التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
٩٢
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً
٩٣
-النساء

حاشية الصاوي

قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } أي لا يسوع ولا يصلح لمنصف بالإيمان أن يقتل أخاه في الإيمان، والمعنى يبعد كل البعد، لأن شأن الإيمان الرأفة والرحمة بالإخوان، قال تعالى مدحاً في أصحاب رسول الله (أشداء على الكفار رحماء بينهم). قوله: { إِلاَّ خَطَئاً } الاستثناء منقطع لأن ما قبله محمول على العمد، والمعنى لكن قد يقع خطأ، ويصح أن يقع متصلاً، والمعنى لا ينبغي أن يقع القتل من المؤمن للمؤمن في حال من الأحوال إلا في حالة الخطأ. قوله: (مخطئاً) أشار بذلك إلى أن خطأ حال، إلا أنه مؤول باسم الفاعل. قوله: (من غير قصد) أي للضرب من أصله، أو ضرب من يجوز له ضربه فصادف غيره.
قوله: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } الخ، حاصل ما ذكره في الخطأ ثلاثة أقسام: لأن المقتول إما مؤمن ورثته وورثته مسلمون، أو مؤمن وورثته حربيون، أو معاهد، فالأول فيه الدية والكفارة وكذا الثالث، وأما الثاني ففيه الكفارة فقط، ومن إما اسم موصول مبتدأ وقتل صلتها، وقوله: { فَتَحْرِيرُ } خبره وقرن بالفاء لشبهه بالشرط، وإما اسم الشرط وقتل فعله، وقوله فتحرير جوابه والجملة خبره من حيث كونه مبتدأ. قوله: (عليه) أشار بذلك إلى أن قوله فتحرير مبتدأ خبره محذوف، ويصح أن يكون خبر المحذوف، والتقدير فالواجب عليه تحرير الخ، أو فاعل بفعل محذوف أي فيجب عليه تحرير.
قوله: { وَدِيَةٌ } معطوف على تحرير، والدية مصدر في الأصل أطلقت على المال المأخوذ في نظير القتل، وهو والمراد هنا، ولذا وصفها بمسلمة، وأصلها ودي حذفت الواو وعوض عنها تاء التأنيث. قوله: { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أصله يتصدقوا قلبت التاء صاداً وأدغمت في الصاد هو حال من أهله، والمعنى إلا متصدقين. قوله: (بأن يعفو) أي أهله وسمي العفو عنها صدقة تنبيهاً على فضله، لأن كل معروف صدقة. قوله: (أنها مائة من الإبل) هذا مخصوص بأهل الإبل، وأما على أهل الذهب فألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. قوله: (بنت مخاض) أي وهي ما أوفت سنة ودخلت في الثانية. قوله: (وكذا بنات لبون) أي وابن اللبون ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة. قوله: (وحقاق) الحقة ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، وقوله: (وجذاع) الجذعة ما أوفت أربع سنين ودخلت في الخامسة. قوله: (وأنها على عاقلة القاتل) أي وهو إن كان غنياً كواحد منهم عند مالك، وعند الشافعي ليس عليه شيء منها، وهذه دية الخطأ، وأما دية العمد فمغلظة من أربعة أنواع: بإسقاط ابن اللبون من كل نوع خمس وعشرون عند مالك، إلا إذا قتل الأب ابنه عمداً غير قاصد إزهاق روحه بأن لم يذبحه، فعليه ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، والخلفة: الناقة الحامل، والتغليظ عند الشافعي يكون بتلك الأنواع الثلاثة لا غير. قوله: (إلا الأصل والفرع) هذا مذهب الشافعي، وأما عند مالك فلا فرق بين الأصل والفرع وغيرهما، في أن كلاً منهما يدفع كغيره. قوله: (على الغني منهم نصف دينار) يؤخذ منه أن العاقلة غير محدودة بعدد، وهو مذهب الشافعي، وعند مالك تفرض الدية على ما زيد على ألف من أقاربه، وقيل على سبعمائة. قوله: { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ } أي بأن جاء من بلاد الكفر وأسلم عندنا ثم قتل خطأ. قوله: (حرب) بكسر الحاء أي محارب. قوله: { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ } الخ، أي بأن كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً. قوله: (وهي ثلث دية المؤمن) هذا مذهب الإمام الشافعي، وأما عند مالك فهو على النصف من الحر المسلم، كأنثى الحر المسلم. قوله: (وثلثا عشرها إن كان مجوسياً) هذا باتفاق بين مالك والشافعي، وأنثاه على النصف منه. قوله: (الرقبة) قدره إشارة إلى أن مفعول يجد محذوف. قوله: { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } يقال فيه من الإعراب ما قيل في { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }. قوله: (وبه أخذ الشافعي) أي ومالك. قوله: (المقدر) أي وتقديره تاب الله عليكم توبة، ويصح أن يكون مفعولاً لأجله، أي شرع لكم ذلك لأجل التوبة عليكم وهو الأحسن، إن قلت: إن الخطأ ليس بذنب فما معنى التوبة منه؟ أجيب: بأن ذلك لجبر الخلل الذي حصل منه في عدم إمعان النظر والتحفظ.
قوله: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } مقابل قوله من قتل مؤمناً خطأ، وقوله متعمداً أي عدواناً ليخرج المقتول قصاصاً أو حداً، كالزاني المحصن والمحارب. وسبب نزولها: أن رجلاً يقال له مقيس بن صبابة أسلم هو وأخوه هشام على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم إن مقيساً وجد أخاه مقتولاً في بني النجار، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل معه رجلاً يقال له فهر من بني مهران إلى بني النجار، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أنكم إذا عرفتم عين القاتل فسلموه لمقيس، وإن لم تعرفوه فأعطوا له الدية، فقالوا سمعاً وطاعة إنا لا نعرف عين القاتل وأعطوه مائة بعير! فلما ذهب من عندهم سول الشيطان لمقيس أن يقتل فهراً بدل أخيه، فتأخر عنه وضربه فقتله وركب بعيراً وساق باقيها راجعاً إلى مكة، وقال شعراً في ذلك:

