التفاسير

< >
عرض

فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢٥
وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٢٦
-الأنعام

حاشية الصاوي

قوله: { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل خلقه في الأزل قسمين: شقي وسعيد، وجعل لكل أمة علامة تدل عليه، فعلامة السعادة شرح الصدر للإسلام، وقبوله لما يرد عليه من النور والأحكام، وعلامة الشقاوة ضيق الصدر، وعلامة قبوله لذلك، وجعل لكل قسم في الآخرة دار يسكنونها، فلأهل السعادة الجنة ونعيمها، ولأهل الشقاوة النار وعذابها، لما في الحديث "إن الله خلق خلقاً وقال هؤلاء للجنة ولا أبالي، وخلق خلقاً وقال هؤلاء للنار ولا أبالي" فذكر في هذه الآية علامة كل قسم، فإذا رزق الله العبد شرح الصدر وأسكنه حلاوة الإيمان، فليعلم أن الله أعظم عليه النعمة. وبضدها تتميز الأشياء. ومن اسم شرط، ويرد فعل الشرط، ويشرح جوابه. قوله: { يَهْدِيَهُ } أي يوصله للمقصود، وليس المراد الدلالة لأنها هي شرح الصدر.
قوله: { يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الشرح في الأصل التوسيع، والمراد هنا لازمه، وهو أن يقذف الله في قلب الشخص النور، حتى تكون أحواله مرضية لله، لأنه يلزم من الوسع قبول ما يحل فيه. قوله: (كما ورد في حديث) أي وهو أنه لما نزلت هذه الآية،
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له وينفتح، قيل فهو لذلك أمارة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت، وفي رواية قبل لقى الموت" .
قوله: { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } أي يمنعه عن الوصول، ويسكنه دار العقاب، ويطرده عن رحمته ومن اسم شرط، ويرد فعل الشرط، ويجعل جوابه، وجعل بمعنى صير، فصدره مفعول أول، وضيقاً مفعول ثان، وحرجاً صفته. والمعنى: أن من أراد الله شقاوته، وطرده عن رحمته، ضيق قلبه، فلا يقبل شيئاً من أصول الإسلام ولا من فروعه، ولو قطع إرباً إرباً، وعلامة ذلك إذا ذكر التوحيد نفر قلبه واشمأز، وإن نطق بلسانه كأهل النفاق، قال تعالى: { { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } [الزمر: 45] الآية. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي كميت وميت قراءتان سبعيتان. قوله: (شديد الضيق) أي زائدة، فلا يقبل شيئاً من الهدى أصلاً. قوله: (بكسر الراء صفة) أي اسم فاعل كفرح فهو فرح. قوله: (وصف به مبالغة) أي أو على حذف مضاف، أي إذا حرج على حد زيد عدل.
قوله: { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ } أي يتكلف الصعود فلا يستطيعه. قوله: (وفيهما إدغام التاء في الأصل) أي بعد قلبها صاداً فأصل الأولى يتصعد، وأصل الثانية يتصاعد، وهاتان القراءتان مع تشديد ضيقاً، وكسر راء حرجاً أو فتحها. وأما قوله: (وفي أخرى بسكونها) فهي قراءة من خفف ضيقاً ويفتح حرجاً فالمخفف للمخفف، والمشدد للمشددة. قوله: (لشدته عليه) أي لتعسر الإيمان عليه، فإن القلب بيد الله يسكن فيه أي الأمرين شاء، وليس مملوكاً لصاحبه، وحينئذ فلا ينبغي له أن يأمن لما هو في قلبه من الإيمان ومحبة الله ورسوله، ومن هنا علمنا الله طلب الهداية على سبيل الدوام مع كونها حاصلة بقوله:
{ { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] وبقوله: { { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران: 8] الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" . ولذا خاف العارفون ولم يسكنوا إلى علم ولا عمل، لما علموا أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، ولا يأمنون حتى تقبض أرواحهم على الإيمان، ولكن شأن الكريم، أن من تمم له نعمة الإيمان لا يسلبها منه، لأنه وعد منه وهو لا يخلف. قوله: (أي يسلطه) أي الشيطان وهو تفسير للجعل على التفسير الثاني، وأما تفسيره على الأول فمعناه يلقى ويصيب. قوله: (الذي أنت عليه) أي وهو الإسلام. قوله: { صِرَاطُ رَبِّكَ } شبه دين الإسلام بالصراط المستقيم لا اعوجاج فيه، واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية. قوله: (ونصبه على الحال المؤكدة للجملة) المناسب أن يقول المؤكد لصراط، لأن الحال المؤكدة للجملة عاملها مضمر، قال ابن مالك:

وإن تؤكد جملة فمضمر عاملها ولفظها يؤخر

فينافيه قوله: (والعامل فيها معنى الإشارة). قوله: (معنى الإشارة) المناسب أن يقول: والعامل فيها اسم الإشارة، باعتبار ما فيه من معنى الفعل وهو أسير. قوله: (فيه إدغام التاء في الأصل) أي بعد قلبها ذالاً. قوله: (وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون) أي المؤتمرون بأمره، المنتهون بنهيه، وهم الصالحون المتقون، فبقاء القرآن دليل على بقاء جماعة على قدم النبي بدليل هذه الآية { { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [الزمر: 23] ولا عبرة بمن يقول عدمت الصالحون، وربما قال أنا لم أر أحداً منهم. فقد قال ابن عطاء الله: أولياء الله عرائس مخدرة، ولا يرى العرائس المجرمون.