التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
١١٢
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ
١١٣
قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١٤
قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ
١١٥
-المائدة

حاشية الصاوي

قوله: { إِذْ قَالَ } ظرف لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر، وهو كلام مستأنف لا ارتباط له بما قبله، لأن المقصود مما تقدم تعداد النعم على عيسى، والمقصود مما هنا إعلام هذه الأمة بما وقع لأمة عيسى من التعنّي في السؤال وما ترتّب عليه، وإن كان فيها نعمة لعيسى أيضاً، لكنها غير مقصودة بالذكر. قوله: { ٱلْحَوَارِيُّونَ } هم أول من آمن بعيسى. قوله: (أي يفعل) أي فأطلق اللازم وهو الاستطاعة، وأراد الملزوم وهو الفعل، ودفع بذلك ما يقال إن الحواريين مؤمنون، فكيف يشكون في قدرة الله تعالى. وشذ من قال بكفرهم كالزمخشري. قوله: (وفي قراءة) وهي سبعية أيضاً. قوله: (ونصف ما بعده) أي على التعظيم، قوله: (أي تقدر أن تسأله) أي فالكلام على حذف مضاف في هذه القراءة الثانية، والتقدير هل تستطيع سؤال ربك، وإنما قالوا ذلك خوفاً من أن تكون هذه المسألة كسؤال موسى الرؤية فلم تحصل، وكسؤال قومه الرؤية أيضاً فأخذتهم الصاعقة، وهذه القراءة للكسائي وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بها وتقول جل الحواريون عن كونهم يشكون في قدرة الله تعالى.
قوله: { مَآئِدَةً } هي ما يبسط على الأرض من المناديل ونحوها، وأما الخوان فهو ما يوضع على الأرض وله قوائم، وأما السفرة فهي ما كانت من جلد مستدير، فالخوان فعل الملوك، والمناديل فعل العجم، والسفرة فعل العرب، والمقصود هنا الطعام الذي يؤكل كل على خوان أو غيره، والمائدة إما من الميد وهو التحرك كأنها تميد بما عليها من الطعام، وعليه فهي اسم فاعل على أصلها، أو من مادة بمعنى أعطاه فهي فاعلة بمعنى مفعولة أي معطاة. قوله: { ٱتَّقُواْ } أي تأدبوا في السؤال، ولا تخترعوا أموراً خارجة عن المادة، فإن الأدب في السؤال أن تسأل أمراً معتاداً، ومن هنا حرم العلماء الدعاء بما تحيله العادة. قوله: (في اقتراح الآيات) أي اختراعها. قوله { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } جواب الشرط محذوف دل عليه قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }. قوله: { أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } قيل اقتياتاً وقيل تبركاً وهو المتبادر. قوله: (بزيادة اليقين) أي لأن الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين أقوى في الإيمان. قوله: (أي أنك) { قَدْ صَدَقْتَنَا } قدر المفسر اسم أن غير ضمير شأن وهو شاذ، فالمناسب أن يقول أن أن إذا خففت كان اسمها ضمير شأن. قوله: { قَدْ صَدَقْتَنَا } متعلق بالشاهدين والمعنى ونكون من الشاهدين عليها عند من لم يحضرها ليزداد من آمن بشهادتنا يقيناً وطمأنينة. قوله: { عَلَيْهَا } أي حين أبدوا هذه الأمور، فقام واغتسل وليس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره وقال اللهم ربنا الخ، وهذه الآداب لا تخص عيسى، بل ينبغي لكل داع فعلها، لأن إظهار الذل والفاقة في الدعاء من أسباب الإجابة. قوله: (أي يوم نزولها) أي وقد نزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً. قوله: { عِيداً } هو مشتق من العود وهو الرجوع لأنه يعود، وجمعه أعياد، وتصغيره عبيد، وكان قياسه أعواداً وعويداً، وإنما فعلوه ذلك فرقاً بينه وبين عود الخشب. قوله: (بدل من لنا) أي بدل كم كل. قوله: { وَٱرْزُقْنَا } أي انفعنا بها، وهو مغاير لما قبله لأنه لا يلزم من الإنزال انتفاعهم بها. قوله: { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } تتميم لما قبله على وجه الاستدلال، كأنه قال وارزقنا لأنك خير الرازقين، واسم التفضيل على بابه من حيث إن أسباب الرزق كثيرة والله خير من يأتي بالرزق لأنه الخالق والموجد له، وأما غيره فهو رازق باعتبار أنه سبب في الرزق وجار على يديه. قوله: { قَالَ ٱللَّهُ } أي على لسان ملك أو إلهاماً له. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: { بَعْدُ } مبني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. قوله: (بعد نزولها) إشارة إلى تقدير المضاف إليه. قوله: { لاَّ أُعَذِّبُهُ } الضمير عائد على العذاب، والمعنى لا يكون ذلك العذاب لأحد من العالمين من حيث شدته وقبحه، والجملة صفة لعذاباً. قوله: { مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ } أي عالمي زمانهم أو مطلقاً، والشدة في الدنيا والآخرة، لما قيل إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. قوله: (فنزلت الملائكة) روي أنها نزلت سفرة حمراء مدورة وعليها منديل بين غمامتين: غمامة من فوقها، وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين كلوا مما سألتم، فقالوا يا روح الله كن أنت أول من يأمل منها، فقال معاذ الله أن آكل منها يأكل منها ما سألها، فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا له أهل الفاقة والمرض والبرص والجذام والمقعدين فقال: كلوا من رزق الله، لكم الهناء ولغيركم البلاء، فأكلوا منها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة، وفي رواية سبعة آلاف وثلثمائة، فلما أتموا الأكل طارت المائدة وهم ينظرون حتى توارت عنهم، ولم يأكل منها مريض أو زمن أو مبتلي إلا عوفي، ولا فقيراً إلا استغنى، وندم من لم يأكل منها، فمكثت تنزل أربعين صباحاً متوالية، وقيل يوماً بعد يوم. قوله: (عليها سبعة أرغفة الخ) هذه أشهر الروايات، وفي رواية خمسة أرغفة، على واحد زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد وسمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك، تسيل دسماً، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها من أصناف البقول ما خلا الكراث، فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال ليس منهما، ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية، وفي رواية نزلت سمكة من السماء فيها طعم كل شيء. قوله: (خبزاً ولحماً) جمع بأن اللحم لحم سمك. قوله: (فخانوا وادخروا الخ) أي فسبب مسخهم خيانتهم وادخارهم أي مع كفرهم، وفي رواية أن سبب مسخهم أنه بعد تمام الأربعين يوماً من نزولها، أوحى الله إلى عيسى أن اجعل مائدتي هذه للفقراء دون الأغنياء، فتمارى الأغنياء في ذلك وعادوا للفقراء. قوله: (فمسخوا) أي فمسخ الله منهم ثلثمائة وثلاثين رجلاً باتوا ليلتهم مع نسائهم ثم أصبحوا خنازير، فلما أبصرت الخنازير عيسى بكت وجعل يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ولا يقدرون الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل أربعة ثم هلكوا.