قَتَلْتُ بِهِ فَهْراً وَأَحْمَلْت عَقْله سَرَاة بَني النَجَّارِ أَرْبَاب قَارِع
وَأَدْرَكْتُ ثَأْرِي وَاضْجَعْتُ تَوَسُّدا
وَكُنْتُ إلَى الأَصْنَامِ أَوَّل رَاجِع

فنزلت فيه الآية، لوما كان الفتح استثناه النبي ممن أمنه! فقتله الصحابة وهو متعلق بأستار الكعبة، فعلى هذا الخلود في الآية على ظاهره. قوله: { خَٰلِداً } حال من الضمير في جزاؤه. قوله: { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } معطوف على محذوف، والتقدير حكم الله عليه بذلك وغضب الله عليه. قوله: { وَلَعَنَهُ } عطف على { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } مرادف لأن اللعنة هي الغضب. قوله: (وهذا مؤول إلخ) يشرع في ذكر الأجوبة عن السؤال الوارد على الآية. وحاصله أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر الآية يقتضي أن جزاء القاتل عمداً الخلود في النار، ولو مات مؤمناً، وليس كذلك فأجاب المفسر عن ذلك بثلاثة أجوبة: الأول أنه محمول على المستحل لذلك، الثاني أن هذا جزاؤه إن جوزي، أي إن عامله الله بعد له، جازاه بذلك، وإن عامله بفضله فجائز أن لا يدخله النار، ولكن في هذا الجواب شيء، لأن فيه تسليم أنه إذا جوزي يخلد في النار، وهو غير سديد للقواطع الدالة على أنه لا يخلد في النار إلا من مات على الكفر، وقد أجاب البيضاوي بجواب آخر: أن يحمل الخلود على طول المكث، الثالث أشار له المفسر بقوله: (وعن ابن عباس الخ). قوله: (وأنها ناسخة) الأولى مخصصة، وكلام ابن عباس خارج مخرج الزجر والتشديد، وليس على حقيقته على مقتضى مذهب أهل السنة. قوله: (وسبق قدرها) أي في تفسير الآية التي قبلها. قوله: (أن بين العمد والخطأ الخ) سبق للمفسر أنه أدخله في الخطأ بقوله أو ضربه بما لا يقتل غالباً. قوله: (يسمى شبه العمد) أي فأشبه العمد من حيث تغليظ الدية بكونها من ثلاثة أنواع: ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، وأشبه الخطأ من حيث كونه لا قصاص فيه وهذا مذهب الشافعي، وعند أبي حنيفة لا يقتص من القاتل إلا إذا قتله بآلة محددة كسيف وبندق وإلا فيلزمه الدية، وعند مالك يقتص من القاتل إذا قتل بأي آلة ولو بضرب كف أو سوط لا بكمروحة. قوله: (في الصفة) أي من حيث كونها من ثلاثة أنواع: قوله: (في التأجيل) أي كونها على ثلاث سنين وقوله: (والحمل) أي كون العاقلة تحملها. قوله: (وهو) أي شبه العمد، وقوله: (أولى بالكفارة) أي فتجب وهذا مذهب الشافعي، وعند مالك ليس كالخطأ، بل تستحب الكفارة فقط. قوله: (ونزل لما نفر الخ) هذه رواية ابن عباس في سبب نزول الآية، روي عنه أيضاً أنها نزلت في رجل من بني مرة بن عون يقال له مرداس بن نهيك، وكان من أهل فدك، لم يسلم من قومه غيره! فلما سمعوا بسرية رسول الله صلى الله عليه وسلم هربوا وبقي ذلك الرجل، فلما رأى الخيل خاف أن لا يكونوا مسلمين، فالجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون، فعرف أنهم من أصحاب رسول الله، فكبَّر ونزل وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فتغشاه أساة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه، ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه الخب، فوجد رسول الله من ذلك وجداً شديداً، وكان قد سبقهم الخبز، فقال عليه الصلاة والسلام أقتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة هذه الآية، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فقال: كيف أنت بلا إله إلا الله يقولها ثلاث مرات، قال أسامة: فما زال رسول الله يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ، ثم استغفر له رسول الله وقال اعتق رقبة. وروي عن أسامة أنه قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، فقال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا.