المفسر بقوله: (أي الإشراك) والمعنى أن الله لا يغفر للكافر إشراكاً أو غيره، فالمراد بالشرك الكفر، لا الشرك الأصغر الذي هو الرياء، فإنه من جملة الذنوب التي تغفر، وهذا رد على اليهود، حيث زعموا أن الشرك لا يضرهم لكون أجدادهم أنبياء، وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه. قوله: (من الذنوب) بيان لما. قوله: { لِمَن يَشَآءُ } (المغفرة له) أي إن مات من غير توبة، وإلا فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، هذا معنى قوه صاحب الجوهرة:

ومَنْ يَمُتْ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ فَأَمْرُهُ مُفَوَّضٌ لِرَبِّهِ

والغالب المغفرة، لأن فضل الله واسع، ورحمته تغلب غضبه، وكل ذلك ما لم يمت هديماً أو غريقاً أو مقتولاً ظلماً مثلاً، وإلا فيقوم ما ذكر مقام التوبة.